السؤال الجوهري الذي تطرحه رواية جين أوستين “كبرياء وتحامل” هو: من هو هذا الآخر الذي ليس أنا؟ وهو سؤال عالجته الروائية الإنجليزية في روايتها المنشورة مع بداية القرن التاسع عشر (تحديدا 1813م) عبر سلسلة من المشاهد ترتسم بطريقة انسيابية تنتقل من معرفة المزايا الشخصية الداخلية والتركيز عليها في تحديد شكل العلاقة مع الآخر الوافد، إلى معرفة ما يمتلكه هذا الآخر وكيف سيلبي النواقص التي لديّ. معظم الفشل الذي يقع في العلاقة سيكون بسبب ضعف أو عدم القدرة على هذا الانتقال بسلاسة بين ما لدينا وما لدى هذا الوافد الذي يريد أن يدخل في حياتنا. ومتى ما تراكم هذا الفشل فسندخل على الأرجح في منطقة التطرف التي ستُغذّيها تصورات شخصية أو فئوية ضيقة النظرة في تحديد نقاط الضعف التي لديها وبالتالي الاعتراف بهذا الضعف.
يمكن أن نعد الافتخار المفرط هو المسؤول عن معظم محتوى الأيديولوجيات المتطرفة عبر التاريخ وصولا إلى عصرنا الحالي حيث تنشط وتتمدد دعوات التقوقع ورفع الجدران وصراع الحضارات الحتمي. ونحن وإن كنا لا نستطيع أن نضع تحديدا دقيقا لكلمة “مفرط” في هذا السياق؛ غير أنه يمكننا أن نشير إلى تحوّلٍ يقع في مفهوم المجتمع عن الدولة، فعوضا عن أن تكون الدولة مجتمعا كونيا متنوعا في بقعة جغرافية معينة؛ تصبح مجرد تنظيم قانوني سياسي مغلق. لا تعود المجتمعات؛ تماما مثلما الأفراد؛ قادرة على استيعاب كل المتغيرات من حولها، وبالتالي إدراك كيف تتكامل مع هذا العالم، وكيف تستوعب الحدود الناعمة بين الأنا والغير. هذه الحدود التي ترفعها سلطة المجتمع في وجه الاندماج مع الآخر لا تجد ما يبررها أخلاقيا سوى في المبالغات الإعلامية عن تفوق الأنا بميزاتها ومآثرها وسموّها واستغنائها عن كل -أو معظم- ما يأتي من هذا الآخر الذي سيتّصف بصفات النقص والسلب، وبالتالي يجب تجنّبها والتحذير منها.
سيكون هذا الآخر هو “رجل القش“؛ الذي سيصنعه الافتخار بالأنا المتضخمة، وسيُنسب إلى رجل القش هذا كل ما يمكن تخيله من أفكار سيئة وقيم هابطة حتى يمكن سلب أي مبرر أخلاقي للتعاطف معه، وبالتالي قصفه بمختلف أنواع الهجوم، وهكذا فما إن تظهر دعوات للانفتاح والاندماج مع الآخر والاعتراف بالنقوص حتى يتم رفع رجل القش هذا ومهاجمته على اعتبار أن دعاة الاندماج وإذابة الحدود يحملون كل -أو بعض- المواصفات السيئة لرجل القش المزعوم. يمكن أن نسمي هذا النموذج في التفكير نموذج العائلة المغلقة، حيث تنشط وتُعمم وتُبرز المزايا الشخصية التي لا تكون متوافرة إلا في العائلة؛ حسب اتساع المنطقة الجغرافية لسلطة العائلة، والتي يمكن أن تتسع إلى مستوى قبيلة أو دولة.
يذكرني ذلك بأسطورة برج بابل عن تنوع اللغات في العالم، حيث تقول الأسطورة إن الإنسان عندما كان يبني برج بابل للوصول إلى الإله، كان الإله يتساءل عما يفعله هؤلاء البشر؛ فيقرر أن يشتتهم ليمنعهم من الوصول إلى مملكة السماء، فيفعل ذلك عن طريق تنويع اللغات واختلافها فيما بينهم، فلم يتمكن البناؤون من إكمال البناء بسبب تباين اللغات، فلم يعد الساكنون في الطبقات العليا قادرين على التواصل مع الساكنين في الطبقات الأدنى، وهكذا شتتهم الإله عن إكمال البرج. والرمزية هنا تكمن في أن الانغلاق والتقوقع يصنع نوعا من الاستعلاء و الافتخار بالرفعة والتمايز، وهذا سيؤدي إلى توليد وتداول لغة فوقية لا تكاد تصل إلى المتلقين فيفهموها ويتقبلوها.
