مما هو معلوم بالفطرة والمنطق أن وجود الإنسان على هذه الأرض مرتبط بضرورات لبقائه واستقامة شؤونه، ولتعزيز قدرته على إعمار الأرض والمحافظة عليها. ومن بين أبرز هذه الضرورات حقوق الإنسان. وبينما استطاع الإنسان على مدار القرن الماضي أن يعي جملة كبيرة من هذه الحقوق، وأن يستخلصها من واقع تجاربه لا سيما تلك التي ظهرت على مدار الألفية الماضية، وأن يدرك في الوقت ذاته طبيعتها العالمية غير المرتكزة على عرق بذاته أو ثقافة بعينها، تفرز مستجدات الحياة ضرورات جديدة علينا أن نعيها في حقوق إضافية تتطلب تمكين التمتع بها، وحمايتها، وعدم التدخل فيها.
وفي هذا الصدد برزت مؤخرا وبكثرة ضرورة جديدة، ألا وهي تأمين فرصة للحصول على مستقبل. وكانت صورة الطفل السوري الذي لفظته الأمواج على الشاطئ، وصور المعاناة التي تجتاح شعوب الأرض جراء ظلم الإنسان لأخيه في الإنسانية، وظهور أفواج من المجندين من الشباب الواعد في المجتمعات المتقدمة والغنية ضمن جماعات متطرفة تنسخ حق وجود الآخر كانت كلها وغيرها دوافع للتساؤل عن القاعدة القيمية لنا كبشر نتعايش في هذه الأرض، ومدى تمثلها على واقع الممارسة، ومدى تحقق أثرها المنشود في تكوين مجتمعات إنسانية عادلة وحاضنة بشكل مستدام، ودفعت أيضا إلى الحديث عن حاجتنا إلى تأصيل “الحق في مستقبل”.
إن هذا الحق مرتبط بتزايد ما يعرف بفجوة الأمل أو أزمة الأمل عند شريحة كبيرة من سكان العالم في المجتمعات والشعوب المختلفة، لا سيما الأطفال والشباب، ولو أن مجتمعات العالم الثالث أكثرها تأثرا، لكنها لا تملك المنصة الملائمة ولا الإدراك الكافي بهذه الضرورة لمناشدة المشهد السياسي المحلي أو المجتمع الدولي بأهمية الالتفات إليها وتمكين هذه الفئات المهددة من التمتع بها كضرورة إنسانية مرتبطة عضويا بحق الحياة وحقوق إنسانية أخرى. ولولا استجابة بعض الشعوب الأوروبية، وردة فعل البعض الآخر، تجاه أزمات اللاجئين خلال السنتين الأخيرتين، وكيفية تناولها لهذا الموضوع مؤسسيا وفرديا، لما برزت هذه الضرورة وتحدياتها لقاعدتنا القيمية. وكان قد سبق اهتمام الاتحاد الأوروبي ودوله، ودقهم ناقوس الخطر الأخلاقي، بعض المنظمات الدولية الإنسانية كأوكسفام واليونيسيف ومنظمات الأمم المتحدة، التي لم تعد قادرة على الاستجابة على نحو مناسب للسيل الدافق من هؤلاء الذين حُرِموا من المستقبل.
وتتعاظم خطورة فجوة الأمل وتستفحل درجاتها من كونها الدافع الرئيس وراء انتشار مظاهر الفساد، تيسير الاتجار بالبشر، الاستغلال بجميع أشكاله، الانخراط في أعمال إرهابية تنافي الإنسانية والحقوق المرتبطة بها وجوديا، أو الانقياد وراء أجندات تطهيرية متطرفة على أسس عرقية أو فكرية. إن العامل المشترك بين هؤلاء جميعا هو قدرتها على تسويق الأمل وتقديم ضمانات بالمستقبل وتحققه لفائدة الأفراد شخصيا أو انتماءاتهم.
