أشرنا في المقال السابق إلى الشورى في القرآن الكريم، الشورى عادة عربيّة قديمة، فنظرية الرّأي الواحد لم تكن سائدة في عرف القبيلة، مع أنّ شيخها واحد، وأنّه محلّ ثقتها، ومحور آمالها، وأنّ أحكامه لا مجال لاستئنافها أو تبديلها، إلا أنّه كان يجمع بين حين وآخر رؤساء العشائر، وهم الّذين كان يتألف منهم شبه شيوخ مجلس القبيلة، وكانوا يتدربون على الشّؤون الكبرى، ويتناقلون فيها الرّأي، ويتبادلون المشورة[1].
إلا أنّ هذه المشورة لم تكن خاضعة في اختيار شيخ القبيلة ذاته، إلا في أفق ضيقة بين أسرة مشيخة القبيلة ذاتها، وإنّما الشورى فيما يتعلق بأمور النّاس الكبرى، كأمور السّلم والحرب.
ولمّا بعث النّبيّ محمد – صلّى الله عليه وسلّم – ونزل عليه القرآن، لم يحدث إنكار، بل أقرّ النّاس على ما هم عليه، ممّا يدلّ أنّ القضايا السّياسيّة في تطبيقاتها متروكة للصّيرورة البشريّة، ولا علاقة للنّصوص الدّينيّة بهذا.
فقد بقيت القبائل الّتي أعلنت إسلامها بعد فتح مكة مستقلة بشؤونها، وعلى رأسها ساداتها وأمراؤها وحكامها، وقد كان النّبيّ يبعث ممثلين له لتعليم النّاس الأحكام وجمع الزّكاة، ولم يطلب النّبيّ من أمراء البلدان، وشيوخ القبائل التّنازل عن إمرتهم وسلطانهم[2].
وما فعله النّبيّ محمّد – صلّى الله عليه وسلّم – أنّه أحدث ثورة إصلاحيّة خاصة في الجانب الاجتماعيّ، حيث نقل النّاس من مفهوم القبيلة الّذي كان يستعبد غيره، إلى مفهوم الأمّة، حيث ساوى فيه بين عمّه حمزة [ت 3هـ] والحبشيّ بلال بن رباح [ت 20هـ]!!!
ولهذا حدث الفراغ بعد وفاته – عليه الصّلاة والسّلام – في آلية اختيار الحاكم، فهنا أمامهم أمران:
الأمر الأول: الرّجوع إلى العهد السّابق، حيث كلّ قبيلة تدير شؤونها بذاتها، ويحدث التّغيير أنّهم يجمعهم خط الإسلام!!!
الأمر الثّاني: اختيار حاكم أو رئيس أو خليفة – لا يهمّ المصطلح – يكون نائبا عن هذه القبائل، وعن عموم الأمّة كخليفة ورئيس ينوب عن المجموع!!!
والعقل الذّهنيّ بطبعه آنذاك لن ينصرف إلا إلى الأمر الثّانيّ، فيحمل الحاكم لقب الخليفة من حيث كونه خلفا لرسول الله – صلّى الله عليه وسلّم – من جهة، ولأنه يخلف النّاس في رعاية أمورهم من جهة ثانية، وهو استئناس بقوله تعالى: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ}[3].
إلا أنّ هذا اللّقب توقف بعد خلافة أبي بكر الصدّيق [ت 13هـ]، ولم يلقب بخليفة رسول الله – صلّى الله عليه وسلّم – أحدٌ من الخلفاء بعده، وإنّما أطلق عليهم اسم أمير المؤمنين[4]، إلا أنّه استخدم في مراحل لاحقة، مع تنزه الأوائل عنه!!
وسيأتي الحديث عن الخلافة ومفهومها وتطورها في حلقة خاصة، والّذي يهمنا هنا أنّها بنيت من البداية على مبدأ الشورى بالاتفاق، وعليه اعتبر الجميع أنّ الشورى أساس الحكم في الإسلام[5].
