يقول جورج أورويل صاحب رواية مزرعة الحيوان في روايته الديستوبية الأخرى المعنونة بسنة 1984 كأحد فلتاته الإبداعية في أدب الخيال السياسي: “الجماهير لا تثور من تلقاء نفسها أبدا، كما أنها لا تتمرد أبدا لمجرد أنها مضطهدة. والواقع هو أن هذه الجماهير لا يمكن حتى أن تصبح مدركة لحقيقة اضطهادها طالما ظل امتلاك معايير للمقارنة غير متاح لها”. اتفق مع هذه الفقرة إلى نسبة كبيرة جدا لو قورنت بالواقع العماني، الواقع الذي تتشارك فيه جميع المجتمعات التي تعيش تحت وطأة نفس الظروف أهمها وجود سلطات مركزية توتاليتارية طوال عقود قادرة على تقنين مدخلات الوعي الجمعي عن طريق توجيه وتضخيم وتشويه المعلومة وحتى أيضا حجبها. ولهذا سعت هذه السلطات، عندما أحست أنها بدأت تفقد هذا الدور الشمولي في السيطرة على المعلومة مع ظهور مواقع التواصل الاجتماعي وفضاء الإنترنت المفتوح، باتباع منهج آخر لكن لا أستطيع أن أصفه بالجديد قدر ما هو بثوب جديد لغاية قديمة. فتُهْمتا المساس بالنظام العام والتقليل من هيبة الدولة(1) الجاهزتان المغلفتان عن طريق الأجهزة الأمنية والنيابية ما هما إلا وسيلتا استعادة سيطرة على المعلومة ومسارها. تدرك هذه السلطات كما أوضح أورويل أن فقدانها السيطرة يعني السماح لتوافر معلومات قد تدفع العقل الجمعي الموجه المستغفل المنوّم بأن يبدأ في امتلاك معاييره الخاصة وعقد المقارنات؛ لتكون المحصلة مع الأيام ارتفاع نسبة الوعي الجمعي وهذا ما لا تريده وتخافه السلطة. لأنه ببساطة ارتفاع نسبة الوعي لدى المواطن يعني إدراكه للواقع وللحقيقة مما سيؤدي إلى زيادة فجوة الاستقرار، وسيجد نفسه تلقائيا في صدام مباشر مع السلطة، تبدأ على مستوى المعلومة وقد تنتهي إلى صعيد آخر أكثر حدة وتطرفا. وهذا سيربك الاستقرار كما يطلق عليه نعوم تشومسكي عندما يصف منتقدا ركائز علاقة القوى العظمى مع هذه السلطات.
هذه القراءة، عبارة عن مقاربة لصور بانورامية لمشاهد عدة من الواقع العماني توضح مدى السيطرة التي تفرضها السلطة على مسار ونوع المعلومة التي يتلقاها العقل الجمعي بوعي ودون وعي وعلاقتها بفجوة الاستقرار. قد يساعد تسليط الضوء عليها في امتلاك بعض المعايير الدافعة للمقارنة. وأزعم -أو حتى أكاد أجزم-، يخطئ من يعتقد أن بناء وتشكيل الوعي الجمعي الذي قد يولد القوة لقول “لا” قد يأتي مباشرة بعد قراءة مقال أو كتاب أو حتى مشروع فكري فردي، هذا على مستوى الفكرة. أما على مستوى الزمن فهو يحتاج لفترة ليست بالقصيرة بتاتا تعتمد على عدد التجارب التي يواجهها أي مجتمع وسرعة التعلم منها. وبناء على فلسفة التاريخ الهيجيلية فإن العقل هو من يحكم العالم في نهاية المطاف رغم كل السوء والظلام ومظاهر الفوضى الذي تعيشه البشرية؛ فالتقدم باهظ الثمن جدا ويحتاج إلى تراجعات أحيانا ومواجهة مخاضات لكي يحصل التقدم.
فجوة الاستقرار: بين توقعات الشعب وقدرات الحكومة
هناك دائما مستوى قدرات تملكها الحكومة ومستوى توقعات تملكها الشعوب، وكل ما زادت هذه الفجوة بين مستوى القدرات وبين مستوى التوقعات زادت فرصة حدوث الثورات وعدم الاستقرار. ويرجع السبب في زيادة الفجوة بشكل مستمر إلى عاملين مهمين: الأول، أن الحكومة تقدم وعودا مستمرة في تحسين ورفع مستوى معيشة المواطن وفي شتى جوانب صميم مسؤوليتها مما يساعد في رفع مستوى التوقعات لدى الشعب، والنتيجة تكون خلاف ذلك. ثانيا، عندما يدرك “بعض” من الشعب مستوى القدرات الحقيقية للدولة، وهي قدرات أكبر مما تعلنه الحكومة عبر أجهزتها، مما ساعد في رفع مستوى توقعاتهم وتأثيرهم على الوسط الاجتماعي بآرائهم وفقد السلطة سيطرتها على المعلومة.