وينبغي هنا التمييز بين ما يراد بعبارة “الحق في مستقبل” ومصطلح “حق تقرير المصير“، فالأخير مصطلح سياسي في القانون الدولي وليس في مجال حقوق الإنسان، وهو يعني منح الشعب أو السكان المحليين إمكانية أن يقرروا شكل السلطة التي يريدونها وطريقة تحقيقها بشكل حر ومن دون تدخل خارجي. وهذا ما لا يراد الحديث عنه هنا. بل ينبغي التركيز على “الحق في مستقبل”، وهو حق ناشئ مركب في تكوينه وتوليده من توافر عدد من الحقوق الأساسية ومقومات استدامتها، وهو حق حصول الفرد على فرصة لصناعة مستقبله بذاته والبيئة الممكنة لذلك، ويتحقق ذلك من خلال ضمان توافر عدد من العناصر واستدامتها. ومن أبرز هذه العناصر ثلاثة: (1) مجتمع متماسك متسامح ومتضامن بلا تمييز، (2) بيئة طبيعية وموارد حيوية مستدامة، و(3) وبنية تشريعية ومؤسسية تضمن العدل والعدالة. ويتبين مما سبق أن “الحق في مستقبل” هو إسقاط مستقبلي مقارب لفكرة الأمن الإنساني، التي تهدف إلى حماية الإنسان من العوز والخوف والمرض والجهل. إن جميع ما سبق يفترض أن المستقبل المراد للجميع هو عيش كريم للإنسان مرتكز على الكرامة الإنسانية المتمثلة في جودة الحياة، ويضمن له حظا من التعليم والصحة ومورد رزق.
وفي حين ارتبطت معظم سياقات مناقشة هذا الحق مؤخرا بالمتأثرين من الحروب والقلاقل والنزاعات والمجاعات، سواء أكانوا نازحين أو لاجئين، إلا إن التمتع لا ينبغي أن يقتصر على هذه الفئات، التي تعاني من غيابه بشكل مشين، بل ينبغي تفادي تفاقم غياب هذا الحق وتكراره، من خلال مد حق التمتع به وحمايته إلى فئات أخرى كثيرة من الشعوب والمجتمعات المستقرة في بلدانها، إلا إنها تفقد الأمل في مستقبل يضمن لها الانتماء الحقيقي أو مقومات الكرامة الإنسانية، ويدفعها إلى التفكير المادي الانتهازي الصرف في سلوكياتها المجتمعية، مما قد يؤثر على استقرارها واستدامة مقومات العيش فيها، كما حدث في كثير من الدول خلال العقود القريبة الماضية.
وبالقدر ذاته، ينبغي أن يمتد هذا الحق إلى الشعوب والمجتمعات التي لا تتمتع بحق المشاركة الفعلية في صناعة قدرها ومستقبلها لتحقيق أهداف التنمية المستدامة ولا تملك تأثيرا حقيقيا على مجريات الأمور، فمقومات مستقبلها على المدى الطويل آخذة في التدهور جراء إدارة تعتمد نهجا قصير النظر، وتتنازعها تيارات داخلية وخارجية تجعلها تغفل مستقبل الإنسان أو تنظر إليه من منظور غير شمولي ولا تشاركي حقيقي.
يأتي الحديث عن “الحق في مستقبل” وإسقاطات الحالة العُمانية في خضم الظروف الاقتصادية الاستثنائية التي تمر بها السلطنة، وإن كانت مُستشَرَفة منذ سنين، والتي دفعت المالية العامة إلى اتخاذ تدابير آنية والمبالغة فيها، وكذلك دفعت السياسة المالية إلى اتخاذ إجراءات تقشفية وضاغطة، وازدادت معايير وآليات صناعة القرارات الوطنية غموضا، مما لا يشكل عامل نجاح للتغلب على هذه الظروف الاستثنائية، بل يزيد من حدتها وامتداد أثرها المستقبلي.
إن التحول الاقتصادي الشامل الذي حدث في عام 1970م، تطلبته مقتضيات المرحلة الاستثنائية آنذاك، ويسرت وجوده وتمثله على أرض الواقع قيادة جريئة بقرار حاسم، عززت من قدراتها الاكتشافات النفطية، مما استدعى أن تكون هناك مركزية إدارية، وأن تقود الحكومة عملية التنمية، وأن تصبح المشغّل الرئيس للاقتصاد. إن ذلك وإن قاد إلى الاعتماد على النفط كقاعدة اقتصادية ورفعت مساهمته في المالية العامة إلى حوالي 83 في المئة، مما جعل السياسة المالية التي توجّه الاقتصاد الوطني عرضة لتقلبات أسعار النفط، والظروف الاستثنائية الحالية، إلا إنها ولّدت نظاما إداريا واستقرارا سياسيا، وأنشات نواة لمؤسسات وقطاع خاص خديج يستطيعون جميعا قيادة البلاد نحو تحول اقتصادي شامل جديد.
