خلصنا في الحلقة الأولى أنّ القرآن الكريم ترك أصل تكوين الدّول ومفهومها إلى الصّيرورة الزّمانيّة وتطور الفهم البشريّ في ذلك، لهذا لن نجد تصورا عن الدّولة بالمفهوم التّقليديّ ولا بالمفهوم المعاصر في القرآن الكريم.
والدّول الّتي واكبت نزول القرآن إمّا تحالفات قبليّة، وهي أقرب إلى المشيخة في وقتنا المعاصر، وإمّا وراثة في الحكم، وهذا هو الغالب، خاصة في الممالك العظمى كفارس والرّوم. وكون القرآن لم يتطرق إلى هذا، نستلهم من هذا دلالتين:
الأولى: قضية الحكم مرتبطة بالمبادئ كالعدل والحرية والحفاظ على النّاس وحقوقهم، وهذا ما اهتمت به الآيات، وما عدا ذلك من الوسائل فلا علاقة له والدّين بالمعنى التّشريعيّ الإلهيّ، وإنّما هو مرتبط بالتّشريع البشريّ، حيث إنّ الدولة كما أسلفنا سابقا كائن بشريّ متطور.
الثاّنية: من خلال الأولى ندرك أنّ الدّولة نص مفتوح، وليس نصا مغلقا، ولهذا لا معنى لتكفير الدّول والأنظمة، واختزال نظام معين على أساس أنّه الممثل الوحيد للإسلام. إلا أنّ القرآن الكريم أشار إلى الشّورى في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} الشّورى/ 38.
والآية جاءت في سياق التّمدح، بينما آية آل عمران/ 159: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} جاءت في سياق الأمر.
ومفهوم الشّورى في اللّغة من التّشاور، ومنه أشار عليه بالرّأي[1]، بينما المعاجم المعاصرة تتوسع في تفصيل الشّورى لتوسع مفهومها، ففي معجم الغنيّ الشّورى هي: جعل الأمر للتّشاور والاستماع إلى جميع الآراء من أجل الاتفاق على رأي، وكان الحكم شورى بين النّاس في صدر الإسلام، ومنه مجلس الشّورى أي مجلس التّشاور والتّداول في شؤون البلاد وقضاياها[2].
والتّطور في الفهم اللّغويّ يماثله من طرف آخر التّطور في الإسقاط التّفسيريّ، فالقرطبيّ (ت 671هـ) ذكر آراء عديدة لها، ومنها قوله أنّ النّبيّ -صلّى الله عليه وسلّم– كان يشاور أصحابه في الآراء المتعلقة بمصالح الحروب[3]، وإلى هذا ذهب العديد من المفسرين.
وأشار الطّبريّ أيضا أنّ الأنصار قبل قدوم النّبيّ – صلّى الله عليه وسلّم – إليهم إذا أرادوا أمرا تشاوروا فيه، ثمّ عملوا عليه، فمدحهم الله تعالى به، وعزا هذا الرّأي إلى النّقاش[4] [أبو بكر محمد بن الحسن بن محمد بن زياد] ت 351هـ.
وذهب بعض أهل الجرح والتّعديل إلى نكارة النّقاش، وأنّه يكذب في الحديث، والغالب عليه القصص، وأنّ كلّ حديث النقاش منكر[5]، وبغض النّظر عن منهجية أهل الحديث في الجرح والتّعديل إلا أنّ نكارة هذه الرّواية يظهر من خلال السّياق التّأريخيّ أيضا، وذلك إذا عملنا قراءة تفكيكيّة لها، حيث إنّ أهل مكة أيضا مشهورون بتشاورهم، وهذا يظهر في دار النّدوة الّتي كانت منطلقا للتّشاور عند المكيين، ومنذ فترة مبكرة جدا، وكذا الحال يظهر عند أهل عمان عندما وصلت رسالة النّبيّ –عليه الصّلاة والسّلام– إلى عبد وجيفر ابني الجلندى عن طريق عمرو بن العاص (ت 43هـ)، فشاور قومه في الأمر، من هنا يظهر أنّ عادة التّشاور من العادات القديمة عند العرب والمتمسك بها كالنّخوة والكرم والشّجاعة مثلا.
ويوجد رأي عن الحسن (ت 110هـ) أنّ الشّورى بمعنى الاتفاق في الرّأي[6] أي بمعنى النّتيجة؛ لأنّ الاتفاق نتيجة للتّشاور، والشّورى سبب له.
