لفظة الدولة لم ترد في القرآن الكريم إلا مرة واحدة في قوله تعالى في سورة الحشر آية 7: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}.
وقرأ جميع قراء الأمصار دولة بضم الدّال، وحكي عن أبي عبد الرحمن الفتح فيها[1]، والدّولة الشيء المتداول يدار بينهم، تارة عند هذا وتارة عند هذا[2]، وقيل هما بمعنى واحد – أي بالضم أو بالفتح-[3]، وقيل بالضم في الملك، وبالفتح في النّصر[4]، وعلى هذا يأتي بمعنى دولة للمعنيين في اللّغة المتقدم ذكرهما آنفا، والآية تميل غالبا لمعنى التّداول ويدخل فيه ضمنا الغلبة كما يبدو، وهذا يعود إلى مفهوم اللّفظ ومدى تصديق الخارج عليه كما عند المناطقة.
وأصل الدّولة تستخدم للمعنى الماليّ خصوصا، فهي بضمّ الدّال لتداول المنفعة الماليّة، ثمّ استخدمت بفتح الدّال لرابط التداوليّة أيضا، ولكن هنا ليس في المال؛ وإنّما في الكراسيّ والملك والوزارة وخدمة المجموع.
وهذا الخلاف سنجده ظاهرا بين المتقدمين من أصحاب المعاجم وبين المتأخرين، فنجد مثلا بين مختار الصّحاح لأبي عبد الله محمد بن أبي بكر الرّازيّ ت 666هـ وبين بعض المعاجم المعاصرة، حيث نجد في مختار الصّحاح: الدَّوْلَةُ في الحرب أن تدال إحدى الفئتين على الأخرى، يُقال كانت لنا عليهم الدّولة، والجمع الدِّوَلُ بكسر الدّال، والدُّولةُ بالضّم في المال يقال صار الفيء دولة بينهم يتداولونه يكون مرة لهذا، ومرة لهذا، والجمع دُلاَتٌ ودُوَلٌ، وقال أبو عبيد: الدُّولة بالضمّ اسم الشّيء الّذي يتداول به بعينه، والدَّولة بالفتح الفعل، وقال بعضهم: هما لغتان بمعنى واحد، وقال أبو عمرو بن العلاء: الدّولة بالضّم في المال، وبالفتح في الحرب، وقال عيسى بن عمر: كلتاهما تكون في المال والحرب سواء[5].
فنجد الدّولة في هذا المصدر في القرن السّابع الهجريّ وهو متقدّم نوعا ما، ومع ذلك استخدمها فقط في المعنيين الماليّ والحربيّ، ولم يستخدمها بمعنى تداول السّلطة، أو بالمعنى السّياسيّ بصورة خاصة.
لهذا سنرى معاجم اللّغة المعاصرة تدرج مصطلح الدّولة بالمعنى الحديث، فجاء في المعجم الوسيط تعريف الدّولة: الدَّوْلَةُ جمع كبير من الأفراد، يَقْطن بصِفة دائمة إقليمًا معيَّنًا، ويتمتع بالشّخصيّة المعنويّة، وبنظام حكوميّ، وبالاستقلال السّياسيّ[6]، وفي الرّائد: بلد يخضع سكانه لنظام إداريّ سياسيّ اقتصاديّ خاص[7]، وفي معجم الغني في اللّغة العربيّة: نِظامُ البِلادِ وَجِهازُها الإِدارِيُّ والسِّياسِيُّ والاقْتِصادِيُّ والاجْتِماعِيُّ[8].
ولهذا نخلص كما أنّ اللّغة كائن متطور، إلا أنّها خاضعة ومتأثرة للبعد الثّقافيّ والتّداخليّ بين الأمم والحضارات، ومن هذا مفهوم الدّولة، والّتي استخدمته الأمم الأخرى منذ فترة مبكرة، إلا أنّه دخل إلينا متأخرا، أو كان مستخدما عندنا إلا أنّ غلبه اللّغة الحجازيّة غلبت على غيرها، فالعرب كانت لهم حضارات وممالك سابقة.
وهذه الحضارات والممالك عبر عنها القرآن حسب ما يتداول حينها، فعبر عن الدّولة مثلا بعبارة (القريّة) مثلا في قوله تعالى: {إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَٰلِكَ يَفْعَلُونَ} [النّمل/ 34]، والقرية هنا أيّ الدّولة.
واستخدم عبارة (المدينة) في قوله تعالى: {وَجَاء رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ} [القصص/20].
واستخدم أيضا عبارة (البلد) في قوله سبحانه: {لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ، وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ} [البلد/ 1-2].
واستخدام هذه العبارات لأسباب عديدة منها أنّ الممالك كانت بصورة عامة في الجزيرة أقرب إلى القبيلة أو اتحاد أكثر من قبيلة في جزء معين، فمثلا كانت مكة وحدها أقرب إلى كونها دولة، وكذا الحال في الطّائف ويثرب.
