الأوضاع الجيوسياسية في منطقة الخليج كانت، وما زالت، غير مستقرة حتى بعد تأسيس مجلس التعاون الخليجي الذي أنيط عليه تقريب وتوحيد الأشقاء الخليجين سياسيا واقتصاديا وعسكريا وفي المجالات الخدمية الأخرى. بيد أن بعد موت معظم الآباء المؤسسين لهذا المجلس بدأت تتصدع أركانه وتظهر للعلن، وزادت المؤامرات والخلافات بين الأشقاء حتى وصل الأمر إلى ما وصل إليه اليوم ليختفي صوت المجلس وأمينه العام ويتم تجاوز أهم مواثيقه في الأزمة القطرية الخليجية. مجلة مواطن تجري حوارا مع الباحث أحمد المخيني، الاستشاري المستقل في السياسات العامة، حول قضايا خليجية وعمانية عدة.
- بنت عمان علاقاتها الحديثة مع دول الجوار على أساس الاحترام المتبادل وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للغير.
- من الخطأ تجاهل إيران في أي منظومة تشمل المنطقة لا سيما المنظومة الأمنية والاستراتيجية.
- المحللون السياسيون القريبون من الوضع في المنطقة يدركون أن إيران تسعى إلى نيل الاعتراف من قبل دول المنطقة.
- أنا من المشجعين لموقف عمان من حرب اليمن، وأحمد الله أن عمان نأت بنفسها وشعبها عن هذه الترهات.
- يبدو لي أن التحالف العسكري الإسلامي للاستهلاك الإعلامي أكثر منه لمحاربة الإرهاب حقيقة.
- على دول الخليج أن تتخلى عن المركزية والفوقية إن أرادت البقاء اقتصاديا وتتعاون فيما بينها بشكل تكاملي حقيقي لا تنافسي مبيد.
- الإخفاقات في سوريا واليمن وليبيا أوجدت بيئة مناسبة لترويج فكرة “اصبر على مجنونك حتى لا يأتيك من هو أجن منه“.
- الإصلاح في عالمنا يتطلب تحولا مفاهيميا وهيكليا في الدولة وعلاقتها بالإنسان.
- من أهم المطالب الإصلاحية التي أضحت ملحة الآن هو تعيين رئيس وزراء يخفف العبء عن رئيس الدولة ويسمح بمساءلة الحكومة ومحاسبتها.
- نشطاء الحريات والمجتمع المدني في عمان ودول الخليج محدودو الحركة ومقيدون بفعل الأطر القانونية من جهة، وبفعل الوضع الأمني المتهالك.
- المشهد السياسي لن يبقى على حاله، فالسلطات التي تتمركز حاليا في يد السلطان قابوس ستتفرق.
- إذا واصلت عمان نفس النهج التنموي وآليات صنع القرار، فسننقرض وتسبقنا الأمم.
حوار: محمد الفزاري
- كما نعلم، فإنك متخصص في السياسات العامات، ولهذا نود أن نسمع تقييمك حول عدة مواضيع خليجية تشغل الإعلام منذ سنوات.. ونبدأ بالعلاقات المتشابكة بين الأطراف الثلاثة التالية: إيران وعمان وباقي دول الخليج.. أين مصلحة عمان تكمن؟
المصلحة بطبيعتها ليست ثابتة، ولا ينبغي التمترس وراء أيدولوجيات فارغة أثبتت التجارب الإنسانية، لا سيما الحديثة، سرعة التراجع عنها بدافع المصلحة، وبالتالي يجب الحفاظ على جميع الجسور والقنوات التي تربط عمان بجيرانها المباشرين وغير المباشرين. وجدير بالذكر أن الاستعداء والمجاهرة بالعداء لم يكونا أبدا مفيدين في أي من العلاقات الدولية القائمة على فكرة سيادة الدولة، والمصلحة المشتركة، ما لم تكن هذه المجاهرة تكتيكا تحضيريا أو خطوة استباقية، أو أنه معد على سبيل الإلهاء أو الاستهلاك الموجه لفئة، حفاظا على الشرعية أو الولاء، ولكن ما يدور خلف الكواليس مختلف تماما. إن السياسة عموما والخارجية خصوصا تأخذ بعين الاعتبار الخطوتين التاليتين على الأقل لا الخطوة الأولى فقط، كما تأخذ الوجهة الأخيرة وكيف السبيل إليها.