ولهذا يرى أحمد الكاتب [معاصر] أنّ النّبيّ – صلّى الله عليه وسلّم – لم يعيّن أحدا خليفة من بعده، خلافا لما يقوله الشّيعة الإماميّة [المدرسة النّصيّة]، والسّنة البكريّة [المدرسة القرشيّة]، لا من أهل بيته، ولا من أصحابه[6].
وعليه شيء طبيعيّ أن يظهر أول خلاف بين فئتين كبيرتين: المهاجرين والأنصار، لوجود كبار الصّحابة، والسّابقين إلى نصرة الإسلام، وقد مدحهم الله تعالى بقوله: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}[7].
من هنا لم يظهر الطّلقاء في هذا الاختبار، وكان صوت آل البيت ضعيفا جدا؛ بل هم في الحقيقة يدخلون بشكل طبيعيّ في صفّ المهاجرين.
ودعوى اشتغالهم بتغسيل النّبي – عليه الصّلاة والسّلام – ممّا حبكه كتاب السّير والتّأريخ، إذ لا يعقل أن يشتغل عنه الّذين وقفوا معه في حياته، وناصروه بما يملكون، وضحوا بأنفسهم وأموالهم؛ لا يعقل أن يتركوه وحيدا ليشتغلوا عن تغسيله وحضور جنازته ودفنه، والمسألة تحتاج إلى تحقيق أكبر؛ لأنّ التّأريخ يكتب بقلمين: قلم محب مغالٍ، وقلم حاقد ساخط، وقلّ ما يكون بينهما قلم منصف عادل!!!
الحاصل إنّ سقيفة بني ساعدة بيثرب تعتبر أول مجلس انتخابي – إن صحّ التّعبير – بعد وفاة النّبيّ عليه الصّلاة والسّلام -، وهنا سيظهر الأوس والخزرج كحزب الأنصار، وأكبر من يمثلهم كما أسلفنا سعد بن عبادة [ت 14هـ].
بينما يتدخل أبو بكر الصّديق [ت 13هـ]، ويقترح أن يكون الأمر للمهاجرين، ويرشح عمر بن الخطاب [ت 23هـ]، أو أبا عبيدة بن الجراح [ت 18هـ][8].
واقترح الحباب بن المنذر الأنصاريّ [توفي في عهد عمر] أن يرشح أميران: أمير من المهاجرين، وأمير من الأنصار، ولأبي بكر رأي آخر أن يكون الأمراء من المهاجرين والوزراء من الأنصار.
لا يهمنا كثيرا هذا الخلاف الّذي استمر؛ إلا أنّ الغلبة كانت للمهاجرين، وتمّ اختيار أبي بكر الصّديق، والّتي وصفها عمر بأنّها فلتة وقى الله شرها[9]، وهنا ظهر نظامان، أصبحا سنة عملية حتى في النّظام الوراثيّ:
النّظام الأول: مصطلح أهل الحلّ والعقد، أي يختار الحاكم الوجهاء، والّذين تتكون وجاهتهم إمّا لسبب ديني أو نسبيّ أو اجتماعيّ أو مشيخيّ أو ماليّ، فأهل الحلّ والعقد هم من يختارون الحاكم، وهم أصحاب البيعة الخاصّة.
النّظام الثّانيّ: التّفريق بين البيعة الخاصّة والعامّة، فالخاصّة كما أسلفنا لأهل الحلّ والعقد، والعامّة لعامّة النّاس، والثّانية صوريّة، إذ لا يمكن الإنكار أو الاعتراض بعد البيعة الخاصّة!!!
ولهذا من خلال التّأمل في بيعة الأربعة أبي بكر وعمر وعثمان [ت 35هـ] وعلي [ت 40هـ]، ندرك أنّ الشورى في اختيار الحاكم لم يكن لها طريقة معينة، فأبو بكر رشّح أن يكون عمر من بعده في حياته، وعمر رشّح أن يكون ستة من المهاجرين من بعده، ومن السّتة اختير عثمان بن عفان، وبعد مقتله اختير علي بن أبي طالب في وضع فوضوي ليس مجال ذكره الآن.
