أمام هذا التدفق اللامنتهي لاستخدام أو توظيف كلمة “الحرية” في الإعلام بمختلف أنواعه، القديم والحديث، سيبدو أي حديث عن الحرية مملا وغير مجد ربما، خاصة وأنّنا في الشرق الأوسط نشاهد أكثر المعاني سوءًا لكلمة الحرية ، وأكثر الطرق بشاعة في توظيفها! فقد نجحت الأنظمة القمعية وبكل اقتدار وتفنن في تصوير “حرية” التعبير والرأي في مجال السياسة، على أنها الدمار والخراب وانعدام الأمن…إلخ. كما نجحت التيارات والمذاهب الدينية المختلفة، إلى تقديم الحرية على أنها عدم التزام بالضوابط الشرعية ومناداة إلى العري والتردي الأخلاقي. وكذلك نجح “المحافظون” في مختلف المجتمعات العربية إلى تقديم الحرية على أنها “فيروس” سيتسبب انتشاره إلى غياب كافة هوية المجتمع وأصالته وعراقته… إلخ من هكذا نوع من الأمثلة، التي أكتفي بطرحها هنا بصورة عامة مع الإشارة إلى مظاهر “قمع” السلطة، الدين والمجتمع، لأي صوت مختلف معارض، حتى تطوّر هذا الإشكال، ليصل إلى النخب المثقفة والمتعلمة في كل مجال، والتي بدورها مارست القمع مستندة على “الأمن” و”الدين” و”الأعراف والتقاليد”، إمّا كل حجة على حدة، وإما جميعهن سواء. ومن هنا أودّ التطرق إلى اختبار وتجريب مفهوم الحرية في مجتمعاتنا، عبر استخدام عدد من الأدوات كمعايير للقياس والتحقق، ولن أستطيع الذهاب بعيدا عن المجالات الثلاث التي حددتها سابقا.
- السياسة:
الأنظمة السياسية عادة ما تعتمد على عكازّ الأمن لبسط سيطرتها على كافة أطراف الدولة، وإدارة شؤونها. وهذا الأمر في صورته العامة مبرر تماما، أي من حقّ المواطن أن يعيش في بلد آمن، ولكن، عبارة مثل “العيش في بلد أو مكان آمن” عبارة فيها الكثير من التضليل، فلا يصح مطلقا التعامل مع الفرد وكأنه “ملكية عامة/خاصة” يحق للدولة أو النظام التحكم فيه، أي التحكم في خياراته وأسلوب عيشه وتحديد طريقة تفكيره. بمعنى، أن مسألة الأمن والأمان يتضح معناها الحقيقي، حينما يمارس المواطن حقّه في التعبير والرأي، مهما بلغ شدة اختلافه مع المؤسسة الرسمية أو النظام، وكلما ازدادت حدّة اختلافه كلما ازدادت مسؤلية النظام في توفير المناخ الآمن له عبر حماية حقّه في التعبير وحمايته كذلك من تداعيات هذه الممارسة من الآخر، سواء كان هذا الآخر السلطة الأمنية نفسها التي يستند النظام عليها في بسط سيطرته، أو من المؤسسة التي يعمل بها أو حتى من المجتمع المختلف معه في الرأي.
أحد أوجه التضليل العام، التي تتبعها الأنظمة، هو استخدام مصطلح “خيار الأغلبية”، فاستخدام هذا المصطلح عادة ما يكون نتيجة لعملية ديمقراطية متعلقة باختيار ما، مثل رئيس، برلمان، دستور،،، إلخ من الأمثلة التي من الممكن الاستشهاد بها للدلالة على مصطلح خيار الأغلبية. لكن الأنظمة الاستبدادية عادة ما تستخدم هكذا مصطلح للدلالة على مدى شرعيتها، بالتالي شرعية أي قرار “قمعي” تتبعه ضد من يختلف معها، وتحويل معنى المصطلح ليكون أقرب لمسابقات “الإكس فاكتور” أو “جوت تالنت” وغيرها من هذه النوعية من المسابقات، التي يكون الفائز فيها حسب أكثر نسبة تصويت.
كما أن السلطة في العديد من بلدان الشرق الأوسط، ومنها “عُمان”، نجحت في استغلال فئة أو شريحة واسعة من المثقفين، وتقديمهم كواجهة حضارية لها بما يفيد اهتمام السلطة بتنمية العمل الثقافي، وبناء الجانب الحضاري في الإنسان. ولكن، الغريب أن تجد هذه الشريحة هي المتصدر الرئيس لمشهد الدفاع عن النظام، وسياساته، والتبرير لأي عمل قمعي يقوم له، بل والتغطية كذلك على أي خطأ أو انتهاك حقوقي تمارسه السلطة وتقديمه على أنه عمل يتماشى مع رغبة العامّة من الشعب، وأنه صورة متبعة في أي بلد حضاري متقدم آخر، لحفظ الأمن والأمان، حتى أصبحت حرية التعبير أو حرية انتقاد النظام الحاكم جريمة هي الأخرى.
ودون الإطالة أكثر في هذا الجانب، أعتقد أن الطريقة الأمثل عادة في قياس هذا الجانب، تتم عبر مراقبة فعل/ ردات فعل الأنظمة اتجاه أي ممارسة تمثل حرية التعبير والرأي، مثل:
– المظاهرات، الاعتصامات أو أي نوع من أنواع التجمعات السلمية، التي يكون الهدف منها الاعتراض أو الاحتجاج على سياسة ما في إدارة الدولة.
– الكتابة، النشر والعمل الإعلامي. حيث يجب أن نرى كذلك ونشاهد مدى ردة فعل الأنظمة اتجاه المقالات أو المقابلات أو أي نشاط اعلامي عكس اتجاه الأنظمة.
- الدين:
مما لا شكّ فيه، أن ما يسمى بالتراث الديني، أغلبه قائم على اجتهادات شخصية، وأراء تمثل شخوص قائليها، وليس الفكرة التي ينتمون إليها. كما أنّ أيّة أحداث وقعت في فترات تاريخية سابقة، خاصة في المراحل التي شهدت تقدما حضاريا واقتصاديا وعسكريا في الدولة الإسلامية، هذا لا يعني بالضرورة أنها صحيحة بمجملها أو مشروعة، فقط لأنها في عصر شهد تفوّق الدولة الإسلامية. ولعلّ البحث والتمحيص في الأحداث التي وقعت سواء في عصر الرسول محمد أو فترة الخلافة الراشدية من بعده، والدول التي نشأت بعد ذلك، وقراءة كافة هذه الأحداث بحيادية وتحليلها، أحد أهم الطرق لكسر المحظور، وإيجاد أرضية واسعة لحرفنة هذه العملية النقدية، لتشمل حتى القرآن والحديث، وما إلى ذلك من عملية نقدية تسقط صفة القدسية عن النص أيّا كانت صفته، وتعطي قيمة للإنسان أكثر مهما كان انتماؤه، وهذا ما نفتقده بشدة في الكثير من المجتمعات، للأسف منها الإسلامية كذلك.