لقد بنت عمان علاقاتها الحديثة مع دول الجوار على أساس الاحترام المتبادل وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للغير، ما لم يطلب منها وساطة. ومن هنا انطلقت السلطنة أولا في ترسيم الحدود مع جيرانها، ومن بعد حماية هذه الحدود والعمل ضمن أطرها، واحترام سيادة كل دولة وخياراتها.
ومن الخطأ تجاهل إيران في أي منظومة تشمل المنطقة لا سيما المنظومة الأمنية والاستراتيجية، فهي دولة ذات ثقل عسكري وبعد جيواستراتيجي يربط منطقتنا مع دول مؤثرة في قارة آسيا. كما أنه من الحصافة إن علمت أن جارك قد يضمر لك شرا أو أن بقدرته إحداث خلل ألا تستعديه وتبعده، بل تحاوره وتقربه لتعرفه عن قرب، ولتوجد متكآت للضغط إن أضحى ذلك ضروريا.
ومن الخطأ أيضا افتراض سوء النية أو افتعال شقاق بين إيران ودول الخليج الأخرى، وهو شقاق تروج له دول من خارج المنطقة لا تستقيم مصلحتها الآن أو أيدولوجيتها مع إيران، وهي مستعدة لأن تتخلى عن المنطقة بأسرها إذا ما غيرت إيران مسارها أو تمكن الطرفان من الاتفاق علينا. وحيث إن هذه الدول الخارجية لا تود أن تدخل في صدام مباشر هي مدركة أنها ستخسره، تقوم بحثّ دول المنطقة على استقبال المدفع مع آمال ووعود وكلام معسول.
المحللون السياسيون القريبون من الوضع في المنطقة يدركون أن إيران تسعى إلى نيل الاعتراف من قبل دول المنطقة بأهميتها وأن تتولى دورا استراتيجيا وأمنيا، أي لا تغيب تماما عن لوحة الشطرنج التي تتلاعب بمصائر دولنا، وما إن تشرك إيران بطريقة أو أخرى في وضع سياسة المنطقة سيتغير الخطاب المستخدم.
في السياسة، لا يوجد صديق دائم، بل مصلحة دائمة. ومما أثر عن الخليفة الراشد الرابع الإمام علي بن أبي طالب -كرم الله وجهه-: “أحبب حبيبك هونا ما عسى أن يكون بغيضك يوما ما، وأبغض بغيضك هونا ما عسى أن يكون حبيبك يوما ما.”
- ما هو تقييمك لموقف عمان من التحالف الخليجي في حربها على اليمن، والتحالف العسكري الإسلامي؟
أنا من المشجعين لموقف عمان من حرب اليمن، وأحمد الله أن عمان نأت بنفسها وشعبها عن هذه الترهات. أرجو أن يستحضر الجميع أننا في القرن الواحد والعشرين، ولسنا في القرون الوسطى، وبذا يجب علينا أن نستخدم وسائل أقرب إلى هذا العصر. نحن لسنا بحاجة إلى حرب في اليمن ولا في المنطقة، بل إلى حلول دبلوماسية تعتمد على الاحترام المتبادل وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للغير.
