في ظل مرحلة التحول التي تعيشها السلطنة وتوجيهات جلالة السلطان المعظم -حفظه الله ورعاه- السامية الكريمة بمراجعة القوانين الإدارية النافذة في مؤسسات الدولة بما يتناسب وطبيعة التحول في منظومة العمل الوطني بمختلف قطاعات التنمية، وفي ظل التطورات الحاصلة في منظومة الأداء والوظيفة العامة، وأثر المراجعة المفترضة لهذه القوانين وأنظمة العمل وجاهزيتها في ترسيخ أنموذج وطني في التعامل مع المعطيات ومواجهة التحديات وتلبية طموح الموارد البشرية الوطنية في استلهام منطلق التغيير النوعي في الأداء وتوجيه الممارسة المهنية بالشكل الذي يحقق جودة الأداء، لذا كان تناولنا لهذا الموضوع في إطار تلمس المنجز الوطني الذي تم بعد خطاب جلالته -أعزه الله- عام 2011، ولما تستدعيه الحالة العمانية من سرعة إنجاز هذا التطوير في سبيل مواكبة التطور الحاصل ومنظومة التفكير المتجددة التي يبرزها الشباب عبر وسائط التواصل الاجتماعي وعبر توصيات المؤتمرات والندوات الوطنية في هذا الشأن والتي كان آخرها المؤتمر العربي الثاني للتطوير الإداري والتنمية بمسقط في شهر ديسمبر لعام 2015 وخرج بتوصيات ذات علاقة في هذا الجانب، وبالتالي قراءة الأثر الإيجابي المتوقع من هذه المراجعة للقوانين والأنظمة على منظومة التطوير والتنمية المستدامة، وتعميق فرص الوصول إلى إنجاز نوعي يتواكب والمتطلبات ويعي مقتضيات التطوير. على أن البحث في إطار تصحيح المسار من خلال عمليات المراجعة لهذه القوانين ينبغي أن يتم وفق موجهات واضحة تتعلق بالمساحة الممنوحة من التغيير التي يمكن أن تلحق هذه التشريعات القانونية وانعكاساتها على عملية التحول المفترضة في حياة المؤسسة والموظف والمواطن وبيئة العمل وقدرتها على استيعاب التطورات والمستجدات الحاصلة في الوظيفة العامة وفهم مقتضيات السلوك الاجتماعي والفلسفة التي تقوم عليها منظومة بناء الكفاءة والقدرات وصناعة القدوات وفتح مناخات أكبر للتغيير في ذات الموظف وتعميق قدرة القانون على صياغة حياة الفرد وتوجيهها وفق مبادئ الحق والعدل والمساواة، وتحقيق الموضوعية والشفافية وجلد الذات ووضع المصلحة العامة فوق كل اعتبار، وبالتالي قراءة معمقة للبعد الإنساني في هذه القوانين من جهة كونها تخاطب إنسانية الإنسان وتضبط سلوكه وممارساته وفق تعميق شعوره الذاتي ورغبته في التغيير، وتعزيز قيمة الضبط الذاتي وترسيخ مفهوم رقابة الضمير وحس المسؤولية واحترام القانون والعمل به في ظل قناعة بأهميته في حياة الفرد والمجتمع، وما يتطلبه ذلك من ثقافة الوعي بالقانون والمعرفة به من قبل المجتمع عامة والمخاطبين به من موظفين وغيرهم بشكل خاص. وبالتالي قدرة هذه القوانين على التأثير في السلوك الاجتماعي والإجابة عن العديد من التساؤلات التي يطرحها الموظف في واقع حياته اليومية حول أمنه الوظيفي ومفهوم الكفاءة الوظيفية ومعايير الاختيار وأنظمة التقييم والمتابعة والمساءلة الإدارية والتظلمات، وقياس المنجز المؤسسي وحدود السلطات الوظيفية والإنتاجية المؤسسية وموقع الخصوصيات والمشاعر والظروف في بنود القانون وقواعده، والامتيازات الوظيفية بعد سن التقاعد والعلاوات والمكافآت وفرص الترقيات وغيرها في ظل ارتباط ذلك بمحددات جزائية أو تشجيعية أو تعزيزية واضحة لا تقبل المساومة، على أن تبرز نواتج عملية التطبيق لها تحقيق مفاهيم الولاء والانتماء والشراكة والشفافية والتمكين والالتزام والابتكارية في الأداء وأخلاقيات العمل والمنافسة، وهي موجهات لا