ترددت سيمون دي بوفوار في تسمية روايتها الكبيرة “المثقفون” بين هذا العنوان وعنوان آخر هو “المشبوهون”، ففي رأيها أن هناك التباسا في ظرف المثقف يدفعه في أحيان معينة إلى العزوف عن أهم مبرر لوجوده وهو الممارسة السياسية والاهتمام بالشأن العام. فيتحول إلى كائن لاتاريخي لا يعود مهتما بمستقبل العالم نتيجة الخيبات والفشل التي يواجهها مع السلطة ومع عبثية العالم الذي يعيش فيه. سيمون تتأسف أن تكون كلمة المثقف شتيمة، وترفض ذلك انطلاقا من حساسية الدور الذي يلعبه هذا الكائن الذي هو في بحث مستمر عن استقلاليته العامة عن مؤثرات السلطة وإغراءاتها. لا يحصل العسكر ورجال الأمن على عشر السخرية والنقد الاجتماعي الذي يناله المثقف؛ وذلك ببساطة لأن دور رجل الأمن داخل في قلب السلطة التي تجردت وأصبحت دولة. وبالتالي يصعب الحكم على رجل الأمن بأنه يعمل لنفسه؛ وبالتالي فأي نقد على أدائه سوف يتوجه إلى الكيانات التي هو ذائب فيها. الأمر عكس ذلك لدى المثقف؛ فهو يعمل لنفسه ويشتغل على نفسه، واهتمامه بالمجتمع واشتغاله بالسلطة يأتي بااإنطلاق من موقع مستقل تماما هو موقعه نفسه كمثقف منتج للنقد ومحرك للأفكار ومستهلك للرموز والصور والإبداع.
المثقف يرفض التوقعات التي يرسمها المجتمع وينتظرها منه، فالتوقعات بالنسبة له ما هي إلا تصنيف وتنميط وتقييد لحركته. وهو يخسر المجتمع أو يخسر جزءا منه عندما لا يستجيب للمجتمع ويصر على فردانيته، ومن هنا تصيبه لعنة المجتمع. ويتحول المثقف إلى موضع للتندر والسخرية؛ كونه كائنا غارقا في أنانيته ونرجسيته. ولهذا فالحل الأسهل والأقصر لديه هو أن يتنازل عن هذا اللقب الذي لم يطلبه أساسا. هذا لا يعني أن المثقف منفصل عن المجتمع. بل بالعكس؛ المثقف في نهاية المطاف يريد أن ينهض بالمجتمع بما يعزز قابلية المجتمع لإدراك مرحلته التاريخية والتقدم للأمام. ولكن ما يرفضه المثقف هو الالتزام بالمحددات وأطر العمل التي يضعها المجتمع له. ولهذا يرسم لنفسه مسارا مستقلا، وفي الوقت نفسه يدخل في معركة لقصف وإزاحة من سيسميهم بمثقفي السلطة الذين احتلوا مكانه بعد انسحابه أو بعد تهميشه. وحيث إنه من البداية لا يوجد تعريف دقيق لكلمة المثقف؛ فيصبح الجدل متشعبا ومتشتتا. فنحن على الأرجح لن نعرف من هو صاحب الموقف الأكثر مشروعية وأخلاقية.
يمكننا أن نتحدث هنا عن معيارين يحددان مدى أخلاقية وجدوى السعي وراء السلطة لدى المثقف؛ وبالتالي تقييم المثقف لنفسه أو لأترابه. المعياران هما: المركزية في مقابل اللامركزية، والهرمية في مقابل اللاسلطوية. في الأول؛ المثقف يسأل: هل من يطلب السلطة يريدها متجمعة في مركز ويسعى ليقترب من هذا المركز؛ أم يريد أن يشتتها بحيث تتوزع فيصله شيء منها وهو في مكانه؟ وفي الثاني يسأل: هل من يطلب السلطة يريد أن يخدم الناس ليخدموه وفق التراتبية القائمة؛ أم يريد استحداث أشكال وقواعد جديدة للعمل بشكل مستمر؟ أجوبة المثقف على هذه الأسئلة تحدد له من الذي يصدق عليه “هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ”. ومن المؤكد هنا أن المشروعية في مواقف المثقفين تنطلق من مركزية ومحورية المثقف وهو ينظر لنفسه. لذلك فهو عندما يخاصم؛ فإنه يشبع هذه الخصومة لتبدو له مقنعة في قدرتها على التحطيم. وحتى عندما يضطر لأن يجامل فما ذاك إلا لأنه لا يستطيع بعد أن يجيب على تلك الأسئلة بشكل قاطع أو يكاد.