أما التحاف العسكري الإسلامي ضد الإرهاب، فلدي شكوك كثيرة بشأنه وفعاليته، فهو لا يعالج جذر المشكلة بل يحاول أن يعالج الأعراض بوضع ضمادات، ولا يبدو واضحا لي ماهية عملياته وتوجهاته، ويبدو لي أنه للاستهلاك الإعلامي أكثر منه لمحاربة الإرهاب والتطرف حقيقة. وما أذهلني في الحقيقة هو موافقة السلطنة المتأخرة على الانضمام إلى هذا التحالف، وأحسبه تم ضمن حسابات معقدة، إلا أنها في مجملها تسعى إلى موازنة المصالح ودرء المفاسد، وإلى توضيح صفاء النية وحسن الجوار للأشقاء في دول الخليج.
- حسب رأيك من هو / هم اللاعب أو اللاعبون الحقيقي في منطقة الخليج؟
في تقديري دول الخليج جميعها تساهم في لعبة السياسة، إلا أن هناك نقاط قوى اقتصادية ممثلة في المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة ودولة قطر تحاول أن توجد تمثلات عسكرية وأمنية واستراتيجية، وإن كانت غير متوازنة. أما سلطنة عمان ودولة الكويت فتحاولان أن تبتعدا عن الاستعراض المسرحي وأن تركزا على الشأن الداخلي لهما، وأن تقدما لدول الجوار العون والمساعدة في حدود الممكن. وفي أكثر من موضع طرح سؤال حول ما إذا كانت عمان ترغب في لعب دور أكبر في المنطقة والعالم، والجواب كان دائما لا، وذلك انطلاقا من الاحترام المتبادل وعدم التدخل في الشوؤن الداخلية للغير.
إلا أنه مما ينبغي استحضاره دائما أن المنطقة هي قطعة شطرنج يتناوب عليها اللاعبون الخارجيون من بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية والصين. أما الهند فلم تحدد بعد موقفها من ماهية وتوقيت اللعب المناسب. بالإضافة إلى ما سبق فهناك عدد كبير من المراقبين للوضع في المنطقة، وينتظرون الوقت المناسب أو الدعوة للتدخل، وكل ذلك من منظور المصلحة.
- هل نضوب النفط أو تقليل الاعتماد عليه كمصدر للطاقة سيلغي أهمية هذه الدول أم أن بعضها بإمكانه الحفاظ على أهميته من نواحي أخرى كأهميته الجغرافية أو اللوجستية؟
التحدي الماثل أمام دول الخليج هي أن اقتصادياتها غير حقيقية ولا تقوم بإنتاج حقيقي، ولا يوجد تراكم حقيقي للثروات والطاقات التي يمكن أن يعاد إنتاجها أو تتحول إلى عميات اقتصادية. أولاً، هي معتمدة أساسا على سلعة تستخرج وتباع، حتى القيمة المضافة الممكن إحداثها محدودة جدا بفعل ضعف البنية الاقتصادية، وبفعل تداخل دور الدولة التنظيمي والرقابي مع الأدوار الاقتصادية التي ينبغي القيام بها من قبل قطاع خاص حقيقي. وثانيا، معظم الدخل يستنفد في التحويلات الخارجية أو استهلاك دون عائد حقيقي، وثالثا: بسبب هذه الأمرين فالاقتصاد معتمد على الحكومة، والتي لا ينبغي أن تشتغل بالاقتصاد والتجارة.
هذا السؤال بدأ يؤرق بعض دول الخليج قبل حوالي 3 أو 5 سنوات، وبدأت تعمل من أجل إيجاد مرتكزات مستدامة لأهميتها أو موقعها على الخارطة العالمية. بعض دول الخليج ترتبط باتفاقيات عسكرية وأمنية مع دول كبرى، لكن ليس واضحا إذا كانت هذه الاتفاقيات قابلة للاستدامة لأسباب مادية ولوجستية أيضا.