أيضا الشورى تحولت من مفهوم الأمّة العامّ إلى المفهوم الوراثيّ في القبيلة، أي قريش، وهنا نلحظ:
- الخلافة في كبار المهاجرين وغياب العنصر الشّبابيّ، ممّا جر إلى بعض الثّورات الشبابيّة كثورة الجمل وشارك فيها بعض الشّباب، وثورة النّهروان لاحقا أيضا.
- غياب عنصر المهاجرين من غير القرشيين، ولو كان لهم الدّور في السّابقيّة والنّصرة.
- غياب من أسلم لاحقا من القرشيين [الطّلقاء].
- غياب عنصر الأنصار تماما.
والسّتة الّذين اختارهم عمر كانوا من المهاجرين، وهم عليّ بن أبي طالب، وعثمان بن عفان، وطلحة بن عبيدالله [ت 36هـ]، والزّبير بن العوام [ت36ه]، وسعد بن أبي وقاص [ت55هـ]، وعبد الرّحمن بن عوف [ت 32هـ].
فالوراثة القبليّة ظهرت في أن يكون الحاكم من المهاجرين القرشيين، ويخرج غيرهم، وفي البداية أن يكونوا من السّابقين الكبار فيخرج الصّغار والطّلقاء، ومن باب أولى أبعد الأنصار كليّا، حتى جاء معاوية بن أبي سفيان [ت 60هـ] وأبطل هذه السّنة، ويضعف الشورى في قريش، ويستبدلها في بني أمية من قريش، وفي ذريته، ولهذا قال على المنبر فيما يروى عنه -والله أعلم بصحتها-: من قال لي اتق الله ضربت عنقه[10].
لهذا تعود الشورى من جديد إلى مفهومها الضّيق من اختيار الحاكم من الأمّة، إلى اختياره من القبيلة أو المذهب أو الجنس المعين، وأخيرا إلى اختياره من الأسرة الحاكمة والمتغلبة أو المختارة ابتداء.
ونضرب هنا مثلا بالإمامة في عُمان، والّذي يراها حسين غباش[11] [معاصر] الوريث الحقيقيّ لنظام الخلفاء الرّاشدين، وبشكل خاص الفترة الأولى منه، فترة أبي بكر وعمر بن الخطاب[12].
من المعلوم ظلّت عمان خاضعة للدّولة الرّاشدة إلى عهد علي بن أبي طالب[13]، وبعد أن تغلّب معاوية بن أبي سفيان على الأمر استقلّ العمانيون عن الدّولة الأمويّة بشقّيها السّفيانيّ والمروانيّ[14].
وأول إمام إباضيّ في عُمان بعد دولة آل الجلندى الإمام الجلندى بن مسعود [ت 134هـ]، وتأهيل الجلندى لاختياره إماما لكونه مرتبطا بجناحين، الجناح السّياسيّ، والجناح الدّينيّ.
أمّا السّياسيّ فلأنّه من أسرة آل الجلندى بن المستكبر، حيث صار الحكم لهم بعد ذهاب ملك ذرية فهم بن مالك والاستعمار الفارسيّ لعمان[15]، ومن المعلوم الجناحان القويان في عصره جناح آل الجلندى وهو جناح سياسيّ، وآل المهلّب وهو جناح حربيّ عسكريّ.
أمّا الجناح الدّينيّ فلكونه تلميذا لأبي عبيدة مسلم بن أبي كريمة [ت 150هـ][16] من جهة، وأبو عبيدة كما أنّه منظر دينيّ هو في الوقت نفسه منظر سياسيّ، لذا جمع بين نشوة المحكمة الأوائل، ورغبتهم في الخروج على الحكم الأمويّ النّاشئ، وبين هدوء جابر بن زيد [ت 93هـ] وأعلميته.