في 2011 كانت الفجوة في أعلى مستوى لها وهذا ساعد بالتأثر المباشر والسريع بشرارة الربيع العربي آنذاك. ورغم تلك الفجوة الحاصلة قبل الحراك، وكانت ظاهرة العيان، إلا أن الحكومة لم تبادر بتحركات فعالة لإدارة الفجوة قبل الحراك لأسباب أو احتمالات أهمها: 1- ربما الأجهزة المسؤولة لم تكن تدرك حجم تلك الفجوة وكانت بعيدة كل البعد عن الواقع وهذا دليل على ضعف الأجهزة في استقراء الواقع. 2- ربما لم تتوقع نهائيا تلك الأجهزة قدرة الشعب في التعبير عن غضبه ميدانيا، وكانت تتكئ على مستوى الخوف الذي زرعته في نفوس المواطنين طوال السنوات 40 السابقة وأيضا على مستوى سيطرتها على المعلومة، وهذا أيضا دليل آخر على ضعف التقدير.(2)
بيد أنه بعد الحراك حاولت تلك الأجهزة تدارك الوضع ليكون لصالحها عن طريق لملمة وترتيب أوراقها بطريقة ذكية والتركيز على نقاط القوة التي تملكها الحكومة. فنجحت بعمل ردات فعل ولو لم تكن مدروسة بشكل جيد، حيث ظهر الخلل بعد فترة وجيزة. وهذه طبيعة ردات الفعل بخلاف الفعل “المبادرة”. ساعدت تلك الكروت في تقليص تلك الفجوة، وكانت من أهم تلك الخطوات هي تلبية بعض المطالب المعيشية المؤقتة مثل رفع الرواتب والتوظيف وتقديم وعود لحل بعض مشاكل الشباب مثل توفير صندوق للزواج، الذي لم يرَ النور حتى الآن. في الوقت ذاته تجاهلت السلطة ولم تكترث لبقية المطالب الرئيسة وأهمها المطالب الإصلاح السياسي مثل الدستور التعاقدي، والفصل التام للسلطات الثلاث، ومنصب رئيس الوزراء، ومحكمة دستورية، وصلاحيات تشريعية ورقابية لمجلس الشورى.(3)
أصبح الشعب لديه واقعة قارّة في ذاكرته وهي حراك 2011، والتي تحاول الحكومة بشتى الطرق مسحها من الذاكرة الجمعية. هذه الواقعة مع مزيد من تسليط الضوء يمكن أن تشكل منطلقا نحو تطوير النقد الموجه للسلطة والتي تتحاور معه السلطة بطرقها المباشرة وغير المباشرة. صور جديدة من الصراع على المعلومة ستنشأ من هذا التكثيف على حراك 2011. وقائع جديدة يتم ربطها باستمرار مع تفاعلات الحراك الشعبي في 2011.
فكل ما قامت به الحكومة لإدارة تلك الأزمة هو حق مشروع لها، لكن أيضا للمواطن الحق في الشك والتساؤل ورفع مستوى توقعاته ولو أدى ذلك إلى زيادة الفجوة من جديد. وسأستخدم هنا لغة الأجهزة الأمنية، من حق تلك الأجهزة أن تعمل بكل وسائلها السلمية لتوجه نظر الشعب إلى الجزء المملوء من الكأس فقط، لكن أيضا من حق الشعب بعد النظر للجزء المملوء من الكأس، أن ينظر للجزء الفارغ من الكأس ويتساءل لماذا هو فارغ ويعمل وفق القانون سلميا لمعرفة ذلك. فقمة الإيجابية عندما تقارن وتنتقد وتقول الواقع وتذكر الحلول المناسبة إن استطعت، وقمة السلبية عندما تتهرب عن الواقع وتزيف الحقائق. السؤال الأهم الآن: ما مستوى حجم فجوة الاستقرار حاليا خاصة بعد ما فقد تقريبا أغلبية الشارع العماني الثقة في القضاء بعد تداعيات قضية صحيفة الزمن؟!(4)
وربط سياسة ردود الأفعال في مقارنتها مع سياسة المبادرات، بالتمييز بين التكتيك والاستراتيجية. الحكومة اتبعت في 2011 وما بعده مجموعة تكتيكات نجحت في وقتها في إعادة السيطرة على الأوضاع، ولكن هل أردفتها باستراتيجيات حقيقية لمعالجة المشكلات من جذورها؟ المؤشرات والوقائع تشكك في ذلك، وهذا يعني أن الحدث سيتكرر في المستقبل ولكن بأدوات جديدة وربما بعنف أشد. هذا التمييز بين التكتيك والاستراتيجية يمكن أن ينتج أفكارا كثيرة للنقد الموجه للسلطة وهي تدير منفردة جميع الملفات الداخلية تقريبا.