معظم دول الخليج، مع اختلاف قدراتها، تستثمر مدخراتها بشكل مدروس واستراتيجي في دول أوروبا وآسيا، والولايات المتحدة الأمريكية، والبعض توجه إلى القارة الواعدة (أفريقيا) بشكل مكثف. من ناحية أخرى أوجدت دول كالإمارات العربية المتحدة (لا سيما دبي) لنفسها موطئا في صناعة المستقبل وفي إيجاد موارد دخل بديلة، وفي إيجاد شركات عالمية تقوم بإدارة موانئ وأصول خارج الإمارات، مكونة دائرة واسعة من التأثير، وبالتالي الأهمية. وتعمل دول أخرى مثل السلطنة والسعودية على أن تكون مصدرا للطاقة النظيفة والمتجددة. تشير الإسقاطات المستقبلية أن العالم بحلول 2030 لن يكون قادرا على إنتاج الطاقة التي يحتاجها، مع العلم أنه بحلول عام 2023 ستمثل الطاقة البديلة والمتجددة حوالي 60% من الطاقة المستخدمة في العالم. الوقت لم يفت بعد وأمام دول الخليج وشعوبها إن تعاونوا جميعا فرصة لإحداث تحول اقتصادي في بنيتها وتغير جذري في آلياتها، ولا أعني هنا الحكم الوراثي بالضرورة، فهناك توافق بين المحللين أن أنظمة الحكم هذه منحت قدرا من الاستقرار والاستمرارية ولا ينبغي التضحية بها فقط لمجرد التغيير.
التحدي الحقيقي الذي يواجه دول المنطقة والذي سيؤثر على استدامة أهميتها أو استمرارية فعاليتها وكفاءة إدارتها هو قدرتها على التعاون فيما بينها بشكل تكاملي حقيقي لا تنافسي مبيد كما هي الحال عليه الآن. على هذه الدول، إن أرادت البقاء اقتصاديا، أن تتخلى عن المركزية والفوقية التي تحلم بها كل دولة، وعليها أن تحدد الميزة النسبية لكل دولة وتدفع جميعها بهذه الدولة إلى التفوق عالميا، لأن الخير إن جاء إلى دولة ما من دول الخليج فسيعم، وإن أصابها شر فسيعم، فدول الخليج مكونات متداخلة لنظم اقتصادية واجتماعية وثقافية بالغة التعقيد تغطي المنطقة ككل، وما يحدث الآن أن التقسيمات الإدارية الحالية وانتشار مفهوم ضيق للسيادة بالإضافة إلى نزعات عاطفية وسياسية مما يمنع هذه الدول حقيقة من التكامل. هذه ليست دعوة لتشكيل اتحاد ولكن إلى تعاون وتكامل يعظّم من التجارة البينية والتبادل المعرفي دون خوف أو توجس أو تعقيدات، لأن هذين المسارين ييسران الطريق إلى تكامل أفضل بمرور الوقت، كما تشير تجارب التكتلات الاقتصادية. كما أن هذه ليست دعوة للتخلص من المصالح الوطنية لكل دولة، فهذا غير منطقي وغير عملي، ولكنها دعوة لتغيير الأولويات، ولدحض توجهات الهيمنة الاقتصادية والجغرافية، سعيا وراء تكتل اقتصادي يحترم كل عضو فيه العضو الآخر، ويقوم كل عضو فيه بدور محدد وواضح على خارطة طريق إلى وجهة محددة وواضحة للجميع ومتفق عليها.
- هل هناك فعلاً، كما يروّج البعض، مخططات لإعادة دمج أو تقسيم دول المنطقة.. وماذا عن الخليج العربي؟
لست ممن يعلمون الغيب ولا من الذين يرسمون الخارطات السياسية للدول، وإن كنت لا أستبعد ما يقال، لكني لا أعلم عن هذه شيئا. ديدني أن أعمل مع الحقائق الممكن استقراؤها على أرض الواقع، أما التخمينات والحسابات فتلك ضمن استراتيجية اللعبة التي لا أملك مفاتيح يمكن أن تساعدني في رسم سيناريوهاتها المقبلة.
