إن مهمّة تغيير المجتمع العُماني؛ مهمّة سيزيفية بامتياز، لا تخلو من العوائق والشوائب والترصّد للأخطاء وتتبّع الزلّات وممارسة كافة أنواع الرذيلة الفكرية: زناً منطقي، مماحكات بيزنطية، ديالكتيكاً فاسداً، تكفيراً وإقصاءً وتبادل التُهم. وعلى الفرد عموماً أن يكتب، فالكتابة في جوهرها هروب من الموت، وفي طياتها معنى المسؤولية المجتمعية، فالإنسان حُمِّل بهذه المسؤولية من حيث لا يدري، وسوئل فيها، وعليه؛ فلما كان المجتمع قد أناط هذه المسؤولية إليه، فعليهم أن لا يصبّوا جام غضبهم متى أخطأ، فلتّغيير في الجوانب الفكرية والأخلاقية والسياسية طريقين لا ثالث لهما: فإما (ثورة) تسقط كل هامات الثوابت والمسلّمات، وإمّا مرحلة (إصلاحٍ) طويلة، وأفضّلُ الأخيرة لكونها أكثر ثباتاً وأقواها تأثيراً وأحكمها تدبيراً، فالمجتمعات العربية ليست مهيّئة لتغيير ثوري، فهي لا تحمل بديلاً ثقافيا أو فكرياً سوى ما انكبّت عليه من ثوابت ومسلمات أو أنظمة سياسية، لذا فالتدهور الثقافي والاجتماعي والسياسي سيكون نتيجة لهذا النوع من التغيير لا محال، فمن أسقط أنظمة توليتارية أوتوقراطية؛ فإن الديموقراطية لن تكون بديلاً جيداً ولن تكون ذات فاعلية في ظل انعدام التجربة الديموقراطية، ففي الأخير ستكون المرحلة القادمة مرحلة تخبّط وانحلال على كافة الأصعدة. والممارسة السياسية تحتاج إلى وقت طويل لتتبلور في العقل العربي الذي فشل في ممارسة أدنى اختبار له في المجتمع العماني كانتخاب ممثل لمجلس الشورى (البرلمان) حيث اتسمت تلك التجربة بما اتسمت به من محسوبية ورشاوٍ وشراء أصوات وتغرير وضعف في الرؤى المستقبليّة، وهو الحال كذلك في الثورة الثقافية، فلو أن العلمانيين انتصروا في المعترك السياسي؛ فالعلمانية لن تكون الحل الأمثل في مجتمع عشعشت عليه الأنظمة الثيوقراطية لقرون عديدة، فكل ما سيحدث حينها هو إقصاء تام للدين وإذكاء الصراع الأبدي بين الثيوقراطيين والعلمانيين، وإنكار شامل لمنجزات الأديان الثقافية والمعمارية والاجتماعية على مر العصور. وإذا ما حدثت الثورة الاقتصادية من خلال انتصار أنصار السوق المفتوح والتنافس الحر للرأسماليين أو أساليب الإنتاج للاشتراكيين؛ فإن ذلك لن يجعل من دولة متخمة من أوجاع الديون والتضخّم والبطالة دولة اقتصادية عظمى، وكذلك هو الحال في الثورة الفكرية التي لو حدث وأجبِرَ الجهل على الانسحاب من المنافسة؛ فإن ذلك لن يجعل الواقع الديستوبي المرير دولة يوتيوبية عظيمة، فقد تشبّع المشهد العربي من عدّة محاولات في العقود الماضية من مفكرين عرب قدّموا مقترح: الإسلام هو الحل كحال عمارة، أو العلمانية هي الحل كحال فؤاد زكريا، فكل ذلك لم يلمس أي نتيجة في الفرد العربي المشبع بجراحات النقد، كنقد العقل العربي للجابري، أو الإسلامي لأركون. فقد اغتيل العقل العربي مراراً، نتيجة لحماسة المفكرين التوّاقين للتغيير في المجتمعات العربية. فالثورة بكافة أنواعها متى ما طالت مجتمعاً قاصراً فإن نتيجتها الخراب المستديم. والدول الاستبدادية ستواجه أزماتها المتكررة بالعنف، بسبب إفلاسها الأيدولوجي، كعدم وجود مبادئ أو أخلاقيات تعود إليها عند مواجهة الأزمات كما يعتقد هنتنجتون. فكيف بمجتمع وسلطة مفلسين معاً؟!
الإصلاح رحلة طويلة وشاقّة، تستدعي قراءة المشهد بتأنٍّ، وتأمل جراحاته وعيوبه، ونقدها نقداً مهذّباً تارة، ولاذعاً تارة أخرى، والإصلاح يقتضي الصبر الطويل، فحتماً لم يعتقد روسو بأن نتائج عقده الاجتماعي وموروثه الثقافي سيكون عاملاً رئيسياً في القضاء على سلطة دينية مستبدة، وسلطة سياسية أوليجارشية، واقتصاد إقطاعي عبودي، وأوليجارشية أرستقراطية، وبرجوازية معدومة الأخلاق، فبعد وصول المجتمع الفرنسي للوعي السياسي والاجتماعي؛ أدركوا تماماً بأن مقبرة عظماء الأمّة هي المكان الأنسب لما تبقّى من رفات فيلسوفهم العظيم والذي رفضت السلطة الدينية يومها أن يدفن في مكان نظيف أو كريم أو أن يدفن على تقاليد دينه؛ مسيحيّاً مؤمناً ومواطناً فرنسيا بالدرجة الأولى.