القانون: بين الواقع وتزوير الحقيقة
قبل فترة دخلت في حديث مع طالب جامعي في إحدى جامعات السلطنة الخاصة حول بعض المناهج وطبيعة التدريس وطريقة تعاطي المحاضر مع بعض القضايا السياسية والحقوقية والأسئلة التي ترافقها من قبل الطلاب بشكل عفوي ومنطقي. أتذكر وقتها كيف صرخت به حانقا كيف تسمحون بأن تُستغبوا بهذه الطريقة؟! رد عليّ ولا ألومه: “نريد أن نتخرج”. وتحمل هذه الإجابة احتمالين في المعنى المقصود: أولا نحن لا نكترث لصحة المعلومة قدر اهتمامنا لحفظ المعلومة وصبها في ورقة الامتحان وضمان الدرجة ثم التخرج، ثانيا دخولنا في حوار جاد مع المحاضر قد يعرضنا في البداية لتوبيخ المحاضر عن طريق سجل الدرجات ثم بعد ذلك للمساءلة الإدارية وقد تصل للتحقيق. ومن ضمن المسائل التي ناقشناها قضية فصل السلطات الثلاث التنفيذية والقضائية والتشريعية من عدمها، وقضية منح الصلاحيات لمجلس الشورى التشريعية والرقابية من عدمها. صحيح أن دور الاستغباء الذي يقوم به المحاضر عن طريق تشويه المعلومة ليس بفعل مستغرب بشكل عام؛ فالسلطة تمارسه بشكل يومي عبر قنواتها وأدواتها في استغباء مهين للمواطن، بيد أن يمتد هذا الاستغباء والاستخفاف للمؤسسات التعليمية وفي كليات القانون لهي مهزلة كبرى. مع العلم أن القضيتين لا يوجد لبس في جوهر حقيقتهما ومع هذا تمارس السلطة بجاحتها في الضحك على الذقون. فلو بدأنا في مسألة فصل السلطات، كيف نقول هناك فصل والسلطان قابوس هو رئيس أعلى سلطة تنفيذية كرئيس مجلس الوزراء، وهو نفسه رئيس أعلى سلطة قضائية كرئيس المجلس الأعلى للقضاء، وهو نفسه رئيس أعلى سلطة تشريعية كرئيس مجلس عمان! هذا لو تناسينا المناصب الأخرى بين وزير ورئيس مجلس أعلى. أين الفصل ولماذا لا تسمون الأشياء بمسمياتها وحقيقتها؟!
السلطة التشريعية:
هل يملك مجلس عمان هذه السلطة؟ ووصفتها بالسلطة لأن هذا هو جوهر وجود الصلاحية من عدمه. وحسب الموسوعة العربية “السلطة التشريعية تقترح القوانين وتقرها، وقد تشاركها في عملية اقتراح القوانين السلطة التنفيذية (الحكومة)، ولكن عملية التصويت على مشروع القانون لإقراره، تدخل ضمن اختصاص السلطة التشريعية وحدها، لا تشاطرها فيها سلطة أخرى من حيث المبدأ، ولكن بعد سن القانون تتولى السلطة التنفيذية مهمة التصديق عليه، وإصداره ونشره”. وهذا بخلاف ما نص عليه النظام الأساسي للدولة(5) كما سنلاحظ الآن. في المــادة (58) مكــررا (35): “تحـال مشروعـات القوانيـن التي تعدهــا الحكومـة إلى مجلـس عمـان لإقرارهــا أو تعديلها ثم رفعها مباشرة إلى جلالة السلطان لإصدارها. وفـي حال إجراء تعديلات من قبل مجلس عمان على مشروع القانون يكون لجلالة السلطان رده إلى المجلس لإعادة النظر فـي تلك التعديلات ثم رفعه ثانية إلى جلالة السلطان.” وفي المادة مــادة (58) مكــررا (36): “لمجلس عمان اقتراح مشروعات قوانين وإحالتها إلى الحكومة لدراستها ثم إعادتها إلى المجلس، وتتبع بشأن إقرارها أو تعديلها وإصدارها ذات الإجراءات المنصوص عليها فـي المادة (58) مكررا (35).” نلاحظ بشكل واضح وصريح أن المشرع وصاحب القرار النهائي هو السلطان قابوس. وليس هذا فقط؛ ففي المادة (58) مكــررا (39): “لجلالة السلطان إصدار مراسيم سلطانية لها قوة القانون فيما بين أدوار انعقاد مجلـس عمــان وخـلال فترة حـل مجلـس الشـورى وتوقـف جلسات مجلس الدولة.” يحق للسلطان قابوس إصدار تشريعات كيفما شاء في