- مؤخر بدأت تظهر وبشكل واضح وصريح حرب إعلامية طاحنة بين السعودية والإمارات بسبب خلافهم حول مستقبل اليمن.. لكن ما حدث مؤخرا بين قطر من جهة والإعلام السعودي والإماراتي من جهة أخرى كانت صدمة كبيرة للمتابع الخليجي والعربي.. من وجهة نظرك ما الذي يحدث ومن المستفيد؟
ما أعلمه حقيقة أن المتضرر الحقيقي من أي شقاق فيما بين الأشقاء هم الأشقاء، وأعني هنا دول الخليج وشعوبها. وأرجو الرجوع إلى إجاباتي السابقة فهي توضح المنطلقات التي ينبغي أن تكون عليها العلاقات الدولية.
- هل ساهم الربيع العربي في فضح الأنظمة الدكتاتورية، وخلق جيل جديد يستطيع المطالبة بحقوقه أم أن ما حدث مثلا في سوريا واليمن وليبيا جعل الأجيال الحالية تكفر بفكرة الإصلاح وتفضل عليها الاستقرار ولو كان تحت سلطة دكتاتورية على حساب الحريات والإصلاح؟
لقد ساهم الربيع العربي في فضح الأنظمة والذهنيات في العالم العربي، ولا أخفي القول إنني في مرحلة ما بدأت أشكك في قابلية شعوبنا وثقافاتنا ببنيتها الحالية للتحول الديموقراطي كما نعرفه الآن، مما يستدعي اجتهادا أكثر لتحقيق النتائج المرجوة من النظام الديموقراطي المتعارف عليه ولكن بآليات وطنية منبثقة من واقع مجتمعاتنا وثقافاتنا إن أمكن.
الإخفاقات في سوريا واليمن وليبيا، والتشكيك في وطنية من شارك في الربيع العربي، والتراجع الأمني الكبير في العالم، والازمة الاقتصادية، كل ذلك أوجد بيئة مناسبة لترويج فكرة “اصبر على مجنونك حتى لا يأتيك من هو أجن منه” أو “عصفور في اليد ولا عشرة على الشجرة.” إلا أن الإشكالية الكبرى في رأيي تتمثل في أمرين: الأول تقعيد الشاذ وتطبيعه، أي أن يصبح الأمر الشاذ عقلا ومنطقا وقانونا أمرا طبيعيا ويتحول إلى قاعدة للسلوك والتفكير. وتكمن خطورة هذا الأمر في تشكيل شخصية وطنية تعاني من فصام وتعزز من التنافر الإدراكي للفرد، وتكرس من التناشز المعرفي المؤسس للسلوكيات على الأصعدة العامة والشخصية والخاصة والفردية والجمعية، مما يفضي إلى حالة متواصلة من عدم الرضا والسلبية دون إدراك سبب معين لهذه الحالة. والأمر الثاني استمرار الهوة بين الأجيال (العمرية والتقنية) والذهنيات؛ فتضييق الخناق على الحريات والتشكيك في وطنية أو “ولاء” من يعبر عن رأيه دفع بالكثيرين إلى ما تحت الأرض، وأوجد نماذج تشرعن ما تقوم به الحكومات في العالم العربي من تواصل جيلي، وتخلق إحساسا كاذبا بالطمأنينة والاستقرار للأنظمة وتخلط ما بين الاستكانة المؤقتة ورضا الشعب.
الإصلاح في عالمنا يتطلب تحولا مفاهيميا وهيكليا في الدولة وعلاقتها بالإنسان، وهذا بطبيعة الحال سيقتضي تضحيات يتورع عن الإقبال عليها الكثير لأنهم غير متأكدين من أن هذه التضحيات سوف تجدي نفعا، فهي بحاجة إلى توافر زخم متنام من العمل الإصلاحي الفكري والاقتصادي والاجتماعي يوفر لها محركا نفاثا.