كما أن انتقاد الأحداث والشخصيات المعاصرة، خطوة مهمة مكملة للخطوة السابقة، فلا بد من توفير وسيلة انتقاد آمنة مجابهة لأي نشاط ديني حالي، يستند على خصوصيات الناس وأفعالهم وتصرفاتهم في تمرير أجندات أو أفكار مذهب ما بعينه، كما يختصر مفهومي الثواب/ العقاب على تصرفات الناس الخارجة عن أعراف المجتمع، وتوظيف حكايات أو مواقف من التاريخ من أجل تقييد حريات الناس، وفرض مفهوم “عيش” محدد في ظاهره هو في مصلحة الناس في دنياهم وآخرتهم، وفي باطنه هو توسيع لرقعة سيطرة “رجال الدين” على حياة الناس وتأمين مكانة محصّنة من انتقاد أي معارض لها. لذلك، لا يجب التهاون عن تناول أي شخصّية، مثل المفتي أو الفقيه أو الداعية… إلخ، وهذا لا يعني تجهيز الأحكام المسبقة، وتغليف أي رفض للآخر على أنه عملية انتقادية، بل الفكرة تتمحور في في نقاش الأفكار فقط، وعدم السماح لأفكار شخص ما أن تتحكم بمظاهر الحياة العامة للناس، وكذلك نزع أي صفة تقديس عن رجل دين.
أدوات الاختبار ومعايير القياس:
– نقد الرواية التاريخية في كافة المراجع المعتمدة، بداية من القرآن والحديث إلى كتب التفاسير القديمة والحديثة.
– نقد مظاهر عيش المجتمعات، وتحديد أصل هذه الظواهر، إن كانت تنتمي لعادات مجتمع، أو سبب فرضها إن كانت مظاهر فرضها الدين…إلخ.
– تناول الشخصيات المتصدرة للمشهد التاريخي أو المعاصر، الفقهاء والدعاة…إلخ.
- المجتمع:
لا أنسى إلى الآن مقالا قديما لكاتب عماني كبير، ذكر فيه حادثة غريبة جدا عن باحث عربي كان يعدّ رسالة الماجستير أو الدكتوراه عن أحد الشعراء العمانيين، وحينما تواصل والتقى لاحقا بأحد موظفي مؤسسة رسمية معنية بالثقافة، نصحه هذا الموظف أن يبحث في تاريخ شاعر له أصله ونسبه، ويبتعد عن هذا الشاعر عديم الأصل “الخادم”. كذلك لا أنسى رواية محام عماني لي عن حادثة زواج امرأة من رجل لا يكافئها النسب حسب المفهوم المجتمعي -الزواج حدث في دولة أخرى-، الغريب في رواية المحامي، أنه ذكر لي أنّ القاضي في المحكمة سأل الزوج صراحة: ألا تعلم أنها أرفع منك نسبا، فكيف تتزوجها!. أو تغاضي سلطات أمن الدولة، وحتى بعض رجالات دينها عن حادثة محاولة قتل فتاة لأنها كانت تريد الزواج من رجل أقل منها نسبا…إلخ. أو حادثة تتعلق برجل “ناشط سياسي مخضرم” لا ينفكّ يتحدث عن العدالة الاجتماعية وتذويب الفروقات وضرورة إلغاء كافة الأعراف الاجتماعية، وحين تقدّم أحد ما للزاوج من ابنته، أوّل ما سأل عنه هو نسب الرجل وأصل عائلته… إلخ.
الأزمة نفسها تعشعش لدى الكثير من النُخب الثقافية الذين استغلوا “مناصبهم” التي تسمح لهم باختيار أسماء معينة للتمثيل خارج عمان، أو المناسبات الكبرى داخل عمان نفسها، والاعتماد على المفهوم الطبقي في الاختيار!
وجود فئة أو شريحة واسعة من المجتمع، تعمل كــ “شرطي” أخلاق عبر مراقبة تصرفات أفرادها، من ثم تهييج الرأي العام في محاولة “وقحة” للضغط على مؤسسات الدولة -التي عادة ما تكون طرفا من تصاعد هذا الضغط- لمحاكمة أي فرد صدر منه أي فعل أو قول، لا يتوافق وأعراف المجتمع!. وهذا ما برز بصورة كثيفة في الفترة الأخيرة عبر مطالبات بمحاكمة كتّاب أو منع كتبهم، لوجود عبارات تصف مشاهد “جنسية” مثلا، بحجة أنه أسلوب شائن ضد الدين وضد أعراف المجتمع! كذلك الحملات التي يتم شنها على بعض الشخصيات العامة مثل الإعلاميين، الفنانيين، أو حتى الشخصيات الرياضية، وذلك عبر انتقاد أسلوب حياتهم وطريقة لبسهم، والمطالبة بضرورة معاقبة كل شخصية عامة تظهر في مواقع التواصل الاجتماعي بمظهر لا تتوافق وأعراف المجتمع!