ولهذا تشكل في الفكر الإباضيّ الأول ما يسمى بمسالك الدّين، وهي مسالك سياسيّة في الحقيقة للوصول إلى إقامة دولة من خلال: الكتمان في حال عدم القدرة على الظّهور، والشّراء وهي أقرب إلى العمليات الفدائيّة المعاصرة، حيث لا يقل الشّراة عن أربعين رجلا، يبيعون أنفسهم لله ويشترون مرضاته، ثمّ الدّفاع أي في حال الضّعف وهي أعلى درجة من الكتمان، وأخيرا الظّهور وهي إقامة الدّولة والمجتمع الإباضيّ، وهي أعلى مرحلة في مسالك الدّين[17]، لهذا فكرة المسالك حاضرة في الفكر الإباضيّ السّياسيّ طول التّأريخ، وتحولت من جانب سياسيّ إلى جانب عقديّ من أبحاث كتب العقائد في المذهب[18].
ولهذا استطاع أبو عبيدة الكبير أن ينقل الفكر السّياسيّ الثّائر عند المحكمة الأوائل من حالة الكتمان الّتي سادت في عهد جابر بن زيد إلى حالة الشّراء كما عند أبي حمزة الشّاريّ [ت 130هـ]، ومن ثمّ حالة الدّفاع والظّهور، من خلال تكوين حملة العلم، لهذا ظهرت في عهده ثلاث دول إباضيّة الأولى في اليمن عام 128هـ بقيادة عبد الله بن يحيى بن عمرو الكنديّ [ت 130هـ]، وممّن بايعه المختار بن عوف [ت 130هـ]، والجلندى بن مسعود.
وفي المغرب العربيّ أيضا حيث قام أبو عبيدة بتدريب حملة العلم خمس سنوات حتى رضي عن المستوى الّذي بلغوه، مع كفاحهم السّياسيّ الّذي بدأ سنة 140هـ بقيادة أبي الخطاب عبد الأعلى بن السّمح [ت 144هـ]، وتمكن زميله عبد الرّحمن بن رستم [ت 171هـ] لاحقا من إقامة دولة إباضيّة بالمغرب وهي الدّولة الرّستميّة عام 160هـ، واستمرت حتى عام 296هـ[19].
وكذا الحال في عمان بقيادة الجلندى بن مسعود، إلا أنّ الجوّ في عمان كان أكثر مواتيا، لعمق الاستقلال السّياسيّ فيها، ولهذا ممكن أن نقول إنّ الإباضيّة نقلوا تجربة الخلافة الرّاشدة خصوصا عند الشّيخين من جانب تطبيقي إلى جانب تنظيريّ وتقعيدي من جهة وتطبيقيّ من جهة أخرى منذ فترة مبكرة جدا، وجمعوا بين الفقه العمليّ والفقه السّياسيّ والعقديّ، لهذا تلازما طول التّأريخ الإباضيّ، وأثر في النّظريات والمباحث الفقهيّة الأخرى عند الإباضيّة كمفهوم الولاء والبراء.
فمع كون الجلندى بن مسعود تلميذا لأبي عبيدة إلا أنّه أيضا كان عالما، وقلّما يكون الإمام عالما في الوقت نفسه، يقول أبو المؤثر [ت 278هـ]: لا نعلم في أئمة المسلمين أفضل من سعيد عبد الله [ت 328ه] إلا أن يكون الجلندى بن مسعود[20].
ومع هذا لا يوجد توثيق واضح لاختيار الجلندى إماما، إلا أنّ سبب اختياره يعود إلى الميزتين القبليّة والفقهيّة، وهاتان الميزتان ستتمازجان في طول التّأريخ الإباضيّ، كما تمازجت في الخلافة الرّاشدة: القرشيّة والقرب من الرّسول – صلّى الله عليه وسلّم – كما أسلفنا، مع إيمان الإباضيّة بالعدالة السّياسية بين الجميع، إلا عند التّطبيق نجد البعد القبليّ هو الظّاهر، لهذا تتحول الشورى ذاتها إلى وراثة في كثير من الخطّ السّياسيّ الإباضيّ.
