يتصاعد الصراع الفكري بين تيارات الإسلام السياسي والتيارات العلمانية في العالمين العربي والإسلامي. يجب التأكيد بداية على ضرورة استخدام مصطلحات دقيقة في وصف تيارات الإسلام السياسي في نقاشنا هذا لأسباب عديدة على رأسها أن الإسلام كدين لا يشكل، بل ويجب أن لا يكون، حزبا سياسيا لأن الدين يصبح عنصر تفتيت للمجتمعات العربية والإسلامية التي يشترك بها المسلم مع غير المسلم كأوطان للجميع. حتى وإن سلمنا أن دولة ما كامل مواطنيها هم من المسلمين فإن الإسلام السياسي يظل غير صالح لحكمها في ظل التعدد المذهبي والطائفي والفكري بين المسلمين أنفسهم. وإذا تجاوزنا كل ما سبق وسلمنا أنه من الممكن أن يكون هناك دولة كل مواطنيها من المسلمين المتطابقين في عقائدهم، فإن المشكلة تبقى قائمة إذا ما اعتبرنا أن السياسة هدفها تنظيم الصراع السلمي على السلطة لتنفيذ برامج تخدم كل المواطنين في بلد ما وليس إنهاء الصراع على السلطة بوصول الإسلاميين الى الحكم وإنهاء تداول السلطة بالاحتكام إلى الناخب بشكل دائم عن طريق صندوق الاقتراع. المعضلة أن دعاة الإسلام السياسي يرفضون فكرة أن الإسلام كدين لا يمثل مصالح سياسية مشتركة ولذلك لا يمكن لجهة أو شخص او حزب او دولة بعينها أن تمثل كل المسلمين سياسيا لأن المسلمين لهم مصالح سياسية مختلفة.
ومن جهة أخرى يتوجب التنويه أن من يُدخل الإسلام في معترك السياسة هو من يحوّله بالضرورة إلى خضم التفنيد والنقاش والنقد مما يسيء لمشاعر المسلمين الذين ينزهون الدين عن العبثية السياسية التي لا تتناسب مع مكانة الدين الروحية والعقائدية. تصور مثلا عشرات الأحزاب الإسلامية تتنافس بينها على الحكم وتستخدم الآيات والأحاديث ضد بعضهم بعضا وهو سيناريو محتمل إذا أصبح الدين جزءا من اللعبة السياسية.
تجدر الإشارة إلى أن من فتح باب نقد و نقض وتفنيد الدين هم من أصروا على إدخاله في السياسة وليس من دعا إلى بقائه خارج الصراع السياسي. ولكن دافع إقحام الدين في السياسة ما هو الا تكتيك سياسي بحت يهدف إلى جعل الأحزاب العلمانية عرضة للتكفير والقدح والتشهير وهو ما فعلته الأحزاب الإسلامية وتفعله كلما سنحت فرصة الدخول في تنافس انتخابي مع أحزاب علمانية أو غير دينية.
تيارات الإسلام السياسي إذا هي أحزاب سياسية يميزها عن غيرها أنها تلعب لعبة مزدوجة، فمن ناحية تقدم نفسها للرأي العام من جمهور المتدينين على أنها أحزاب دينية إصلاحية “زاهدة” في السلطة وتهدف فقط إلى تخليص الناس من “السلطة” الفاسدة، وفي نفس الوقت يقدمون أنفسهم بين الحزبيين وأمام الحكومات على أنهم مجرد أحزاب سياسية لها برامج يعرضونها على الناس الذين لهم حق قبولها أو رفضها والتصويت لمنافسيهم.
وبناء على هذه الازدواجية، يحق لمن ينافس الأحزاب الإسلامية أن ينزع عنها صفة “الإسلامية” لأنها تستخدم الدين كغطاء وأداة سياسية. الأحزاب العلمانية التي تنافس الأحزاب الدينية على الساحة السياسية يحق لها أن ترفض تسمية الحزب الديني بالحزب الإسلامي بل إن من واجبها أن تفضح برامج وأجندة المتأسلمين بتبيان الازدواجية وفضحها. ولذلك يصبح من الواجب إطلاق إسم الحزب “المتأسلم” على من يصر على توظيف الدين في السياسة.
ترويج الفكر السياسي العلماني الذي يتعارض مع برنامج المنافسين من المتأسلمين يستوجب عدم المساهمة في الترويج للأحزاب التي تتستر بالإسلام بإطلاق اسم “حزب إسلامي” عليها. بل إن العلمانية من باب المبدأ ترفض إيلاج الأديان في اللعبة اللعبة السياسية واستخدامها للوصول للسلطة، ومن باب تسمية الأمور بمسمياتها يجب الإشارة إلى أن الحزب الذي يحاول الوصول للسلطة بتوظيف الدين سواء عن طريق الانتخابات أو بغيرها هو حزب متأسلم بمعنى الكلمة السلبي والذي يعني التستر بالإسلام للوصول للسلطة.