وهكذا يتطور المعنى حتى نجد ابن عاشور (ت 1393هـ/ 1973م) في التّحرير والتّنوير يقول: الشّورى ممَّا جبل الله عليه الإنسان في فطرته السّليمة، أيّ فطره على محبّة الصّلاح، وتطلّب النّجاح في المساعي، ولذلك قرن الله تعالى خلق أصل البشر بالتَّشاور في شأنه إذ قال للملائكة: {إنّي جاعل في الأرض خليفة} البقرة / 30، إذ قد غَنِي الله عن إعانة المخلوقات في الرّأي، ولكنَّه عرض على الملائكة مراده ليكون التَّشاور سنّة في البشر، ضرورة أنّه مقترن بتكوينه، فإنّ مقارنة الشّيء للشّيء في أصل التّكوين يوجب إلفه وتعارفه، ولمَّا كانت الشّورى معنى من المعاني لا ذاتا لها في الوجود جعل الله إلفها للبشر بطريقة المقارنة في وقت التّكوين، ولم تزل الشّورى في أطوار التّأريخ رائجة في البشر[7].
نخلص ممّا سبق أنّ الشّورى قيمة مغلقة من حيث ثبوت النّص؛ إلا أنّها قيمة مفتوحة من حيث الإنزال، وآلية التّطبيق، وسيأتي لاحقا في حلقة مستقلة، هل الشّورى هي الدّيمقراطيّة من حيث الأصل، والدّيمقراطيّة تطور لإنزال الشّورى، أم بينهما تفاوت وتضادّ. ولهذا يرى أحمد الكاتب أنّ الشّورى أصل المدارس الإسلاميّة في الإمامة، بل حتى عند المدارس القائلة بالنّص، كما في كتابه تطور الفكر السّياسيّ الشّيعيّ من الشّورى إلى ولاية الفقيه.
وعليه أصل المدارس السّياسيّة في الثّقافة الإسلاميّة هي الشّورى، ولما كان النّبيّ – عليه الصّلاة والسّلام – موجودا؛ كان له ثقله في جميع الجوانب دينيّة وسياسيّة واجتماعيّة، من هنا ذهابه أحدث فراغا كبيرا في سدّه، أو على الأقل كرمزية في احتواء الجميع، خاصة وقد صاروا أمّة واحدة، كما أراد هو نفسه كما يظهر من ميثاق المدينة حيث قال: هذا كتاب من محمدٍ النّبيّ – صلّى الله عليه وسلّم -، بأنّ المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب، ومن تبعهم فلحق بهم، وجاهد معهم، إنّهم أمّة واحدة من دون النّاس.
وذلك لأنّ المدينة المنورة لن تكون هنا للأنصار فحسب؛ بل سينافس الأنصار المهاجرون، والمهاجرون ذاتهم خليط من أعراق متعددة، وأجناس مختلفة، ففيهم الحبشيّ والرّوميّ والحجازيّ واليمنيّ وغيرهم[8].
لهذا ستظهر أسماء كما رأينا في الحلقة السّابقة، تشكلت على شكل أشبه بالأحزاب فالأنصار وأشهر رموزهم سعد بن عبادة (ت 14هـ)، والمهاجرون وأشهر رموزهم أبو بكر الصّديق (ت 13هـ)، وعمر بن الخطاب (ت 23هـ)، وبين هؤلاء أقرباء النّبيّ وأولى بهم العباس عمه (ت 32هـ)، وعلي بن أبي طالب (ت 40هـ)، كذلك حنّ بعض الطّلقاء إلى مجدهم الأول، وهو الّذي تشكل مع الأمويين خصوصا معاوية بن أبي سفيان (ت 60هـ).