يتفوق المثقف على من سواه في قدرته على تجربة خيارات كثيرة يستطيع أن يلاحظها بحكم ما امتلكه من تجارب عادة ما تكون خلاصة صراعات خاضها بشكل مباشر أو غير مباشر؛ مع نفسه أو مع غيره. ولا نجانب الصواب إذا قلنا إن كثرة الخيارات هي نقطة القوة الوحيدة لدى المثقف. إنه يرى أكثر من غيره. ولهذا هو دوما قائد. قائد حتى لو كان على لنفسه فقط. وعلاقته مع السياسي علاقة الند للند. إذ هو أكثر من يستطيع اكتشاف الضعف في أداء السياسي. ولعل هذا يفسر سر الريبة والحذر من السياسيين تجاه المثقفين. بل وأغلب مشاكل الثقافة في مجتمعاتنا هي بسبب خوف السياسي على نفسه من المثقف، فهذا الأخير يمتلك سلطة أكثر عمقا من سلطة الدولة، بل إن سلطة المثقف هي الأهم اليوم القادرة على إزاحة السياسي من منصبه.
المثقف كيان مكشوف في الغالب. ورغم أنه مراقِب وشاهد على ما يجري أكثر منه منغمسا في صناعة الأحداث، ولكن لأنه يراقب وامتلك مناعة ضد الذوبان في السلطة ولا يكاد يتوقف عن التعبير عن ذاته؛ فهو مكشوف وواضح. ولهذا يسهل قصفه ومهاجمته، ولكن بالتأكيد ليس من السهل إزاحته. فكون المرء واضحا هو نقطة قوة أكثر منها نقطة ضعف. فالوضوح يعني تحول الإنسان إلى أفكار تضيء لمسافات، فمهما جرت محاولة إزاحة الإنسان؛ تبقى الأفكار التي يحملها ويبثها مضيئة ومهاجرة. مشكلة المثقف مع الوضوح فقط في أنه لا يستطيع أن يصنع تيارا يصمد ويتمدد على أرض الواقع. وخصوصا في بيئات تشكك في قدرة العمل المدني المستقل على سد فراغات الأداء السياسي للسلطة.
إن تحول الأفكار إلى تيار عام في المجتمع يتطلب عملا وجهدا يُجاوز طبيعة دور المثقف وأداءه. بمعنى آخر؛ يتعلق الأمر هنا بالجانب المهني لوظائف كالصحافة والنشر والمحاماة والإعلام والمسرح والسينما والأكاديميا والفنون عموما. تستطيع السلطة تحجيم المثقف وتشويهه؛ ولكنها لا تستطيع منعه من أداء مهنته فيما لو كان هذا المثقف صحفيا أو إعلاميا. فالوضوح والانكشاف الذي يعزز انتشار أفكار المثقف وبالتالي سهولة أن يكون له خصوم؛ يتبعه بالضرورة الجانب المهني فيه والذي عادة ما يكون خاصا ومرتبطا بالعمل المؤسسي المؤطر. فصناعة التيار المؤثر في المجتمع تنطلق من العمل المهني المتخصص أكثر مما هي في خطابات المثقفين العامة والموزعة في الكتب والعرائض والبيانات والمقالات والخطابات الشفهية. وهذا يفسر أهمية النقابات في العمل المدني، وفي الوقت نفسه يفسر التصنيف الجرامشي للمثقف إلى: مثقف تقليدي ومثقف عضوي. فالمثقف العضوي منغمس في وظيفته سواء كان طبيبا أو واقفا أمام آلة، بينما المثقف التقليدي مهتم بالأفكار والرموز والتصورات الكبرى؛ فاصلا بين العمل الثقافي وبين وظيفته.
يشعر المثقف بالمسؤولية تجاه المجتمع باستمرار، وهو لا يكاد يتخلص من هذا الشعور بحاجة المجتمع إليه؛ حتى لو تبرأ المجتمع منه. لأن قواعد العمل لدى المثقف لا تبدأ من اعتراف المجتمع به، بل من معرفته هو بمشاكل المجتمع وأمراضه التي يرفض المجتمع نفسه أو لا يرفض الاعتراف بها. إن المثقف يدرك بشكل دقيق الفرق بين العمل الفردي والعمل الجماعي، وهو وإن كان يميل للعمل بشكل مفرد؛ غير أن هدفه الكبير هو تحفيز وتنشيط وتوجيه العمل الجماعي، وهو لن يستطيع أن يقوم بهذا الدور بشكل فعال وكما يريد ويتوقع لنفسه فيما لو كان منخرطا في العمل الجماعي، وذلك لما يدركه من قيود وتشابكات وتعقيدات عندما يعمل مجموعة من البشر معا. تنشأ القيود تلقائيا في العمل الجماعي؛ إما على شكل قوانين وتشريعات وإما على شكل أعراف وتقاليد تؤطر العلاقات وتحدد طابعها العام، وكل هذه لا تناسب المثقف الذي يبحث بشغف عن البيئة الحرة البسيطة والمفتوحة للإبداع. وربما يفسّر ذلك ميوله للعمل على الأطراف كالمقاهي والساحات الجانبية وربما ميوله للسفر وتبديل المواقع وتغيير مواقع العمل باستمرار.