إطلاق وصف “حزب متأسلم” على من يرفعون شعارات إسلامية ليس اتهاما لهم كأشخاص بالنفاق الديني فهناك الكثير ممن يمارسون العمل السياسي تحت يافطات إسلامية هم من المتدينين بصدق وممن يؤمنون -خطأً – أنهم يخدمون الإسلام والمسلمين بدمج الإسلام بالحراك الحزبي بهدف الوصول للحكم. إطلاق اسم حزب متأسلم إذا هو توصيف ينطبق على الحزب كفكر لا على الأشخاص ونواياهم أو إيمانهم.
اللعبة المزدوجة التي تلعبها الأحزاب المتأسلمة تجعل صراع التيارات العلمانية معها ليس صراعا مع أحزاب تقليدية، فعلى الرغم من تأكيد الأحزاب المتأسلمة أنها تقبل التعددية والصراع الديمقراطي في معركة الوصول للسلطة إلا أنها في الواقع تستخدم أساليب بعيدة عن الممارسة الحزبية العادية لأنها لا تتردد في نعت الأحزاب والتيارات العلمانية بالكفر والردة في صراعها معها، وهذا سبب وجيه آخر للإصرار على إطلاق وصف “الأحزاب المتأسلمة” عليها لأن توظيفها للتكفير والتشكيك هو تكتيك يكشف أنها فعلا أحزاب متسترة بالدين، اللهم إلا إذا كان القارئ يظن أن التكفير والإقصاء والتهديد هي جزء من الإسلام فعند ذلك نخرج جميعا من إطار العمل الحزبي السلمي إلى مكافحة الإرهاب الذي يتميز باللجوء لحمل السلاح ضد من يريد فرض إرادته السياسية وحكمه على بقية المجتمع بالتخويف والتهديد بدل الاحتكام إلى صندوق الاقتراع.
العمل الحزبي يتميز بطبيعته بالصراع على السلطة سلميا وهو بعيد في أحيان كثرة عن المثالية، ويتم استخدام أساليب القدح والتشهير والفضائح كما هو الحال في أرقى الأنظمة الديمقراطية. اشتراط توقف الأحزاب عن استخدام ورقة الدين في الصراع السياسي بعيد المنال، ولكن هناك ضرورة واقعية للتعامل مع الحزب المتستر بالإسلام ومصارعته رغم استخدامه التشكيك والتكفير واتهام العلمانيين بالانحلال والعمالة وغيرها من قائمة الألقاب التي يتم توظيفها سياسيا للدين بهدف نزع الشرعية عن غير ما هو ليس متأسلم.
الأحزاب المتأسلمة لا تستخدم سلاح التخوين والتشكيك الديني فقط ضد العلمانيين فقد استخدموه ويستخدمونه ضد أحزاب إسلامية مثلهم وهذه النقطة مهمة في فهم سبب إصرار الأحزاب العلمانية على إبقاء الدين خارج السياسة لأن توظيف الدين يهدف دائما إلى حماية الفساد والقمع بتبريرات دينية غير قابلة للنقاش والانتقاد.
صراع الاحزاب الدينية فيما بينها باستخدام الفتاوى دليل صارخ أن الأحزاب المتأسلمة هدفها الوصول للسلطة وليس الإصلاح السياسي فهي لا تتردد في نعت من ينافسها على السلطة بالنفاق والضلال والكفر أحيانا.
لا يمكن مواجهة الإسلام السياسي بطريقة فعالة دون فضح خططه باستخدام الديمقراطية للوصول إلى الحكم ثم إلغائها ودون كشف تناقضاته وعلى رأسها النفاق الواضح في توظيف الإسلام لخدمة الوصول للسلطة. الدخول مع الأحزاب المتأسلمة بصراع حول توظيفهم للدين صراع يبعد النقاش عن مصالح الناس السياسية والاقتصادية والاجتماعية ويركز الانتباه على الدين والأشخاص بدل قضايا الناس الحياتية وهذه هي النتيجة المؤسفة التي فرضها دعاة أسلمة السياسة ولا مناص من التعامل مع هذه الحقيقة إذا كان هناك جدية في اختراق قدرة الأحزاب المتأسلمة على التلاعب بالعواطف الدينية للوصول إلى إقامة نظام سياسي لا يعتمد، كما هو معلن أو خفي، على تداول السلطة وهو ما يشكل تهديدا وجوديا ليس فقط للديمقراطية بل للحرية بذاتها إذا نجحت الأحزاب المتسترة بالإسلام الى إقامة دولة خلافة قمعية تحت مسميات إسلامية خادعة.
القضايا الخلافية بين الأحزاب العلمانية وخصومها من الأحزاب المتأسلمة متشعبة وساخنة ولا يمكن اختزالها بعناوين قصيرة ومختصرة، ولكن حصرها في نقاش جدي حول موقف المتأسلمين من مسائل الحرية والعدالة والمساواة يركز الحوار ويساعد في كشف أجندة المتأسلمين التي تهدف في الحقيقة إلى تقييد الحرية وضرب مبادئ العدالة والمساواة في مقتل عن طريق تمييع هذه المبادئ العلمانية السامية.