يرتبط الفخر المفرط بالظاهرة التي أصبحت محل اهتمام مراكز البحث ومؤسسات الدمج الاجتماعي وهي ظاهرة كراهية الأجانب، وذلك بطبيعة الحال عندما يسلك الفخر في المسار الخاطئ الذي يبتعد عن الاعتزاز بالنفس ليصل إلى خداع النفس، وهذا ما يؤدي إلى المشكلة التي تؤرق بال المجتمعات المعاصرة اليوم؛ ألا وهي مشكلة الهوية؛ من هم ال “نحن” ومن هو الآخر؟
الافتخار شعور إنساني معقد لم يتم فهمه كاملا لحد الآن، وإن كانت هناك دراسات كثيرة في مجال علم النفس لمحاولة فهم لماذا يفتخر الإنسان. ففي إحدى الدراسات طُلب من المبحوثين ذكر الكلمات المرتبطة بالفخر، وقد انقسمت الكلمات التي تم ذكرها في مجموعتين: فخر إيجابي مرتبط بالإنجاز وتحقيق الذات والاجتهاد والمثابرة، وفخر سلبي مرتبط بالغرور والنرجسية والحسد، ما يدلّ على قابلية عملية واضحة لدى الإنسان على التمييز بين الفخر الإيجابي المرتبط بالاعتزاز بالنفس وبين الفخر السلبي المرتبط بخداع النفس. بالرغم من أهمية مثل هكذا دراسات في الكشف عن سيكولوجية الفخر؛ غير أن الوصول إلى ماهية الفخر أمر يبدو صعب المنال. فهو ليس شعورا بسيطا مرتبطا بغريزة البقاء كالشعور بالخوف أو القَرَف مثلا؛ بل يرتبط بشكل كبير بإدراك الإنسان منذ سنواته الأولى أهمية الآخر له، وبالتالي فهو يتعلم منه ويكتسب من خلاله استقلاليّته وقصديّته ووعيه بنفسه. فالفخر هو سلوك اجتماعي بالدرجة الأولى، ولا يمارسه الإنسان إلا أمام الآخرين إما لكسب احترامهم وتقديرهم وإما للتفوق والاستعلاء عليهم.
إن أحدا ربما لم يفكر في دراسة الفخر كممارسة جماعية يمكن أن تعبر عن عقيدة للجماعة، وهذا ما أود طرحه فيما يلي: كيف يمكن أن نميز بين الفخر كممارسة جماعية عملية وذات هدف نبيل، وبين الفخر كعقيدة تعبر عن مستوى متقدم من الأدلجة والنرجسية داخل المجتمع؟
في إحدى العروض التسويقية التي حضرْتها منذ زمن بعيد هو عرض لشركة ألمانية متخصصة في صناعة أدوات مختبرات الفيزياء والكيمياء المدرسية، وما شدني في ذلك العرض هو افتخار مسؤول الشركة بأنه شركته تأسست في مدينة غوتنغن الألمانية التي ارتبط باسمها لوحدها ما عدده (45) عالما وأديبا من حملة جائزة نوبل، وهذا العدد من جوائز نوبل لم يتربط بمدينة أوروبية أخرى عدا استوكهولم.
في المقابل أشير إلى تلك المقالات والتدبيجات الإنشائية التي نقرأها في الإعلام الاجتماعي والرسمي والتي تركز بشكل مثير للدهشة على مفهوم الخصوصية وقوة المجتمع وهو منغلق ومتمايز عن غيره؛ على طريقة القصيدة المتفجرة للشاعر العراقي عباس جيجان التي ألقاها بمحضر الرئيس العراقي الراحل صدام حسين في وقت ما خلال الحرب العراقية الإيرانية بالثمانينات، والتي يقول ضمن ما يقول فيها: “احنا نموت؟ لا ما نموت. ولو نفرض نقول نموت. والجنّاز بينا يفوت. بس من يمر باسم العراق الضيم. تصعد الغيرة ببدنا ونكسر لوحة التابوت”، فيتلوه التصفيق الحار.
هناك مجموعة من الفروقات المتناقضة تماما في المثالين اللذين ذكرتهما آنفا، ففي الوقت الذي يركز الخطاب في الحالة الثانية على تحريك المشاعر فقط؛ نجد الخطاب في الحالة الأولى أكثر عقلانية باهتمامه بإثارة دهشة المتلقي أولا قبل أن ينتقل ليركّز على محتوى الرسالة وتحليلها منطقيا لاتخاذ قرار عقلاني بخصوصها. الصورة في الحالة الثانية تخاطب فقط مشاعر المتلقي وعاطفته، فلا هدف لها أكثر من إثارة دهشته ليعجب بها ويصفق لها ويندمج ضمن العاطفة الكلية التي تصله بالجمهور المشترك، فلا يوجد محتوى منطقي يحتاج إلى فرز وتحليل واستقراء.
يمكن كذلك ملاحظة أن هناك فرصة عند المتلقي بالمثال الأول لتحليل مادة الخطاب أو محتوى الصورة المرسلة؛ فالمعلومة المدهشة عن مدينة غوتنغن سيلاحقها المتلقي بالتساؤلات مباشرة ويفكر في داخله عن أهمية هذه المعلومة وظروفها التاريخية والمكانية وكيف يمكن تلقيها؟ وما الذي يترتب عليها؟ ومن المنطقي جدا أن يرفع أحد من الجمهور يده ليعلق على المعلومة ويطلب مزيدا من المعلومات، بينما في المثال الثاني؛ فلا تكاد توجد فرصة أمام المتلقي أن يتسائل عن هذه الصورة التي يخلقها الشاعر، بل هو لن يحتاج أن يتسائل؛ إذ المطلوب فقط أن يعجب أو لا يعجب بالصورة، والظرف العام في تلك اللحظة لا يتيح الفرصة للتحليل، حتى لو أخذ يردد المقطع مع نفسه لاحقا.
النقطة الثالثة في هذه المقابلة هي عندما نسأل: ما الذي سيبقى بعد الخطاب؟ فسنجد أنه في الحالة الأولى ستظل هناك صورة عالقة في الذهن يمكن نقلها وتبادلها مع الآخرين، وستظل تتردد في الذهن وتعود للذاكرة كلما ذكرت ألمانيا مثلا أو جوائز نوبل أو العلوم الطبيعية، وفي العموم لن تعود الصورة في أي مناخ أو جو عاطفي رومانسي حالم. أما في الحالة الثانية فما سيبقى بعد الخطاب هو تلك الصورة السينمائية المدهشة التي تخلقها روح شاعرية أكثر منها واقعية، وستتردد في هذا الجو فقط.
أمر آخر في الحالة الأولى وهو حضور كم من المعلومات؛ مثل العدد (45) واسم مدينة (غوتنغن) ودولة (ألمانيا) واسم شخص (نوبل) وقضايا مادية (مصنع، جائزة)، أما الصورة في الحالة الثانية (قصيدة جيجان) فترسم مشهدا فيه (موت) و(جنازة) و(ضيم) و(غيرة) و(كسر) و(تابوت). الفرق هنا هو أن الحالة الأولى ذات محتوى يستدعي الذاكرة ليحدد دلالة العدد الوارد وجغرافية المدينة والدولة ومن هو نوبل وكيف هو شكل المصنع والجائزة، ولو لم يعرف الإنسان ما تدل عليه كل هذه القضايا فلن تُثار دهشته، أما في الحالة الثانية فالصورة كاملة ومنتهية والمطلوب هو التفاعل معها فحسب.
أخيرا نجد أن اسم وشخص مقدم المعلومة في الحالة الأولى لا أهمية له كبيرة في الدهشة التي تتولد في نفس المتلقي، وبالتالي فلن يكون حضوره مهما لاحقا، ويمكن بسهولة نسيان اسمه وشكله وهيئته. أما في الحالة الثانية فاسم وشخص عباس جيجان وهيئته التي كان يلقي بها القصيدة بنظارته السوداء وحركات يده ووجهه ورأسه المرفوع للأعلى؛ كلها جزء لا يتجزء من الصورة السينمائية التي خلقها بقصيدته المذكورة. ما يعني أن الارتباط بين المتلقي وبين مصدر الخطاب في الحالة الثانية أكثر عاطفية وشاعرية من الحالة الأولى.
وكملخص لهذه المقارنة؛ نجد أن الغرض من الرسالة في الحالة الأولى هو للإقناع بهدف منطقي يستفيد منه الطرفان؛ المتكلم والمتلقي، فهي عملية اقتصادية فيها منفعة متبادلة، أما الغرض من الرسالة في الحالة الثانية فهو تذكية الحماس واستنساخ العاطفة وإلهاب الروح التشاركية لدى المتلقين.
بعد هذا التحليل يمكن أن نرصد التباين الشديد بين نوعين من الفخر في الحالة الاجتماعية. فخر يترتب عليه قرار منطقي عقلاني وفخر يترتب عليه مشاعر عاطفية ظرفية. في الأول؛ تكون ممارسة الفخر ذات غاية يمكن للإنسان أن يحدد موقعه فيها وبالتالي ينخرط أو لا ينخرط في الممارسة ويتفاعل معها. أي أن الفخر هنا لجلب منفعة مباشرة أو غير مباشرة، ويجب إقحام العاطفة قبل اتخاذ القرار المنطقي بأهمية المنفعة، فـ الافتخار يكون ناظرا للشقين: الخيال والواقع؛ المشاعر والمنطق، أما في الثاني فهناك تركيز فقط على الشق العاطفي في الإنسان. ويمكن ملاحظة هذين النوعين من الافتخار بشكل يومي في التفاعلات الاجتماعية المعتادة عندما تكون هناك خطابات افتخارية صادرة من هنا وهناك. وهذا ينقلني للتأكيد على أن الافتخار خطاب يمكن أن ينحرف بسهولة من مجرد شعور عقلاني بالاعتزاز بالنفس لغايات منطقية؛ ليصبح نوعا من التزييف للواقع والخداع للنفس الذي فيما لو استمر فسوف ينتج أيديولوجيا متطرفة تقصي كل ما لا ينتمي إلى مفهوم العائلة المغلقة التي يتحكم الأب أو النافذين فيها في تعريف ما ينتمي وما لا ينتمي إلى العائلة.