من السهل جدا على أي نظام يتمتع بسلطة مطلقة التعلل بعدم جهوزية الشعوب للديمقراطية، وهذه الحجة وإن بدت غير منطقية إلا أنها تحمل جانبا من الصواب، وذلك إذا ما تحدثنا عن الديمقراطية كعملية تنموية للمشاركة الشعبية، تبدأ من أحقية المشاركة في صناعة القرار وحق تشكيل الأحزاب وتنظيم الحياة السياسية داخل المجتمعات، إلى الاستفادة من تطوّر العملية الديمقراطية عبر توسيع التوظيف أكثر، وتنوع استخدام الأدوات الديمقراطية بما ينظم العملية السياسية بعيدا عن أي مشاكل دستورية يخلقها تضارب عمل السلطات أو غياب الخبرة الكافية في مواجهة المشاكل الديمقراطية التي تنشأ عادة من آلية توظيف وتفعيل المساهمة الشعبية في صناعة القرار.
من المسؤول؟
حين لا يفهم المواطن البسيط أو المتعلم، الفرق بين توزيع السلطة وفصل السلطات، فذلك وإن كان مرده جزئيا يقع على عاتق المواطن نفسه، إلا أنه وبنسبة كبيرة تقع مسؤوليته على النظام السياسي؛ وذلك لغياب المفهومين عمليا في الدولة أو البلد التي يقطنها المواطن. وسبب هذا الغياب أو التغييب هو تعمد النظام أو السلطة إلى عدم تفعيلهم كأداء سياسي في الحياة العامة رغبة منها إلى الاحتفاظ بأوسع قدر ممكن من التحكم والسلطوية في كافة القرارات السياسية، وحين الحديث عن نظام ملكي أو سلطاني يتمتع بسلطة مطلقة، فنحن نتحدث هنا عن حاكم ذي سلطة مطلقة لا أحد يشاركه صناعة القرار ولا أحد يحاسبه أو حتى يراجع وراءه!
دور السلطة في تهميش الشعوب وإقصاءها
في عمان على سبيل المثال، بدأت تجربة مجلسي الدولة والشورى بالمجلس الاستشاري، قبل أن تتحول في العقد الثالث من دولة سلطان عمان الحالي قابوس بن سعيد إلى الصورة التي هي عليها الآن مع اختلاف بسيط في الصلاحيات والمهام. ولكن قابوس بن سعيد الذي وضع على نفسه عاتق تشكيل ما يسمى أو يوصف خطأ بأنه برلمان؛ هو نفسه الذي رفض ولا زال، توسيع صلاحيات الشورى، ولا زال السبب الرئيس خلف ذلك غير معروف للآن، إن كان رغبة منه في الاحتفاظ بقدر أكبر من السلطة، أو الركون إلى وجهة النظر التي تخلص إلى عدم جهوزية الشعب لممارسة الديمقراطية السياسية بشكلها الحضاري في بعض المجتمعات الغربية. ولكن غالبية الشواهد على أداء السلطة السياسية ترجح كفة الاحتمال الأول. خاصة وأن قابوس بن سعيد عادة ما يستخدم الأزمات الشعبية إلى تمكين شعبيته أكثر، عبر إلقاء اللوم على أي مسؤول ومن ثم إقالته، ويأتي بمسؤول جديد بنفس السياسة!
وكذلك وفي 1996 وضع سلطان عمان الحالي على عاتقه نشر مذكراته أو خواطره الخاصة لتكون دستور عمان الحالي -النظام الأساسي للدولة-، وهو تصرف غير محمود العواقب البتّة، وليس ذلك فقط لوجهة النظر الواحدة الغالبة على هكذا نوع من الدساتير، ولكن لغياب الدراسة الأكاديمية التي تبني قاعدة منطقية لأي بند قانوني، وغياب الجانب الحقوقي – لا يوجد في عمان قانون خاص بحقوق الإنسان- وقصر مفهوم الحقوق نوعا ما على الجانب الأمني فقط، أي في حالة اعتقال المواطن ما هي الواجبات والحقوق المترتبة له وعليه.