الحالات التي أشارت إليها المادة. وأخيرا وليس آخرا المادة (58) مكــررا (40): “تحال مشروعات خطط التنمية والميزانية السنوية للدولة من مجلس الوزراء إلى مجلس الشورى لمناقشتها وإبداء توصياته بشأنها خلال شهر على الأكثر من تاريخ الإحالة إليه ثم إحالتها إلى مجلس الدولة لمناقشتها وإبداء توصياته بشأنها خلال خمسة عشر يوما على الأكثر من تاريخ الإحالة إليه، وعلى رئيس مجلس الدولة إعادتها إلى مجلس الوزراء مشفوعة بتوصيات المجلسين، وعلى مجلس الوزراء إخطار المجلسين بما لم يتم الأخذ به من توصياتهما فـي هذا الشأن مع ذكر الأسباب.” تصرح أيضا بشكل واضح ومضحك أنه يا مجلس عمان بشقيه مجلس الشورى والدولة كل مقترحاتكم وتعديلاتكم حول مشروعات خطط التنمية والميزانية السنوية للدولة يستطيع السلطان قابوس ومجلس وزرائه رميها في أقرب سلة مهملات!
السلطة الرقابية:
وحقيقة وجود هذه الصلاحية. المــادة (58) مكــررا (43): “يجـوز بنـاء على طلب موقـع من خمسـة عشــر عضـوا على الأقـل من أعضـاء مجلس الشورى استجواب أي من وزراء الخدمات فـي الأمور المتعلقة بتجاوز صلاحياتهـم بالمخالفـة للقانـون، ومناقشـة ذلك من قبل المجلـس ورفـع نتيجـة ما يتوصل إليه فـي هذا الشأن إلى جلالة السلطان.” نصت المادة على صلاحية الأعضاء في استجواب وزراء الخدمات فقط، وهنا الإشكالية في حقيقة وجود صلاحية الرقابة أصلا. أو لنقل صلاحية خجولة لا ترقى لمستوى التصريح بحقيقة وجود السلطة الرقابية. وهذا يعني أن السلطان قابوس لا يمكن أن يحاسب لا بصفته رئيس الوزراء ولا بصفته وزيرا للمالية والدفاع والخارجية، حيث إن ذاته مصونة كما نص عليه النظام الأساسي، والوزارات التي يترأسها لا تدخل ضمن نطاق الوزارات الخدمية. الإشكالية الأخرى أن النظام الأساسي نسي أو تناسى متجاهلا، وفي النهاية سنصل للنتيجة نفسها، تحديد ما هي الوزارات الخدمية وما هي الأخرى وما صفتها. وهذا ما لعبت عليه السلطة فيما بعد عندما رفع 43 عضوا في الفترة السابقة رسالة طلب استجواب إلى رئيس مجلس الشورى لاستجواب وزير النفط والغاز جاء الرد من مجلس الوزراء أن هذه الوزارة تدخل في إطار الوزارات السيادية! وقد صرح عضو مجلس الشورى توفيق اللواتي في حسابه عبر تويتر بعد رد مجلس الوزراء: “السؤال ما هي الوزارات الخدمية؟ هذه نقطة خلاف، فحين تقدم أكثر من نصف أعضاء المجلس بطلب استجواب وزير النفط والغاز كان الرد من مجلس الوزراء أن وزارة النفط والغاز من الوزارات السيادية.”(6) الأنكى من ذلك، طلب استجواب وزيرة التعليم العالي حينها قدمه 16 عضوا وانتهى بشكل درامي وغريب لا يعلم حتى الأعضاء أنفسهم ماذا حدث. وحتى لو افترضنا تم الإجماع بالأغلبية من الأعضاء في حجب الثقة عن أحد وزراء الخدمات هل بيدهم القرار لتنفيذه؟ المادة (58) مكــررا (43) تقول “لا” والقرار يرجع أيضا للسلطان قابوس فقط. بدون شك سيحاول أن يبرر البعض بأن الصلاحيات يجب أن تمنح بالتدريج أو أن الشعب غير واع لتحمل الصلاحيات، وهذا لا يعنيني الآن لأنه محور آخر قدر ما يهمني هذا السؤال: لماذا لا تسمون الأشياء بمسمياتها وحقيقتها، لماذا تشوهون المعلومة؟! والحقيقة بكل بساطة هي أن قبل تعديلات 2011 كانت لا توجد أي مادة في النظام الأساسي تنص على وجوب تمرير أي مسودة مشروع قانون على مجلس عمان، والآن توجد. بالإضافة إلى حق 15 عضو في استجواب وزير خدمات، فقط. وحتى هذه الأخيرة نضع تحتها ألف خط.