وفي البداية كان الخلاف طبيعيا؛ إلا أنّه بدأ يكبر ويزداد بسبب الخلافات القبليّة، وما تبعها من حالات إقصاء بل واغتيالات محكمة سلفا، فالأنصار ذبل ظهورهم شيئا فشيا، حتى أنّه شبه انعدم ذكرا وتأريخا. ثمّ حدث خلاف بين المهاجرين السّابقين، وبين الطّلقاء، مستغلين مقتل عثمان بن عفان (ت 35هـ) طرقا في أحقيتهم بالإمامة أو الخلافة. وازداد الخلاف واتسع حجمه بسبب ظهور الرّواية الدّينيّة والسّياسيّة والتّأريخيّة، ولهذا بدأت تتشكل المذاهب الأربعة، وهي:
المذهب الأول: مذهب الشّورى، وهو الأصل الّذي كان عليه الجميع، إلا أنّه ضاق عند مدرستي القرشيّة والنّصيّة، والقرشيّة أوسع حيث ترى أنّ الشّورى باقية ويدخل فيها اختيار الحاكم فيمن توفر فيه شرط القرشيّة، بينما النّصيّة ترى أنّ الآية لا دلالة لها في الحكم والإمامة؛ لأنّ الآية في مقام بيان أهميّة وقيمة التّشاور في الأمور العامّة الّتي تتطلب ذلك، وهذا يقتضي عدم الأخذ بها؛ لأنّ في القرآن الكريم ما يفاد منه تشريع الخلافة[9] أي في قوله تعالى: {وإذ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} البقرة/ 124.
وعلى المذهب الأول بقي الإباضيّة كأصل عام يدخل فيه جميع المسلمين ممّن تتوفر فيه شروط الإمامة أو الخلافة، ولو كان عبدا حبشيا[10]. وهذا الرّأي أصبح يتبناه معظم الحركات الإسلاميّة بمذاهبها المعاصرة، بينما ذكر القرشيّة أصبح ضعيفا جدا؛ بل حتى تبنته مدرسة ولاية الفقيه المتطورة من المدرسة النّصيّة الاثني عشرية كما في الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة إذ أصبح الحاكم يتّم اختياره عن طريق الشّورى أو العمل الدّيمقراطيّ بالمفهوم المعاصر.
المذهب الثّاني: مذهب القرشيّة، لرواية: الأئمة من قريش، وعلى هذا الأشاعرة وأهل الحديث[11] وبعض المعتزلة[12]. وهذا المذهب كما أسلفنا شبه انقرض، إلا أنّه بقي من يدعيه، أو يدرسه كمادة في الخلافة أو الإمامة، ومنهم من يرى أنّه محصور بالخلافة العامّة على جميع المسلمين، ومنهم من يرى من حيث الأولوية، فإذا وجد القرشيّ قدّم على غيره.
المذهب الثّالث: مذهب النّصيّة، وأشهرهم قسمان، قسم النّصيّة الظّاهريّة أي القائلين بالولاية لعليّ بن أبي طالب (ت 40هـ) بالنّص الظّاهر الجليّ، وهذا الحال في ذريته الأئمة الاثني عشر وآخرهم محمد العسكريّ المهدي المنتظر[13].
والقسم الثّانيّ المدرسة النّصيّة الخفيّة، أي القائلة بولاية عليّ بن أبي طالب بالنّص الخفيّ، ويخصصونها في آل البيت، بداية من عليّ ثمّ الحسن (ت 50هـ) فالحسين (ت 61هـ)، ثمّ في بطونهما من الذّكور، ولا يخصصون أحدا بعينه[14]، ولهذا جوّزوا إمامة الشّيخين أبي بكر (ت 13هـ) وعمر (ت 23هـ) من باب جواز إمامة المفضول مع وجود الفاضل[15].
وأمّا الإسماعيليّة فقريب قولهم من الإماميّة إلا أنهم يتوقفون عند الإمام السّابع إسماعيل بن جعفر الصادق (ت 145هـ)، وما بعدهم يسمونهم بالأئمة المستورين. الحاصل أيضا هذا المذهب اضطر إلى الرجوع حاليا إلى نظرية الشّورى وتفعيلها.
المذهب الرّابع: مذهب الوراثة، وهذا وإن كان مذهبا قديما، وكانت الوراثة موجودة في القبائل المشيخيّة عند العرب، وفي فارس والرّوم، إلا أنّ الشّورى كان ظاهرا من وفاة النّبي –عليه الصّلاة والسّلام– على خلاف في التّطبيق حتى الخليفة الرّابع علي بن أبي طالب.
ولما أخذ معاوية بن أبي سفيان (ت 60هـ) الحكم بالغلبة، ورّثه لابنه يزيد (ت 64هـ)، واختلف في تغلّب معاوية وتوريثه فذهب أهل الحديث وأكثر الأشاعرة في إمامته[16]، ورفضت باقي المذاهب هذا الفعل[17].
إلا أنّ القول بالوراثة صار الأكثر عملا في التّأريخ، حتى عند من قال بأصل الشّورى، كما سنرى في الحلقة القادمة.
*الهوامش: