أحد أكثر المغالطات التي تعرض لها التاريخ العماني، كتابة الحقبة ما بعد دولة اليعاربة (1624 – 1741) بما يشبه الغموض نوعا ما، وربما حتى ما يخص النبهانة كذلك -قبل الاحتلال البرتغالي (1507 – 1624)-، الأمر الذي يترك أمور الحكم أمام تحديّات مستمرة في ظل استمرار مسلسل التصارع على السلطة ، المدعوم من قوى داخلية، أو من قوى خارجية، مما أدى إلى تشكّل عقدة لدى السلطان الحالي “قابوس بن سعيد“، الذي رغم زواجه مرتين -الأولى من عائلة الحارثي، والثانية من ابنة عمّه طارق بن تيمور(1976-1979)-، إلا أنّ مصير الزيجتين نفسه يكتنفه الغموض، ولم يُرزق بأبناء منهما -أو هذا ما يُراد لنا أن نعرف-، أو أنه لم يريد ذلك.
ولعلّ آلية وصول السلطان قابوس للحكم عبر انقلابه الناعم على أبيه سعيد بن تيمور (حكم 1932-1970)، هي أحد السيناريوهات الغريبة والمثيرة للدهشة التي أسهمت في تصاعد عقدة الذرية لدى السلطان الحالي، مما أدى به الحال إلى أن يكون تقريبا السلطان الوحيد من البوسعيد -آل سعيد حاليا- الذي بلا ذرية، ورغم تصاعد حدة الإشاعات في فترة التسعينات حول وجود ولد له، إلا أن النظام الأساسي للدولة الذي كتبه قابوس بنفسه وأقره في 1996 كدستور للدولة، أوقف هذه الشائعات.
بالعودة إلى تاريخ عائلة البوسعيد، وتحديدا عصر (سعيد بن أحمد البوسيعدي (1188 ـ 1193هـ)(1773 ـ 1779م)) الذي تنازل عن السلطة لابنه حمد في عام 1779م، بعدما سيطر ابنه واغتصب من أبيه الكثير من المساحات في البلاد وحكمها، ثم عاد “سعيد” ليحكم بعد وفاة ابنه عام 1792، إلا أنه دخل في صراع آخر مع أخويه قيس وسلطان، اللذان انتهى بهما الأمر إلى عقد اتفاق مع سعيد لــــ تقاسم الحكم.
بعد مقتل “سلطان بن أحمد” في 1804، تولى بدر بن سيف تسيير أمور الحكم، إلا أن حامي ملك أبناء “سلطان” استأثر بالحكم لنفسه مدة عامين، حتى قُتل علي يد “سعيد بن سلطان” بعد مبارزة مباشرة بالسيف بينهما كما ذُكر في بعض الكتب! واستمر حكم “سعيد” 52 عاما، شهدت عمان خلالها تعاونا عسكريا مع الإنجليز ومع الفرس، استعان بهم “سعيد” لإرساء حكمه ضد أعدائه في الخارج والداخل، إلا أن لمجرد موت سعيد، انقسم أبناؤه وتصارعوا كذلك، ثويني سمّى نفسه حاكما لمسقط وزنجبار، وماجد سمّى نفسه حاكما لزنجبار، ولكن بريطانيا وفرنسا حينها باركتا الانقسام وصدر في ذلك إعلان رسمي.
في العام 1866، قتل سالم أباه “ثويني” طمعا في الحكم! حكم لعامين قبل أن يخرج عليه عزان بن قيس الذي أطاح به، وبويع بعدها إماما في 1868، إلا أنّ تركي بن سعيد بن سلطان العائد من “الهند” خرج عليه، واستمرت المعارك بينهما حتى هزيمة عزّان في 1870م. في 1932م، تنازل تيمور لابنه سعيد عن الحكم -فترة تيمور وسعيد شهدت معاركا واسعة بين دولة الإمامة ودولة البوسعيد-، في 1970 انقلب السلطان الحالي قابوس، على أبيه سعيد بن تيمور، وتعهد بداية حكمه ببناء عمان، وفتح صفحة جديدة مع كل الأطراف.
تلك المقدمة التاريخية، التي أعتقد أنّ بعض التفاصيل فيها يشوبها عدم الدقّة، إلا أنها محاولة سريعة لتجميع وتلخيص أحداث سياسية شهدتها عمان في عصر حكم أسرة واحدة، وهي ألبوسعيد، التي قدّمت مثالا دمويا في صراعها على الحكم، سواء في تصارع “أبناء الأسرة” فيما بينهم، أو مع خصومهم من خارج الأسرة.