الحاكم.. بين النقد والتقديس
“كلنا ندعي أننا نحب الحق ونريد نصرته من صميم قلوبنا، ولكننا في الواقع لا نحب إلا ذلك الحق الشعري الذي نلهج به دون أن نعرف حدوده في الحياة العملية. أما الحق الصارم الذي يهدد مصالحنا فنحن أبعد الناس عنه.” من العبارات التي ترسخت في رأسي بعد قراءتي كتاب “مهزلة العقل البشري” للمفكر وعالم الاجتماع علي الوردي رغم مرور على الأقل ثلاث سنوات، وهذا من النادر أن يحدث عند شخص مثلي ابتلي بضعف الذاكرة. بيد أن واقعية العبارة هي من فرضت نفسها بالقوة وقاومت امتصاص الثقوب السوداء لذاكرتي وما أكثرها. كيف سأنسى العبارة ولو أردت أن أتناسى وأنا أشاهد حجم التناقض الذي يعيشه “البعض” في منهجية النقد التي يتبعونها؟! وأعني بالبعض هنا المواطن المُغَيِّب والمُغَيَّب.
هل يعقل أن تنتقد مسؤولا ما على تقصير معين في أدائه كمسؤول في الدولة، ومن جهة أخرى نجد الشخص ذاته يقدس ويبارك ويهلل لمسؤول آخر في الدولة بدون أن يوجه له أو يفكر أن يوجه له أي انتقاد على أدائه في قضية معينة في يوم ما. مع العلم أن المسؤول الذي يقدسه يتحمل الوزر الأكبر أو مساويا منطقيا وأخلاقيا، لأن الأخير هو المسؤول الأول وهو من عينه وهو من يقيله. ما بالك لو كان هذا المسؤول “المقدس” هو الحاكم الذي يسيطر على جميع مفاصل الدولة كونه القائد الأعلى للقوات المسلحة وجميع سلطاتها الثلاث وكل مجالسها العليا وأهم وزارتها؟! الاحترام لا يعني التقديس، والانتقاد لا يعني عدم الاحترام، وكل مسؤول في الدولة مهما قدم للوطن يبقى مواطنا كغيره وإنسانا قبل ذلك، غير معصوم عن الخطأ وغير مرفوع عنه وغير منزه عن الانتقاد. هذا واجبه كموظف في الدولة وليس كرما ولا تكرما، بل حق للوطن والمواطن. وقد لا يدرك غير العماني ما أعنيه، لأن الكلمات أحيانا تقف عاجزة عن التوصيف بشكل دقيق للوضع القائم. الحاكم في عمان هو إله الخير فقط، وكل إله سواه هو إله الشر وكل عيبة ونقيصة.
ويقول أفلاطون: “نحن مجانين إذا لم نستطع أن نفكر، ومتعصبون إذا لم نرد أن نفكر، وعبيد إذا لم نجرؤ أن نفكر”. لكن في الواقع، التفكير يسبقه نقد ويرافقه نقد وينتهي بالنقد، لكن كل سلطة شمولية عن طريق سيطرتها الكلية على المعلومة عن طريق أدواتها ووسائلها كالإعلام وأجهزة المخابرات ومساندة وعاظها ومثقفيها، استطاعت بكل جدارة تطبيق النظرية المكارثية وشيطنة كل نزعة إصلاحية وكل دعوة هدفها التغيير في أذهان الناس. حتى أصبح مفهوم النقد لدى الكثير، ما هي إلا دعوات تخريبية مدعومة من منظمات مشبوهة. ولكن إذا حصل النقد ووجد طريقه وفرصته، جاء للأسف في الغالب مشوها ومقلوبا وناقصا للمنطق ولا تؤطره المبادئ. رسالة: كلما ساد الرأي الواحد باسم الوطنية اضمحل العقل ونهب الوطن، وكلما تعددت الآراء وتنوعت الأفكار تحررت النفوس وازدهر الوطن. من كان جزءا من المشكلة لا يمكن أن توكل له مهمة حلها.