ومع ذكر السّالميّ [ت 1332ه/ 1914م] الإجماع على إمامته وولايته والمجاهدة معه[21]، إلا أنّ هذه المبايعة خاصة للفقهاء ولاحقا الرّموز القبليّة والماليّة والسّياسيّة، والّتي سميت بأهل الحلّ والعقد، وهي البيعة الخاصّة كما في سقيفة بني ساعدة، وليس الإجماع هنا بمعنى إجماع الأمّة كما في الدّيمقراطيّة المعاصرة، وهذا هو الخلط الّذي وقع فيه غباش في كتابه: الدّيمقراطيّة الإسلاميّة، تقاليد الإمامة والتّاريخ السّياسيّ الحديث، وهذا سيتضح لاحقا أثناء الحديث عن الدّيمقراطيّة.
ويرى أحمد بن سعود السّيابيّ [معاصر] أنّ خريطة الإمامة في عُمان تتمثل في عشر مراحل، بداية من المرحلة الأولى وهي فقط تتمثل في الجلندى بن مسعود إلى المرحلة العاشرة ونهايتها غالب الهنائيّ [ت 2009م][22].
لهذا نرى أنّ الثّقل بعد آل الجلندى، والّذين سيتحولون إلى موالين للعباسيين وتمردهم على الإمامة في عهد المهنا بن جيفر [ت 237هـ]؛ سيكون في اليحمد ومنهم بنو خروص إلا في حالات قليلة، وغالبها تطبيقات لم يكتب لها الاستمرار والنّجاح، حيث بعد سقوط النّفوذ العباسيّ والّذي أسقط أول تجربة سياسيّة إباضيّة في عمان؛ يبايع محمد بن أبي عفان [ت 179هـ] عام 177هـ، بويع البيعة الخاصّة من قبل الفقهاء ورجال الدّين خصوصا، ثمّ البيعة العامّة، وهكذا يأتي بعده الوارث بن كعب الخروصيّ [179هـ – 192هـ]، وغسان اليحمديّ [192هـ – 207هـ]، وعبد الملك بن حميد العلوي [207هـ – 226هـ]، والمهنا بن جيفر اليحمديّ [226هـ – 237هـ]، والصّلت بن مالك الخروصيّ [237هـ – 272هـ]؛ وراشد بن النّظر الخروصيّ [272هـ – 277هـ]، وعزان بن تميم الخروصيّ [277هـ – 280هـ].
ومن بعد الفتنة في عهد الصّلت بن مالك الخروصيّ انقسم العمانيون إلى فرقتين دينيتن – إن صح التّعبير – وهما الرّستاقيّة والنّزوية، بسبب خروج موسى بن موسى ومبايعة راشد بن النّظر [ت 277هـ]، ويسميها أحمد بن سعود بثورة الشّباب على الشّيوخ[23]، وهي شبيهة كما تقدّم بثورة الجمل والنّهروان في الخلافة الرّاشدة.
هذا الانقسام الدّينيّ الّذي سببه الولاية والبراءة من الخارجين على الإمام كان بداية الانشقاق القبليّ إلى عدنانية وقحطانيّة أو يمينيّة ونزاريّة في عهد عزان بن تميم، والّذي سيؤثر لقرون في عُمان[24]، وبسببه عودة الاستعمار العباسيّ لاستنجاد النّزاريين بهم[25].
وفي الحقيقة بسقوط حقبة الصّلت بن مالك ممكن أن نقول إنّ الإمامة حسب تنظير أبي عبيدة الكبير انتهت في التّأريخ، وهي أكبر تجربة شوريّة امتدّت من عام 179هـ وحتى عزل الصّلت عام 272هـ.
هذه التّجربة الّتي شابهت التّجربة الرّاشدة مع التّشابه الكبير في:
البيعة الخاصّة والعامّة = أهل الحلّ والعقد.
القرشيّة = اليحمد وبنو خروص.
وعليه سيبقى التّنظير الإمامي عند الإباضيّة باقيا إلى اليوم، ولكنه في الحقيقة انتهى منذ فترة مبكرة جدا؛ لأنّ السّياسة كائن حي متحرك كغيره تماما كاللّباس واللّهجات ونحوها.