- كيف ترى حراك نشطاء الحريات والمجتمع المدني في عمان والخليج، وما تقييمك للحراك الشبابي وحالة المجتمع المدني؟
نشطاء الحريات والمجتمع المدني في عمان ودول الخليج محدودو الحركة ومقيدون بفعل الأطر القانونية من جهة، وبفعل الوضع الأمني المتهالك في المنطقة ككل من جهة أخرى والقلق من تغيير أي استقرار ماثل ولو كان مؤقتا، ومن جهة ثالثة وجود ضبابية في دور المجتمع المدني وخلط بين العمل الحقوقي والعمل السياسي.
الحراك الشبابي مطرد النمو ولكنه لا يراوح العمل الخيري والعمل التطوعي، وهو أمر مهم وضروري وإن كان غير كافٍ للدفع بالتنمية والعدالة الاجتماعية قدما. ما نحن بحاجة إليه الآن بالإضافة إلى جميع ما يتم تقديمه من عمل مدني من قبل الشباب هو جهد تنويري يستهدف توعية الإنسان بذاته وحقوقه وواجباته، وإلى إثراء الإنسان معرفة ومهارة، وتوسيع مداركه ليحقق ذاته.
- هل تعتقد بأن تقارير المنظمات العالمية جميعها منصفة ودقيقة؟ أم أن بعضها يحابي بعض الدول في المنطقة على حساب اخرى كما يتم الإشارة لذلك أحيانًا؟
كوني عضوا في اللجنة الاستشارية لإحدى هذه المنظمات يجعل شهادتي مجروحة. إلا أنه يمكن القول إن هذه التقارير تنقل أيدولوجية قد تختلف بشأنه الدولة، وعند اختلاف الأيدولوجيات ما يكون مباحا وطبيعيا لدى شخص يبدو محرما وإجراميا مع شخص آخر. ومن هنا أنا أشجع الدول على وعي الأطر المفاهيمية والمرجعيات القانونية والحقوقية التي تستند عليها هذه التقارير. بالإضافة إلى ما سبق فإن محتوى هذه التقارير يعتمد على نوعية وكمية البيانات المتاحة ومدى تفاعل الجهات الرسمية في هذه الدول مع تلك المنظمات، والقاعدة العامة أن تجاهل الشيء لا يجعله يذهب أو ينتهي أثره، بل ينبغي التفاعل واستغلال الفرصة لإحداث التغيير المطلوب ولو بعد حين.
- ننتقل إلى الوضع الداخلي في عمان.. ما أهم المطالب الإصلاحية التي تود أن تراها في عهد السلطان قابوس ولماذا؟
من أهم المطالب الإصلاحية التي أضحت ملحة الآن هو تعيين رئيس وزراء يخفف العبء عن رئيس الدولة ويسمح بمساءلة الحكومة ومحاسبتها، إلا أن الغرض الأهم من تعيين رئيس وزراء هو لملمة شتات الحكومة. مما لا يختلف عليه اثنان أن الأوضاع الاقتصادية الحرجة التي تمر بها السلطنة الآن من جراء انخفاض أسعار النفط العالمية، وسياسات اقتصادية لم تحقق أهدافها المرسومة، أظهرت أن الحكومة لا تعمل كفريق واحد، وأن هناك لوما متبادلا وتناكصا عن تحمل المسؤولية تضامنيا، رغم أن هذه المسؤولية منصوص عليها في النظام الأساسي للدولة. إن الشعب لا يبحث عن كبش فداء ولكن عن حل، يبحث عن شخصية تتحدث إليه وتبث فيه الأمل وتستنهض فيه الهمم، منصب يخبره بما يجري ويوضح له الأمور، مما سيشجع كل من الأفراد والمؤسسات والقطاع الخاص والمجتمع المدني أن يدلو بدلوه للخروج من هذه الأوضاع ولنحقق تنمية مستدامة. إن هذه الأمور جميعها ليست من مسؤوليات رئيس الدولة، ولكن من مسؤوليات رئيس الوزراء.