اليوم، وبعد 45 عاما من حكم قابوس بن سعيد لعمان -تم ذكره في الوثائق العمانية الرسمية على أنه كان في 23 يوليو 1970- يبدو أمر الغد غير واضح المعالم مطلقا، فالسلطان الحالي الذي رغم اهتمامه فعلا بالبنية التحتية مثل التعليم والصحة..إلخ، إلا أنه تغاضى عن الإصلاحات السياسية، ليكون أحد القلة في العالم الذي يتمتع بسلطة مطلقة (ملكية مطلقة)، وليترك أمر الخلافة من بعده لأسرته كذلك، في طريقة درامية كتبها قابوس بنفسه في النظام الأساسي.
قابوس تمكّن خلال سنوات حكمه السابقة إلى تأسيس مكنة إعلامية ضخمة، روّجت له ومكنته ووضعته أمام الشعب العماني موضع الإله أو موضع التقديس، لدرجة أن جزءا كبيرا من الشعب أصبح أحد أوجه العقاب لأي منتقد لــ قابوس، هذه المكنة استطاعت تحويل أو لفت أنظار الشعب عن الكمية المهولة من ثروة البلاد السنوية التي يقتطعها قابوس لنفسه، متزامنا ذلك مع قصوره الكبيرة الفخمة المترفة المنتشرة له في الكثير من بقاع العالم، وخاصة في أوربا، غير قصوره التي في داخل عمان، والتي يتم رصد لها ميزانية مهولةـ يتم اقتطاعها من الميزانية السنوية للبلاد.
قابوس الذي تزوّج مرتين، وولا زالت ظروف انتهاء زيجتيه غامضة التفاصيل حتى الآن، لا ولد له. وهو ووفق ما يتضح من خلال سياساته الحالية، يحاول تجميع أكبر قدر من النقاط عبر السياسة الخارجية، للتغطية على السياسة الداخلية الغريبة، ففي الوقت الذي تجده يفتح ذراعه وعلى حساب ثروات الشعب، يتبرع لهذا أو يدفع فدية لتحرير رهينة هنا وهناك، تجد عمان وبعد أكثر من 45 سنة، دولة فشلت في استغلال ثروتها النفطية، ورغم الخطط الخمسية الفاشلة التي اعتمدها منذ 1975، والتي تضمنت أهدافها تقليل الاعتماد على النفط كمصدر دخل، إلا أنّه ولا زال حتى الآن، أي بعد أكثر من 40 عام، الاعتماد على الثروة النفطية يبلغ 85%.
كما أنّه يعمد إلى توسيع الإنفاق الأمني والعسكري على حساب العملية التعليمية، والتي وللأسف –أي التعليم- تراجع فيها مستوى الجودة إلى أدنى مستوياته حسب مؤشرات التقييم العالمي. خاصة إذا ما علمنا أن عمان أحد الدول العربية الأكثر إنفاقا على المؤسستين الأمنية والعسكرية، وهذا ربما يُعطي إشارات واضحة لفهم القاعدة الأساسية التي يرتكز عليها النظام في عمان لتثبيت حكمه واستدامته، سواء باسم الشخص الحاكم أو لأجل الأسرة التي ينتمي إليها.
ماذا يحدث غدا؟
هل نتوقع سيناريو جديدا شبيها بانقلاب قابوس على سعيد بن تيمور، أم أنّ الانتقال سيكون سلميا كما هو مشكوك في إمكانية حدوثه حالة وفاة السلطان الحالي، أم أنّ الدول الكبرى مثل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، إضافة إلى الدول المجاورة المؤثرة مثل إيران والسعودية، سيكون لهم تأثيرهم في تسمية أو تنصيب السلطان القادم.
وهل مرحلة ما بعد قابوس، ستكون بداية لــ إصلاح سياسي مُنتظر؟ أم مرحلة تراجع أكثر حدّة مما نشهده حاليا في الحريات الفردية والحقوق الأساسية في التعبير والرأي والنشر، وكذلك توسّع سلطوي أكثر لتكريس الاستبداد الذي يمثله النظام الحالي!
التاريخ العماني ممّا لاشك فيه تاريخ مليء بالملابسات، وهناك تفاصيل كثير تمّ تغييبها عمدا غير تلك التي سقطت سهوا، وما نقرؤه اليوم ما هو إلا مجرد شذرات أرادت السلطة الحالية إيصالها مبتورة أو منقوصة أو حتى مغلوطة، سعياً لأهداف معلومة لها خفية علينا، وكذلك من أجل وضع الحقيقة بعيدا عن أعين التاريخ.