ولهذا خاطب القرآن العقل العربيّ حينها وفق ثقافته، فلمّا تكوّنت للعرب حضارة مرة أخرى – وكما أسلفت كانت لهم حضارات سابقة كحضارة مجان ودلمون وآشور والفينيقيين، ونحوهم – ظهر مفهوم الخلافة والأمة، ثمّ ظهر مفهوم الدّولة.
وإذا كانت اللّغة في سياقها المعرفيّ كائن متطور، فالأولى أن تكون الدّولة أولى بذلك، فهي كائن متطور بذاته، ولا تجمد على شكل معين، وهي تجربة بشريّة بحته، وليست وحيا منزلا من السّماء.
لهذا لابدّ أن نفصل الدّولة بداية عن التّأريخ والتّفسيرات والرّوايات الدّينيّة؛ لأنّ علاقة الدّولة بداية بالقيم الإنسانيّة، والقيم الإنسانيّة جوانب مشتركة بين أهل الأرض جميعا من جهة، ومن جهة أخرى مرتبطة بذات الإنسان، فهي لا تفرق بين أحد للون أو جنس أو شكل أو دين أو ثقافة.
وهذه القيم هي الّتي ركز عليها القرآن الكريم، وما عداها من مفرزات تأريخيّة ودينيّة هي من صنع البشر.
وعلى ما تقدّم ممكن أن ننطلق من هذا الأصل لنبني عليه فروع المسألة، وأساس الخلاف حولها، فأصل الدّولة أنّها لصيقة بالنتاج الإنسانيّ، ولا يوجد إشارة في القرآن أنّ الدّولة لها طريقة إلهيّة معينة، أو كيفية سماويّة محددة، ممّا يدلّ على أنّ الدّولة علاقتها من حيث الأصل بالعقل البشريّ، وتتغير بتغير التّفكير البشريّ، وتتطور بتطور التفكير البشريّ كذلك.
وهذا لا يعني أنّ الشّرائع لم تأت بقيم كالعدل والحرية والشّورى، وهذا ما سنلحظه أثناء الحديث عن قيم القرآن في الدّولة، ولكن أصل المسألة وآلية التّطبيق ترجع إلى العقل البشريّ.
فإذا فقهنا هذا الأصل سهل علينا إدراك ما دونه من مسائل الخلاف، وتعدد السّبل في ذلك، هذا من جهة ومن جهة أخرى لابدّ من التّفريق بين أصل النّص القرآنيّ وبين التّطبيقات البشريّة، ومن المعلوم أنّ الدّولة بالمفهوم الولائيّ الأكبر، والتّنظيمات الإداريّة ظهرت بعد وفاة الرّسول – صلّى الله عليه وسلّم- خاصة في عهد الخليفة الثّانيّ عمر بن الخطاب ت 23هـ.
ولو تأملنا الطّريقة السّائدة في الحكم في الجزيرة العربيّة أبان البعثة كانت أقرب إلى التّحالفات القبليّة في مساحة معينة من الأرض، ولم تكن في غالبها كالرّوم والفرس وتنظيماتهم القبليّة.
فنحن نجد مثلا في الدّولة الرّومانيّة قانون جونستنيان في الفقه الرّومانيّ، والّذي اعتمد في القسطنطينية في 22 نوفمبر عام 533م، أي قبل بعثة النّبيّ – صلّى الله عليه وسلّم- بما يقارب سبعين سنة ونيفا، وذلك في عهد الامبراطور الرّومانيّ جونستنيان ت 565م، ومنها سميت باسمه.
وهذا القانون ليس وليد الصّدفة أو الاختراع؛ لأنّ العلوم الإنسانيّة لا تخترع من الصّفر، وإنّما هي تراكم تجارب سابقة، وعلى هذا الفقه الإسلاميّ أيضا لم يخترع من الصّفر، خاصة في قواعده الأصوليّة والمنطقيّة، وإنّما استفاد من تجارب الأمم الأخرى وفلسفاتهم.
فالمكيون تحالفوا حول قريش، والمدنيون حول الأوس والخزرج، فسمي الأول بالمهاجرين وإن لم يكونوا في الأصل قرشيين، وسمي الثّاني بالأنصار وإن لم يكونوا من ذات القبائل المدنيّة.
من هنا تشكل تحالف أكبر من التّحالف القبليّ، فظهر أشبه بالحزبين الكبيرين المهاجرين والأنصار، وكلاهما ينطلق من نقطة واحدة وهي حماية الدّعوة الجديدة، وحماية الرسول الأعظم – عليه الصّلاة والسّلام -، وهذا ما أشار إليه القرآن الكريم في قوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} التّوبة/ 100.
فهي ليست في الأصل تحالفات سياسيّة بالمفهوم الحزبيّ المعاصر، بقدر ما هي مديح قرآنيّ لأمتين تشاركتا في نصرة هذا الدّين في بدايته، ولهذا أشاع النّبيّ بينهم من البداية خلق الأخوة أو ما يسمى بالتآخي بين المهاجرين والأنصار.