إن ما نحتاجه الآن هو رئيس وزراء ينزل إلى الميدان ويراقب الأوضاع عن كثب ويتخذ قرارات سريعة يتحمل مسؤوليات نجاحها وفشلها.
ومن المطالب الإصلاحية الأخرى ما ذكرته آنفا بخصوص تعديل النظام الأساسي للدولة. وأخيرا تفعيل الهيئة الدستورية في السلطة القضائية أو إنشاء محكمة دستورية. إن ذلك من شأنه أن يسهم في تطوير المؤسسات وتحديد الأدوار وتفعيل الرقابة المتبادلة بين أجهزة الدولة المختلفة وتحقيق قدر عال من الطمأنينة والثقة.
- ما هي توقعاتك حول خليفة السلطان ولماذا؟
من الصعب التكهن بخليفة السلطان، فهناك أشخاص كثر يتجاوز عددهم 80 شخصا ممن يحق لهم قانونا تولي هذا المنصب، لكني أستطيع القول إن هناك 7 أو 8 أشخاص من بين هؤلاء الذين يحوزون حظا عاليا في الوصول إلى هذا المنصب، وذلك بناء على معايير عملت عليها خلال بحثي في هذا الموضوع. أما ما يمكن القول به بكل ثقة أن المشهد السياسي لن يبقى على حاله، فالسلطات التي تتمركز حاليا في يد صاحب الجلالة السلطان قابوس ستتفرق، فعلى سبيل المثال من المتوقع استحداث مناصب جديدة لتترجم هذه السلطات وليشغلها أشخاص ممن يتنافسون على العرش، كما يمكن القول إن توزيع الثقل السياسي بين الأسرة الحاكمة والأسرة المالكة سيبدو أكثر وضوحا، وإن كانت كفة الأولى راجحة، ومما يزيد في هذا تداخل هاتين الأسرتين بفعل الخؤولة والنسب والمصالح التجارية.
- ما رأيك حول آلية انتقال الحكم في عمان.. إيجابياتها وسلبياتها؟
في ظل تاريخ الأسرتين الحاكمة والمالكة الدموي، يبدو لي أن هذه الآلية مناسبة، وهي قابلة للترويج من منظور ديني، وكذلك من منظور براغماتي ومصلحي. أما المنظور الديني فهو الشورى والتوافق كتجسيد لدور الأمة في اختيار قائدها مع وجود الوصية كصمام أمان، وهذا أمر كان معمولا به أيضا في الأسر الصينية الحاكمة القديمة. أما المنظور البراغماتي المصلحي، فإن المتنافسين إن تساوت فرصهم في الفوز فهم أمام خيارين: الأول ألا يتفقوا وبذا يتطلب الأمر أن يرجعوا إلى الوصية التي قد تنصّب شخصا لا يعرفونه ولا يملكون ورقة ضغط عليه، والخيار الثاني أن يتنازلوا قليلا عن حلم امتلاك فرد منهم كامل السلطة مقابل شرعية مستندة على تحالفات وتوازنات تعطي كلا منهم ورقة للتفاوض، ومن هنا لابد وأن يتعاونوا ويتفقوا على شخص. ومن هنا أيضا فهي في تقديري قد توصل إلى توافق وتحقيق قدر من الشرعية للسلطان القادم مما سيحفظ لنظام الحكم استقراره.