كان لتفكّك الاتحاد السوفييتي أو انهيار حلف وارسو أو سقوط الدول الشمولية والدكتاتوريات النخبوية قبل عدة عقود طمأنينة بأن العالم سيكون أكثر سِلما، ولكن طالما أنَّ بذور التخلف والعنصرية لم تطمر بعد؛ فإن العالم سيشهد صراعات مختلفة عما كانت عليه في الماضي: الصراعات الثقافية. فبعد أحداث الربيع العربي، تبيّن للشاب العربي بأنه ليس عاجزاً على التغيير، بل كان متحمساَ لتجربة لذة الانتصار بعد أعوام مظلمة انقسم فيها العرب محكومين إمّا بأنظمة مخابراتية وإما مذهبية وإما بوليسية، ولكن الشاب العربي أكثَرَ من التوهّج فاحترق؛ إذ لم تكن النوايا الحسنة كفيلة لإدارة بلاد بمؤسساتها الخدمية والعسكرية. فتبادَلَ الجميع التُهم وتقاسم البعضُ السلطة، وضاعت منجزات دولة في لهفة تغيير، ونشوة انتصار.
لقد قال لي أبي يوماً: “يا بني لا تحلم كثيراً بواقع أفضل، فدولة دكتاتورية بحكومة تكنوقراطية نخبوية تستطيع أن ترسي بالسفينة إلى بر الأمان”. لقد كان أبي محقاً. فقد كان يدرك بأن مصير المجتمعات العربية في ظل الجهل سيكون مأساوياً بلا حكومة مستبدة تعيد تقويم الاعوجاج. وقد أخطأ هيجل حينما اعتقد بأن عمليات التقدّم في المجتمعات البشرية لا تحدث نتيجة التطور الفكري وتبنّي العقلانية والعلم؛ بل بسبب التصادم الدائم التي تدفع الإنسان والآخر للثورة والحرب. والثورات العربية شاهد عيان على هذا الخطأ، فهذا التصادم الدائم بحاجة إلى حكماء يقودونه، وإلى أفراد يؤمنون بأن الحوار هو الوسيلة الوحيدة لحل النزاعات، وهو ما يفتقر إليه العالم العربي، فالمثقفون إمّا في منأى عن هموم العامّة، يعايشون قلقهم الوجودي بأنفسهم، وإمّا في حالة إقصاء تام من السلطة بعدة وسائل لاأخلاقية، كالاعتقالات أو قذف التهم.
على المثقف العُماني أن يدرك أمراً مهمّاً، وهو أنّه طالما يعيش واقعاً بعيدا كل البعد عن حوكمت المبادئ، فعليه أن يدرك أن سلطته تتعامل مع الأفعال بناءً على صاحب الفعل ذاته، وهو أمرٌ لا يحتاج إلى جهد جبار ليُفهمْ، فالسلطة تتعامل مع الأفراد بشكل العلاقة الثنائية بينهما، فإن كانت العلاقة جيدة، فالأفعال المحظورة يحدث أن تفسّر لصالحه دوماً أو يجد مخرجاً منها، والعكس صحيح تماماً، فالأفعال التي يقوم بها المثقف المشاكس هي محل شبهة وريب، فهو متهمٌ حتى تثبت براءته، وهو مخطئ حتى يوجد له مخرج، وهو خائن حتى يؤوّل فعله إلى تواطئ وحسب، وهو عميل حتى يثبت أنّه مجرد محب للثقافة الغربية. لذا عليه أن يستدرك الوقوع في الخطأ الدائم، ألا وهو إصراره على أنه كيان مستقل بالدرجة الأولى، وبأن الاحترام والثقة أمرٌ مستحق له من قبل العامة. فهو في الأولى يمارس أنانية مقرفة، وفي الثانية يمارس سادية جاهلة. عليه أن يتأكد بأن العامة وإن تاقت إلى الإصلاح الثقافي والسياسي؛ إلّا أنها ما تزال تعتقد بأن السلطة الدينية هي الأكفأ للقيام بهذا الدور، فهي الحارس الأمين والمؤتمن على ثوابت المجتمع ومقدساته. والأجدر من النخبة الثقافية أن تكسب هذه الثقة لتكون هي البديل متى كُتِبَ للمجتمعِ إصلاح أو ثورة.
كما على المثقفين أن لا يبدوا امتعاضاً بسبب انعدام بيئة حوار مشترك بينهم وبين بقية الفئات في المجتمع، فالمجتمع نتاج لموروثاته الثقافية الدينية والتاريخية. واتهام المجتمع بالتخلّف لن يساعد في شيء، بل يعمّق الهوّة بين الفئتين المناط بهما قيادة أو ثورة أو إصلاح، فاختلاف المنطق بين كليهما ليس أمراً هيّناً، فهو المحرك الأول لأي فتيل أو تشابك أو حقد أو إقصاء أو ازدراء. والحق يقال، بأن الفرق بين الفئتين أمرٌ عظيم بحاجة إلى ترقيع كي لا يزيد الشرخ على الراقع، فحينها لن تكفي مائة عام من الإصلاح طالما أن العامة ليس لديها أدنى مفاهيم للحرية والحقوق الفردية والمدنية والعدالة والمساواة.
إنَّ الوصول إلى الثيموس الأفلاطوني: المجد والاحترام والتقدير الذاتي، لن يكون بالتمسّح بغبار الماضي كتذكر أمجاد الأمّة الإسلامية أو التمدّح بقوّة المنصور أو عزم الرشيد أو علم المأمون أو سيف المعتصم، فحتماً لن يجد اليونانيون اليوم ملاذاً وحلاً لمشاكلهم الاقتصادية الوخيمة من خلال تذكّر البانثيون أو أكاديمية أفلاطون أو مجمع الفلاسفة أو مرتع الملوك أو ساحات الشجعان والنبلاء، فأيام المن والسلوى لن تحدث كل حين. والمشهد يُنبّئ بسنوات عجاف.