وعليه بشكل طبيعيّ أن تكون رمزية النّبيّ – عليه السّلام – هي الظّاهرة كنبيّ وقائد وقاضي وإمام وخطيب، وهذا لا يعني عدم وجود معارضة غير مقتنعة في داخل الجماعة الّتي أعلنت الإسلام والإيمان بهذا النّبيّ ورسالته، ممّن خاف على مصالحه السّياسيّة والماليّة، وهذه سماها القرآن بالمنافقين، وبيّن أنّ النّبيّ لا يعلمهم، والله وحده هو الّذي يعلمهم.
ولمّا توفي النّبي الأكرم عام 11هـ ظهر الخلاف السّياسيّ إلى السّطح من خلال سقيفة بني ساعدة ليتحول الحزبان النّاصران للدّعوة الجديدة إلى أقرب بالحزبين السّياسيين، فيختلف الفريقان فيمن يرأس هذه الولاءات القبليّة كخليفة عامّ للمسلمين، فتشكلّ عندنا الأنصار وأشهر رموزهم سعد بن عبادة ت 14ه.
وفي المقابل تشكل المهاجرون وأشهر رموزهم أبو بكر الصّديق ت 13ه، وعمر بن الخطاب ت 23ه.
وبين هؤلاء كانت آراء أضعف ففريق يرى الخلافة لأقرباء النّبيّ وأولى بهم العباس عمه ت 32هـ، وعلي بن أبي طالب ت 40ه، كذلك حنّ بعض الطّلقاء إلى مجدهم الأول، وهو الّذي تشكل مع الأمويين خصوصا معاوية بن أبي سفيان ت 60هـ.
هذا الخلاف من بداية الوفاة، والّذي سيستمر لفترات طويلة، وتصاغ حوله الرّوايات، وتتشكل به العقليّة السّياسيّة لمرحلة طويلة من الزّمن؛ بل إلى يومنا هذا في العقليّة الإسلاميّة في جملة مذاهبها.
هذا الخلاف يدلّ دلالة واضحة من البداية أنّ الآلية السّياسيّة لو كانت محسومة نصا لما ظهر هذا الخلاف؛ بل لضاق أصلا!!
وعليه ظهرت المعارضة السّياسّية إلى السّطح والّتي سميت بالمرتدين في عهد أبي بكر ت 13هـ، وهو في الحقيقة ارتداد سياسيّ وليس دينيّا، حيث تشكلت المعارضة خصوصا في المناطق النّائيّة من نجد وحتى حدود عمان.
كذلك اغتيل المعارض سعد بن عبادة ت 14هـ، والّذي رفض البيعة إلا للأنصار كاغتيال سياسي في فترة مبكرة، ثمّ نسب قتله إلى الجنّ، وأنّ الجنّ هي التّي قتلته، لأنّه بال في طعامهم.
هذا الخلاف السّياسيّ طبيعيّ؛ لكن غير الطبيعيّ أن يتحول ذاته إلى خلاف دينيّ، والأصل أننا بهذا الخلاف نفصل بين النّص والتّطبيقات الّتي ظهرت للنّص، خصوصا بعد إكمال النّص، ومن المعلوم أنّ هذه الخلافات بعد إكمال النّص، وبعد وفاة النّبيّ المبلغ لهذا النّص، لهذا تبقى في الدّائرة البشريّة الّتي لا يمكن بحال أن تكون هي النّص.
ولهذا للخروج من هذه الإشكاليّة اخترعت رواية: إياكم ومحدثات الأمور فإنّها ضلالة، فمن أدرك ذلك منكم فعليكم بسنتي وسنّة الخلفاء الرّاشدين المهديين عضوا عليها بالنّواجذ.
فهذه الرّواية وإن ضعفها بعض المحدثين أنفسهم، إلا أنّ البعض حصرها في الجانب السّياسيّ، وبعضهم أعمها حتى في الجانب التّشريعيّ، والحقيقة أنّ الدّين اكتمل بإكمال القرآن، وما حدث بعده ينسب إلى البشر وليس نصا تشريعيّا إلهيا.
ومن هذا الخلاف تشكلت عندنا المذاهب الأربعة: مذهب النّص، ومذهب الشّورى، ومذهب القرشيّة الشّورويّة، ومذهب القرشيّة الوراثيّة.
بينما مذهب الأنصار انطفأ من البداية، وضعف وجودهم بشكل غير طبيعيّ منذ فترة مبكرة، وقلّ حضورهم السّياسيّ شيئا فشيئا.
وفي الحلقة القادمة سنتطرق إلى هذه المذاهب الأربعة ونشير إلى بعض استدلالتهم، خصوصا فيما يتعلق بالقرآن الكريم.
الهوامش:
[1] الطبري. جامع البيان في تأويل القرآن. ج23ص279.
[2] أطفيش: محمد بن يوسف، تيسير التفسير للقرآن الكريم، ط وزارة التراث القومي والثقافة/ سلطنة عمان، الطبعة الثانية 1415هـ/ 1994م، 13/ 237.
[3] المصدر نفسه؛ 13/ 237.
[4] المصدر نفسه؛ 13/ 237 (بتصرف).
[5] مختار الصّحاح للرّازي، مادة (دول)، نسخة الكترونيّة.
[6] المعجم الوسيط: مادة دول.
[7] معجم الرائد: مادة دول.
[8] معجم الغني: مادة دول.