كما أن الطابع القبلي والمذهبي غالب على الشكل العام للدستور أو النظام الأساسي للدولة، وهو ما نلاحظه في المواضيع المتعلقة بالجنسية والزواج وانتقال السلطة..إلخ. وهذا دليل كاف ومتين على مسؤولية السلطة أو السلطان الحالي في ممارسة سياسة تشويه الديمقراطية وتقديمها على أنها مجرد “هدايا” أو “عطايا” يقدمها الحاكم لشعبه كيفما يريد ووقتما يريد!
دور الشعوب في إقصاء نفسها
ولكن كذلك، الشعب يتحمل جزءا من هذه المسؤولية، حين يتخلى عن حقه في المطالبة بهكذا ممارسة! طالما أن الفرد أو المجتمع، توفر لديهم من المعلومات ما يكفي للمطالبة بحقهم في دور مؤثر للمساهمة في صنع القرار السياسي، وأن عملية الذهاب للتصويت والاحتكام بالصناديق كطريقة أو كمؤشر على أن المجتمع يعيش حالة من الديمقراطية، ما هو إلا تضليل متعمد في غياب الآليات اللازمة لتفعيل العمل الديمقراطي، وأن الديمقراطية كذلك ليست فقط صندوق انتخاب!
كذلك الشعب ومن خلال تجربته مع حكومة السلطان الحالي، تبينت له مدى أضرار السلطة المطلقة على مستقبل البلد سياسيا واقتصاديا، وكان على الأقل، يتوجب عليه البحث عن آليات تتيح له “مراقبة” و”تحديد” سلطات الحكومة الواسعة، والدفع باتجاه مساءلتها بكافة مكوّناتها وعدم القبول بالتوزيع القائم على جهتي السيادة والخدمية. مع عدم نكران وجود بعض الأصوات الضعيفة من حيث العدد والتأثير كذلك، والتي تنادي إلى الإصلاح والقضاء على الفساد وإعطاء الفرصة لدماء جديدة أن تجد مكانتها في العملية السياسية من أجل ضمان وصول أفكار ومساهمات الأجيال الجديدة. هذه الأصوات عادة ما تصف نفسها بــ “الوطنية”، أي التي تنادي بالإصلاح مع الإبقاء على سلطات السلطان الحالي كما هي! وكذلك ترى في كل صوت معارض لسلطة قابوس المطلقة، أو التشكيك في نزاهته، هو خيانة وطنية وانقلاب على كافة الثوابت الوطنية الضامنة للاستقرار!
ولكن، هل يمكن وضع اللوم على من حاول المطالبة بالإصلاح؟ أو من قام فعلا بتقديم العديد من التصوّرات والسيناريوهات السياسية البديلة التي من الممكن أن تساهم إلى تغيير صورة الوضع السياسي الراكد؟ في حين أن السلطة تكافئ كل شخص يسعى إلى هذا الأمر بالتضييق الأمني والاحتجاز والسجن والملاحقة القضائية!
هل هناك منطقة وسطى؟
عادة، أمام خيارات متعلقة بالحقوق المدنية والحريات، فإن التفكير مجرد التفكير في إيجاد حلول وسطية يعد انتهاكا أو تمييعا لمفاهيم الحقوق. ذلك أن دمقرطة الشعوب إذا ما أصاب أحد مراحلها أي تحريف، فذلك يعني أن العملية بأكملها ستأخذ منحًى أو منعطفا خاطئا سيشوه العملية بأكملها. ولكن البعض كذلك، ولتجنب خسائر الأرواح أو الحبس لفترات طويلة والتغييب القسري، يبحث عن أكثر الوسائل “نعومية” ولطافة من أجل تمرير أفكاره.