تبقى مشكلة المثقف الكبيرة والمزمنة؛ النخبوية. وهي مشكلة كبيرة لدرجة أنها يمكن أن تتحول إلى مقتل للمثقف. فعزوفه عن العمل الجماعي يمكن أن يكون لأنه يحتاج لبيئة أقل قيودا لينتج إبداعه، وهذا يمكن تفهمه. ولكن في أحيان كثيرة؛ يكون هذا العزوف بسبب النخبوية التي سوف تقلل من فرص استفادة المجتمع من ذكاء المثقف وإبداعه. النخبة في كل مجتمع هي فئة لا بد منها، ويلاحظها ويعايشها الجميع. تستقطبهم الدولة في اختيار كوادرها، كما تبحث عنهم الشركات والمؤسسات، وتستقطبهم مختلف الفعاليات المدنية وغير المدنية. وإلى هذا الحد لا تكون هذه الفئة واضحة، غير أنها في حالة المثقف تتجلى وتجلب إليها الأضواء مما يجعلها تحت مجاهر المجتمع. ولعل السبب في ذلك هو تلك القابلية للاندماج التي أضعف ما تكون في حالة المثقف، بسبب فردانيته وهو يلاحظ نفسه ويعي ذاته. المثقف هنا يبحث عن انتماء شروطه ومتطلباته قليلة، والتوقعات المرسومة ذهنيا بسيطة جدا، ولا يجد المثقف ذلك إلا في ظل أناس مشابهين لحالته وطبيعته وتجاربه أو قريبين من ذلك. بشكل موجز؛ يبحث عمن ليست له رغبة في انتهاك خصوصيته وفردانيته، ومن هذا الشعور تولد النخبوية التي قد تطور لاحقا في مسارات عدة تبعا لتفاعلها مع السلطة والمجتمع.
لا يمكن أن نرمي حالة النخبوية على المثقفين أنفسهم فحسب، إذ أنها تبدو وتتجلى أكثر عندما تفرض السلطة شروطا قاسية على المثقف للاندماج. كأن تمنعه من الكلام إلا عبر قنواتها، أو تضيق عليه فرص انتشار أفكاره، أو تطارده في بيئة عمله ووظيفته، أو تراقبه وتتجسس عليه، أو تشهّر به عندما يخطئ ويتعثر. كل ذلك يدفع المثقف إلى المزيد من الانزياح باتجاه الزوايا البعيدة؛ حيث هناك يجد أرواحا تشبهه صانعين معا ما ستسميه السلطة؛ متهكّمةً؛ النخبوية. إنها تنتقم منه بسبب رفضه الذوبان فيها؛ بأن تضطره إلى التمترس خلف انتماء يمكن ملاحظته وملاحقته بسهولة؛ انتماء على شكل حزب أو تيار أو نقابة أو مبادرة وفعالية ثقافية.
النخبوية لها حسنات كثيرة؛ ولكنها لا تتناسب إلى حد كبير مع العمل الاجتماعي المشترك. فالإبداع يتطور بشكل أفضل في ظل تفاعلات النخبة، ولكن لكي يجد له مادة وسوقا في الوقت نفسه؛ فيجب أن ينزل إلى الشارع ويمتزج بالحالة العامة اليومية. وهذا يتطلب باستمرار؛ أن يبتكر المثقف قواعد عمل جديدة للتحرك عرضيا لا طوليا. ويفترض أن تكون هذه خاصية مهمة لدى المثقف؛ كما ذكرت سابقا. أي تعدد الخيارات. خلاصة القول، إن المثقف كائن غني بتجاربه، قادر على أن يشق لنفسه مسارا بنفسه معتمدا على ذكائه، ولكن عينه ووعيه وهمومه دائما ما تكون متوجهة للمجتمع. الصراعات التي يخوضها مع مختلف المكوّنات يصنع القدر الأكبر من النقد والجدل الذي نسمّيه الحراك المجتمعي. فوظيفته كمثقف في غاية الأهمية؛ غاية ما في الأمر أن القبول بما يبتكره من مبادرات وأفكار جديدة للنشاط الاجتماعي وقواعد للعمل الجماعي؛ هو ما يحدد كيف وإلى أي مدى يستفيد كل من الدولة والمجتمع من المثقف.