تظهر دراسات استشراف المستقبل، والدراسات المقارنة وإسقاطاتها على السلطنة، بالإضافة إلى التناقص الظاهر للمدة الزمنية للدورة الاقتصادية من كساد ونمو وتغيرات في عناصر الإنتاج ووسائله، أن هذه المرحلة تتطلب تحولا اقتصاديا شاملا في السلطنة، لا نموا ولا تنمية، بمعنى آخر إعادة هيكلة اقتصادية يلعب النفط فيها دورا جانبيا وتكون الصدارة فيها لقطاعات ذات بعد مستقبلي كالتقنية والإبداع والابتكار.
إن هذا التحول الشامل يتطلب رؤية ثاقبة وقرارا جريئا يتردد بشأنه الكثيرون من الأفراد والمؤسسات حاليا، وأحسب أن هذا التردد نابع من عدم توافر الاستطاعة على تخيل المستقبل، والذي قد يكون نابعا من كونهم لا يملكون مصلحة في المستقبل ولا موطئ قدم فيه، ناهيك عن عدم محورية المساءلة التاريخية أو الشعبية في هيكلية عملية صنع القرار.
إن صناعة قرار مهم كهذا يتطلب مشاركة حقيقية، لا شكلية، للجيل القادم، تتكون من شرح وافٍ للوضع الراهن على حقيقته، وتوضيح للخيارات المتاحة، واستعراض التضحيات التي يجب على الجيل الحالي أن يتكبدها ليؤمن مستقبلا للأجيال التالية؛ فهذا من قبيل حماية “الحق في مستقبل”. إن من حق الجيل القادم أن نكفل له فرصة مستقبل آمن من خلال استدامة العناصر الثلاثة المذكورة.
وحينما لا يوجد إشراك حقيقي وممنهج ومؤثر للشعب ولا تقدير أصيل لفوقية المواطن على الحكومة، ينبغي على المجتمع المدني، أفرادا ومؤسسات، أن يبادر إلى سد فجوة الأمل، متيحا للأجيال القادمة منصات للمساهمة في صناعة المستقبل من خلال تقديم رؤية للمشهد الاقتصادي والاجتماعي المطلوب أو المتوخى مستقبلا، وكذلك من خلال التقدم معرفيا وتحقيق مجتمع متماسك مما سيساهم في تحقيق هذا المشهد بدل الاعتماد على الجهد الحكومي فقط.
إن الحديث عن حقوق الإنسان عموما، و”الحق في مستقبل” خصوصا ليس ترفا ولا تمنيا، بل ضرورة معيشية واجتماعية ومتطلبا براغماتيا اقتصاديا في المقام الأول؛ فحقوق الإنسان، انطلاقا من ارتباطها الوجودي بذات الإنسان وماهيته، مبنية في عملياتها ونتائجها على الثقة المتبادلة بين مؤسسات الدولة والسكان من مواطنين ومقيمين، وفيما بين مؤسسات الدولة ومكوناتها الأخرى، وكذلك فيما بين السكان أنفسهم. وتسعى منظومة حقوق الإنسان بآلياتها وتأثيراتها إلى ترسيخ هذه الثقة انطلاقا من أن ضمان هذه الحقوق وحمايتها، والتدليل عمليا على هذه الضمانات وحمايتها، يبعدان نزعة الاستغلالية والانتهازية عن المجتمع، ويحققان أمنا إنسانيا حاضرا، ويؤديان بالضرورة إلى استقرار الدولة، ويعززان الانتماء، ويستنهضان العمل المشترك، ويوجدان قدرا عاليا من الاطمئنان والتماسك المستدامين في البنية الاجتماعية والمؤسسية للدولة، وبالتالي بيئة اقتصادية تنافسية جاذبة شفافة ومتينة، تسمح للبلاد باستشراف المستقبل وتمكين الابتكار والإبداع، والتعامل مع المستجدات بثقة.