غياب احترام الفرد، الذي في أساسه هو بناء ممنهج للقضاء على أي عملية نقد للسلطة أو الدين أو المجتمع، أصبح مدعوما حتى من نخبة من المثقفين والأكاديمين والإعلاميين، لذلك، أصبحنا لا نستغرب حين نجد برنامجا مدعوما من الحكومة، لا يُفرق بين مفهومي “القيم” و”الأخلاق”، ويوظف كل أدواته لالتقاط أي مظاهر أو ممارسات فردية مختلفة لا تتوافق مع فكر صاحب البرنامج، وتقديمها على أنها انقضاض سافر على “قيم” المجتمع، وإساءة لأخلاقه وأعرافه! أو أن تجد مقالا من إعلامي أو كاتب أو أكاديمي في صحف محلية حكومية أو خاصة، يطالب فيها بضرورة ابتكار أو إنشاء قانون يمنع أو يُجرّم أي مظاهر لا تتوافق مع المجتمع. كل هذه الأشكال، ساهمت إلى تعزيز قيمة “المجتمع” على حساب قيمة “الفرد”. وتأسيس مفهوم حداثي لــ القطيع/المجتمع أكثر حصانة، باسم الدين أو الأصالة…إلخ.
من جهة أخرى، فإن الكثير من المثقفين والأكاديمين، يأكدون باستمرار، على أنّ الحكومة تعمل على إلغاء كافة الفروقات الطبقية والاجتماعية، وهذا توظيف “وقح” لظاهرة عامة يُراد منها تلميع صورة الحكومة، في الوقت نفسه الذي تنظم فيه هذه الحكومة ظاهرة “المشيخة” و”الرشادة”، وحتى درجات المشيخ بين كل شيخ وآخر، ودعمها بالمال كذلك، عبر تخصيص مؤسسة رسمية وهي “الديوان” التي تعتبر أحد أهم المؤسسات الرسمية التي يُنفق عليها نسبة غير هيّنة من ميزانية الدولة سنويا!
أدوات الاختبار ومعايير القياس للمجتمع:
– نقد المشيخة والرشادة والمطالبة بإلغائها.
– نقد غياب القوانين التي تحمي خصوصية الفرد في حرية العيش أو حرية التعبير، بل وحتى حرية اختيار الدين.
مردود غياب دور الحرية وتعزيز القمع:
غياب الحرية ممارسة وظاهرة عن المجتمعات، يقابله -إن لم يكن السبب- تعزيز الدور الأمني، سواء من السلطة أو الدين أو المجتمع، وتنامي العملية القمعية عبر تطوير آليات القمع باستحداث القوانين التي تمكن المجتمع قبل السلطة؛ من الوقوف صخرة أمام أي مظاهر للحرية، وهو أمر كما ذكرت سابقا، وإن بدا في ظاهره عشوائيا مرتبطا بثقافة تراثية أكثر منها منهج أمني سلطوي، إلا أنه وفي اعتقادي بناء ممنهج لتأسيس عملية طويلة الأمد للقمع وتجريم حريات التعبير والتظاهر والاختلاف. الفرد، هو أصل أي عملية تنموية في المجتمعات، ومتى ما تطوّر الفرد علميا وثقافيا، تطوّر المجتمع. ولن يتطوّر المجتمع طالما كان مجرد مؤسسة محكومة بمجموعة من القوانين أو الظواهر والأعراف، التي تعمل على تعزيز الفكر الجمعي الموافق لسياسة القمع والتقديس.