يمكن أن تتحقق إلا في ظل قوانين تتسم بالحياة تضع الإنسان كهدف التنمية وأولويتها، وأن تضمن الضبطية المعززة بالمرونة والواقعية التي تحملها هذه القوانين قدرتها على استيعاب متطلبات الواقع ومستوى وجود جانب الحدس فيها وفرص التغيير التي تحققها، إن من شأن هذا التحول الجذري في إدارة صياغة قوانين المرحلة ضمان احترام المخاطبين بها وتنفيذهم لمقتضياتها بكل اقتناع ورغبة، والتزامهم بمقتضيات القواعد القانونية، وقدرة القوانين ذاتها على التكيف مع الواقع والاستجابة لمتطلبات الموظف وطموحاته وتوقعاته كونها الداعم له في الأخذ بيده نحو ممارسة مهنية واعية والتزام وظيفي مسؤول وتصحيح ممارساته وتوجيه مسارات حياته اليومية بحيث يجد في القانون فرصته لاستثمار أفضل الفرص للتصالح مع ذاته واحترام مسؤولياته والوفاء بمتطلبات الوظيفة العامة التي يمارسها، فإن التحول الإيجابي الذي ستضيفه المراجعة المفترضة للقوانين الإدارية النافذة سوف يجد في المقابل مسارات أخرى تكمن في تصحيح المفاهيم السائدة لدى البعض حول القانون في كونه أداة عقاب وضبط قسري إلى ترقية قيمته في ذاته باعتباره وسيلة إيجابية لإحداث تحول في سلوكه وممارساته ونقلها لصالح الاهتمام بذاته وتنظيم حياته بشكل يضمن لها التغيير الإيجابي في الممارسة العامة.
إن التحولات الحاصلة في مسيرة العمل الوطني والتشعبات الكبيرة التي أبرزتها مسيرة التطوير في الجهاز الإداري للدولة؛ تستدعي اليوم سرعة القرار في إبراز هذه المراجعات وتعزيز الواقع بها ورفده بنتائجها وإدارة مستجدات الواقع وفق معطيات المرحلة وأحداثها المتتالية التي تبرز المؤشرات أن لا نهاية لها في ظل الأوضاع المالية وما يتبعها من إشكاليات قد تلقي بظلالها على منظومة أداء الموارد البشرية بالمؤسسات والمطالبات المرتبطة بحقها الوظيفي كالترقيات والعلاوات والمكافآت وغيرها، فإن المؤمل من القوانين الناتجة احتواء الواقع ومنع ظهور أشكال التجاوزات الإدارية، وهي بشكلها الجديد ينبغي أن تكون إطارا مساندا لكل الشركاء في المسؤولية في قدرتهم على التعاطي مع مستجدات التطوير بكل فاعلية وإدراك مسؤولياتهم في ظل هذه الأوضاع. على أن تعتمد عملية المراجعة ذاتها أدوات ملاحظة واستطلاعات رأي لرصد آراء المستهدفين والمخاطبين بهذه القوانين بمختلف قطاعات الجهاز الإداري للدولة والعاملين في قطاعات التنمية والشباب العاملين والباحثين عن عمل وطلبة المؤسسات الأكاديمية وغيرهم، كما تستفيد من كل المواقف والتحديات والإشكاليات والإخفاقات التي أفرزتها تلك القوانين في فترات سابقة من خلال ما ترصده محكمة القضاء الإداري والمحاكم الأخرى ذات العلاقة القائمة على النظر في دعاوى الموظفين والتجاوزات الحاصلة بالمؤسسات في آلية تطبيق القوانين الإدارية بالمؤسسات والقرارات الإدارية الداخلية، وصلاحية رؤساء الوحدات الحكومية، وحدود الصلاحيات للمستويات الإدارية الأخرى بالمؤسسات بحيث تستدرك عملية التطوير لهذه القوانين هذه الإشكاليات وتعالجها في إطار واضح يقوم على الدقة والانتقاء والتنوع ووضوح الأوامر القانونية بها. وعليه فإن الحاجة إلى سرعة إنجاز هذه القوانين لتؤدي دورها في هذه المرحلة في ظل ما يواجهها من تحديات انخفاض أسعار النفط وتأثيره على الموازنة العامة للدولة والموازنة المستقطعة للمؤسسات والأثر المتوقع لذلك على المورد البشري ومنظومة الجودة والأداء والانتاجية، باتت تتطلب تبني استراتيجيات وطنية وقرارات عليا في المعالجة.