فضح المتسترين بالإسلام لتحقيق أهداف سياسية يترتب عليه محاصرتهم بتعريفات واضحة لمبادئ الحرية والعدالة والمساواة التي يتغنون بها رغم أنهم يرفضون تطبيقها بمعانيها الحديثة، فهم يوهمون الناس بقبولهم الحرية والعدالة والمساواة ثم يرفضون تحريم العبودية ويرفضون التوقف بالدعوة لقتل المرتد وغيرها من التشريعات التي لا تتناسب مع المفاهيم العلمانية في التعددية وحرية الاعتقاد المطلقة والمساواة التامة بين البشر.
هناك عوائق كبيرة تمنع المتأسلمين من قبول الحرية والعدالة والمساواة لأنهم يرفضونها بمعناها العلماني. حتى وإن وجدت بعض المتأسلمين ممن يزعمون أنهم مستعدون لتوسيع مفاهيم الحرية والعدالة والمساواة بقواعدها الشرعية لتشمل المساواة الحقيقية بين المرأة والرجل والمسلم وغير المسلم، تجد الغالبية المتأسلمة ترفض هذا التوسع في المفاهيم، ولكن هذا الرفض لا يمنعهم من الإبقاء على الضبابية في مواقفهم بهدف ركوب موجة الديمقراطية. بل إن بعض الإسلاميين وصل إلى مستوى متقدم من المراوغة السياسية والتوظيف السياسي للدين بالقول إن الحرية هي أحد أهداف الدين، متلاعبين بفكرة أن الإسلام جاء لتحرير البشر من العبودية والظلم والقمع، مغفلين دعوات قتل المرتد والمثليين جنسيا وغيرها من التشريعات التي لا تتفق مع العلمانية بمفاهيمها الصحيحة.
استخدام دعاة الإسلام السياسي التعريفات الفضفاضة في مفاهيم الحرية والعدالة والمساواة لكي تظهر أنها تتلاءم مع الفكر العلماني لا تتطابق مع الموثق من التاريخ والنصوص التي تتعارض مع العلمانية ولكنك لا تجد الكثيرين ممن يعترفون صراحة بذلك ويختار المتأسلمون سياسيا القول إن هناك تطابقا بين معنى الحرية بالمفهوم العلماني الغربي والمفهوم الإسلامي بهدف ذر الرماد في العيون واستخدام التقية للوصول إلى السلطة. وهذه مشكلة في حوار المتأسلمين الذين يقولون بأفواههم إنهم يقبلون مفاهيم الحرية والعدالة والمساواة العلمانية الحديثة رغم أنهم يخفون حقيقة رفضهم لها لتحقيق أهداف سياسية.
الحرية في الفكر العلماني تقوم على أساس تقديس حرية الفرد في الاختيار في كل شأن من شؤون حياته دون خسارة حقوقه في المجتمع وأمام القضاء. حرية الاختيار الفردي بالمفهوم العلماني تمنح الفرد حق اختيار من يحكمه وبأي دستور وقانون يحكمه، وهي مبادئ تتناقض مع فكرة تحكيم الشريعة من قبل الأغلبية المسلمة على الأقلية غير المسلمة. الإقرار بهذا التناقض من قبل الإسلاميين يأتي في العادة بعد استنفاد محاولات إثبات أن مفهوم الإسلام للحرية يتطابق مع مفهومها في العالم الغربي العلماني.
الصرحاء من الإسلاميين لا يحاولون الزعم أن مفهوم الحرية في الإسلام يتطابق مع مفهوم الحرية في الفكر العلماني، ويسلمون بأن فكرة الحرية في الإسلام ترتبط بتعبيد الإنسان لله في إطار الشريعة الإسلامية التي تجعل خيار الإنسان مرتبطا بالتعاليم الدينية عوضا عن الخيارات الفكرية الفردية.
الاعتراف بوجود تناقض بين مفهوم الحرية في الإسلام والفكر العلماني خطوة مفيدة لأنها تنقل الحوار إلى إطار جدي يمكن أن يدفعه بعيدا عن حوار الطرشان سيئ الصيت، فالإقرار بالاختلاف موقف أكثر نزاهة من محاولة اختطاف مفاهيم العلمانية وتجييرها لصالح الإسلام السياسي لتسجيل انتصار صوري لا يغير في واقع الحريات في العالم العربي شيئا. كما أن الاعتراف يساعد العلمانيين العرب بقدر ما يساعد الإسلاميين بإبقاء باب الحوار مفتوحا بهدف الوصول إلى وضوح في المفاهيم وتطويرها.
المشكلة التي يواجهها العلمانيون في حوار المتدينين بشكل عام والمتأسلمين بشكل خاص هي أن كثيرا منهم لا يأخذ العلمانيين على محمل الجد ويكتفي بالاعتقاد أنهم يعانون من سوء فهم أو سوء نية أو خطأ المعلومة، مغفلين أن التراث الغربي العلماني يقوم على تاريخ حضاري يرتكز على مئات السنين من التقدم العلمي والفكري والفلسفي. تجاوز عقبة الاستخفاف بالعلمانية كحركة فكرية تقوم على أطر فكرية جادة وهي خطوة هامة أخرى في طريق الحوار الجاد حول موضوع الحرية في الفكر الإسلامي والفكر العلماني.