وعطفا على نوع “الأصوات الوطنية” الذي أشرت إليه سابقا، فإن هذه الأصوات اليوم عادة ما تبدأ أي خطاب إصلاحي لها بمديح طويل لسلطان عمان الحالي، وذكر منجزاته في تشكيل هوية وطنية غير “مذهبية” حسب تعبيرهم. وأن عمان اليوم أحد الدول الأكثر استقرارا وسلاما وسط عالم مهتز! ولربما أجد جانبا من العذر لهذه الأصوات، التي تعمل أو تبحث جاهدا من أجل إيصال فكرة التغيير وضرورة تجنب مستقبل مجهول بسبب نتائج السياسة الحالية، لكن في الحقيقة إن تجاهل سبب المشكلة الحقيقية هو مشكلة أخرى! ووضع اللوم على مسؤولين صغار أو ظروف مجهولة أو أيادٍ خفية لا يعطي نتيجة أبدا، وأن الاحتفاظ بالأدوات نفسها أو الاعتماد على السياسة نفسها للوصول إلى نتيجة مغايرة هو تصرف، وإن أعطى نتائج مبشرة مبدئيا، إلا أنه سرعان ما يعود أسوأ من قبل.
وللتوضيح أكثر، وللتذكير كذلك بتجربة أحداث 2011 الاحتجاجية، حين عمد قابوس بن سعيد إلى استغلال بعض الأصوات التي برزت وبقوة فترة الاحتجاجات، وتوظيف بعض الأسماء القريبة والمؤثرة، فقد استقدم بعض الشخصيات للهيكل الحكومي، والتي كان معروفا عن بعضها نهجها المعارض -أو هذا ما أراده لنا البعض أن نفهم- لكن هذه الأصوات ولمجرد أنها أصبحت جزءا من الحكومة، أصبحت تدافع عن سياساتها -سياسة الحكومة- بشراسة! مع العلم، إن هذه السياسات هي نفسها التي كانوا ينشطون ضدها سابقا!
وهذا يوضح مدى إداراك السلطات الحالية لآلية استيعاب المشاكل وتحويرها، وتوظيف الأصوات المعارضة لها إلى أن تكون في البداية جزءا منها بحجة المساهمة في التغيير وتجديد الدماء، ثم التحول إلى مدافع شرس رغبة للحفاظ على المنصب أو المكانة السياسة التي تحصل عليها هذا الشخص في الحكومة.
في رأيي الشخصي، لا توجد هناك منطقة وسطى، ولكن توجد هناك حلول. على سبيل المثال، للتخلص من مشكلة السلطة المطلقة، لا بد من توزيع السلطة، وتكوين جهاز إداري رقابي يعتمد عمله بالتوازي على لجان منفصلة مستقلة مراقبة لأداء السلطة، لضمان عدم تضارب المصالح والمهام الوظيفية لكل سلطة وكذلك استقلاليتها من سلطة الفرد الواحد، خاصة بعد فصل السلطات الثلاث –التشريعية والتنفيذية والقضائية- مع توصيف مهام ووظائف كل سلطة -في عمان، يرأس قابوس كافة هذه السلطات-. هذا عادة ما يتبعه أو يسبقه وضع دستور سياسي محترم يقوم على كتابته عدد من الأكاديميين والقانونيين والاقتصاديين والحقوقيين…إلخ، وإنشاء محكمة دستورية تكون جهة قضائية أعلى من سلطة الحاكم والحكومة ومستقلة في سيادتها وقراراتها.
الخلاصة:
الحكومات في الشرق الأوسط وخاصة الخليج العربي، تتحمل الجانب الأكبر من غياب المشاركة الشعبية، ولعل الأدوات العقابية التي اتبعتها في ملاحقة ومعاقبة الأفراد المنادين بالإصلاح السياسي واحترام الحقوق والحريات، هو أكبر مثال على ذلك، حيث أعطوا انطباعا للعشوب أن الحقوق والحريات ما لم تأتِ كهبة أو منحة من الحكومات؛ فإنها عمل فوضوي الغاية منه تقويض استقرار البلدان وتدميرها.
ولكن هذا لا يجب أن يكون كذلك عذرا إلى تنازل الشعوب عن حقها في المشاركة في صناعة القرار السياسي والمساهمة إلى بناء تجربة ديمقراطية سليمة. وأن عدم إدانة الشعوب لأداء حكوماتها القمعي؛ أو عقابها لكل صوت مطالب بالإصلاح والتغيير والتحديث؛ هو مشاركة في تشريع الاستبداد، أو تشريع ابتعاد السلطات بالقرار السياسي بعيدا عن المشاركة الشعبية!