وإذا كانت التوجيهات السامية قد شكلت مدخلا استراتيجيا داعما للمراجعة والتطوير للتشريعات والقوانين الإدارية للجهاز الإداري للدولة؛ فإننا نؤكد على أهمية أن تخرج هذه الجهود باعتمادات نهائية لهذه القوانين وسريان العمل بها، لما يتوقع أن تؤديه من دور كبير في حسم الكثير من القضايا التي باتت محل اجتهاد مؤسسي، وأصبح التعامل معها في ظل الظروف الحالية أمرا أقرب إلى المجازفة، ويثير العديد من التساؤلات بل قد يقف عائقا في جهود التنمية والتطوير الحالية، وأن تتاح لهذه القوانين المطورة فرص أثبات قدرتها على صياغة واقع جديد يتكيف مع التوقعات المطلوبة فيه والتجاذبات المشحونة بها أجندته، وحسم للكثير من التجاوزات والإشكاليات التي واجهتها منظومة الجهاز الإداري للدولة في الفترات السابقة والفترة القادمة أيضا، فإن المحاولات الجادة التي قامت بها بعض المؤسسات في سبيل إصدار بعض القوانين التنظيمية والتشريعية يستدعي عملية الإسراع بخروجها للواقع ونافذية التطبيق لها كونها تعكس مرحلة جديدة تتطلب منها ممارسة أدوارها وصلاحيتها في إطار تحقيق هذه القوانين والالتزام بتعهداتها نحو المواطن وترقية منظومة الأداء بها، وبالتالي أهمية المتابعة لعملية إنجاز هذه القوانين وفق إطار زمني محدد وأن تضمن المراجعة لها من قبل المؤسسات التشريعية الأخرى ومجلس عمان المتمثل في مجلسي الشورى والدولة، قراءة معمقة تراعي كل الظروف والمتغيرات بحيث تضع مصلحة المؤسسة والموارد البشرية المجيدة وتنمية الكفاءة الوطنية أولوية لها. وعليه فإن المواطن وهو ينتظر تحقق نتائج واضحة لحسم مسألة هذه القوانين يَفترض أن يجد في عملية المراجعة فرصته لشراكة نوعية تأخذ برأيه وتستفيد من وجهات نظره وتضع طموحاته الوطنية كمنطلق لبناء ثقافة عمل مؤسسي قادرة على تحقيق الاستدامة. فإننا نجد في الوقت نفسه في تحديات الوظيفة العامة وتحديات الممارسة التعليمية والمؤشرات التي تبرز تراجعا في مستويات الإنتاجية المؤسسية، فرصة لاستدارك أمر هذه التشريعات وسرعة إنجاز قانون الخدمة المدنية وسرعة إصدار قانون التعليم، وما يتبعها من لوائح تنفيذية بما يضمن قدرتها على ضبط الممارسات الناتجة وحسن توجيهها لصالح الأداء عالي الجودة وتوفير فرص أكبر لتوطين الكفاءات وترسيخ ثقافة الإنتاجية في ظل ابتكارية وقناعة مهنية وحس مسؤول.