إلا أننا لا يمكن أن نغفل سلبية هذا الآلية. ففي نظام تتمركز فيه جميع الصلاحيات والسلطات في يد رئيس الدولة، مع نظام أساسي للدولة يسهل تغييره أو إلغاؤه بدون وجود مجلس يعنى به أو جهة مكلفة بحمايته، فإن هذه اللحمة الوطنية وهذا الأمن والاستقرار والعلاقة الأبوية المتجذرة بين “صاحب الجلالة السلطان قابوس” والشعب كلها قابل للزوال، إذا ما تصرف السلطان القادم على نهج مخالف لحكمة “صاحب الجلالة السلطان قابوس” في تعاطيه مع الأمور. ومن هنا ينبغي تعديل النظام الأساسي للدولة الآن بينما السلطان قابوس بين ظهرانينا، بحيث يوضح شكل الدولة والمشهد السياسي وعلاقة المؤسسات فيما بينها وتوازناتها في مرحلة ما بعد وفاته أو عند شغور المنصب، بدل تركها للأهواء والظروف، وبحيث أيضا تتغير آلية تعديل النظام الأساسي للدولة المنصوص عليها حاليا وهي بموجب مرسوم سلطاني إلى أن يكون تعديله بموجب استفتاء شعبي أو تصويت مجلس عمان أو الاثنين معا، مما سيضمن استقرار الحقوق المكتسبة إلى الآن ويوجد قدر من الاطمئنان للشعب. بهذا النوع من التعديلات سيقدم “صاحب الجلالة السلطان قابوس” هدية خالدة لعمان الحديثة. إن التعديلات المقترحة لا تقيد “صاحب الجلالة السلطان قابوس”، بل يمكن استحداث فصول وتغيير الصياغات في النظام الأساسي لتحفظ للسلطان قابوس مكانته حيا وميتا كمؤسس للدولة العمانية الحديثة، وتوضح خارطة الطريق لاستقرار وأمن مستدامين.
- ما توقعاتك لأهم الخطوات التي سيقوم بها السلطان القادم.. وما أهم الإصلاحات التي يجب أن يقوم بها ليضمن استقرار البلد؟
على السلطان القادم كخطوة استراتيجية القيام بأمرين؛ الأمر الأول توزيع الصلاحيات والسلطات المتمركزة حاليا في يد “صاحب الجلالة السلطان قابوس”، وتشجيع المؤسسات القضائية والتشريعية والرقابية لتقوم بعملها دون تدخلات، والأمر الثاني هو توسيع المشاركة الحقيقية للشعب في صناعة القرارات الوطنية. وهناك خطوات كثيرة يمكن أن تتخذ في هذا الشأن لا يسعني الخوض فيها بتفصيل، ولكن على سبيل المثال لا الحصر تفويض قدر أكبر من الصلاحيات التخطيطية والتنفيذية للمجالس البلدية، وتشجيع تأسيس بيوت خبرة متخصصة، ونقل مهام الإشراف على المهن إلى نقابات متخصصة، وتمكين مجلس الشورى من محاسبة الحكومة فعليا، مما يتطلب تعيين رئيس وزراء ليقود الحكومة بدلا عن رئيس الدولة المحصن بموجب النظام الأساسي للدولة، وغير ذلك من الخطوات.
ما نحن بجاجة إليه حقيقة هو الاستثمار في المعرفة الإنسانية، وفصل الإدارة عن الأفراد ونقلها إلى مؤسسات تراقب بعضها بعضا يشفافية ووضوح، وبناء اقتصاد حقيقي.
- أين ترى عمان بعد السلطان القابوس، محليا، خليجيا، عربيا، بعد 5 سنوات وبعد 20 سنة؟
عالمنا متغير بشكل سريع جدا من الصعب تخيله. إن المطلع على سيناريوهات المستقبل ليدرك أننا إذا واصلنا نفس هذا النهج التنموي وآليات صنع القرار، فسننقرض وتسبقنا الأمم. إلا أنه يدفعني إلى الأمل والتفاؤل ثقتي بأن الشعب العماني شعب عظيم عانى من ويلات الزمان واستطاع بفضل الله وبفضل إيمانه بقدرات أبنائه وبصبره أن يتخطاها ويصل إلى مراحل متقدمة من النهضة والإنسانية. هذه الثقافة الراسبة هي التي تعطيني الأمل بأن القادم أفضل.