وما بعد الإمامة الثّانيّة لم يكتب لها النّجاح لأسباب ثلاثة:
- الانقسام الدّينيّ العمانيّ [رستاقيّة ونزويّة].
- الانقسام القبليّ العماني [ قحطانيّة ونزاريّة].
- الاستعمار العباسيّ وانقسام الولاء لهم.
ولهذا قامت دولة النّباهنة في القرن السّابع الهجريّ، وامتدّت لخمسة قرون، ومع إجحاف المؤرخين من المؤرخين لها؛ إلا أنّها دولة ملك، وفيها كتبت العديد من المصنفات والدواوين الشعرية.
ولمّا قامت الدّولة اليعربيّة عام 1034هـ، بعد سقوط الاحتلال البرتغاليّ، ومبايعة أول إمام ناصر بن مرشد اليعربيّ [1034هـ – 1059هـ]، فمع التّقليد في المبايعة، إلا أنّ اليعاربة وصلوا إليها تغلّبا، وبالتالي أصبحت الإمامة فيهم ليست عن طريق التّقعيد الإباضيّ؛ بل هي دولة ملك وراثيّ في الحقيقة، فبعد وفاة ناصر بن مرشد بويع ابن عمّه سلطان بن سيف الأول [1059هـ – 1090هـ]، وبعده ولده بلعرب بن سلطان [1090هـ – 1104هـ]، ثمّ أخوه سيف سلطان الأول [1104هـ – 1123هـ] بعد عزل أخيه بلعرب، ثمّ ولده سلطان بن سيف الثّاني [1123هـ – 1131هـ]، إلا أنّه مات وولده سيف كان صغيرا، وعلى مبدأ الوراثة يكون هو من بعده، إلا أنّ العلماء رفضوا أن يولى عليهم قاصر، فوقفوا في صفّ مهنا بن سلطان اليعربيّ [ت 1133هـ]، فوقعت فتنة كبيرة، ووقف عامّة النّاس مع يعرب بن بلعرب اليعربيّ، فحاصروا مهنا في قلعة الرّستاق، ثمّ طلب الأمان، فأعطوه ثمّ خذلوه فصلبوه ثمّ قتلوه[26]، وهكذا كانت بداية شرارة الحروب الأهليّة، والانقسام القبليّ، الّذي سيأكل الأخضر واليابس، وتكوّن فرقتين قبليتين كبيرتين، الهناوية والغافرية، وبعدها كان الاستعمار الفارسيّ حتى مجيء أحمد بن سعيد [1161هـ – 1188هـ]، ليؤسس الدّولة البوسعيديّة.
والدّولة البوسعيديّة دولة ملك وراثيّ أيضا، بدأت بالتّغلب، والبيعة الخاصة والعامّة [أهل الحل والعقد وعامّة النّاس]، وهي مستمرة إلى يومنا هذا في عهد السّلطان قابوس بن سعيد [معاصر].
ومع محاولة سعيد بن خلفان الخليليّ [أعدم سنة 1287هـ] إعادة فكر الإمامة، ومبايعة عزان بن قيس البوسعيديّ [1285هـ – 1287هـ] إلا أنّها فشلت في الحقيقة، لعدم تقبل النّاس لها، وميولهم مع السّلطة الملكيّة.
ونتيجة الانقسام القبليّ في عمان، والاستعمار الإنجليزيّ؛ حاول نور الدّين السّالميّ [ت 1332هـ] إعادة الإمامة حسب التّقليد الإباضيّ، وتمّ الاختيار الأول من بني خروص أيضا، فبويع سالم بن راشد الخروصيّ [1331هـ – 1339هـ]، إلا أنّه قتل وجاء بعده محمد بن عبد الله الخليليّ [1338هـ – 2373هـ]، وبعده غالب بن علي الهنائيّ [ت 2009م]، إلا أنّه لم يكد يحكم، فاعتزل تارة وخرج من عُمان في النّهاية إلى السّعوديّة 1379هـ/ 1959م.
إلا أنّ هذه الفترة 1331هـ – 1379هـ لا يمكن إطلاق عليها لفظ دولة بالمعنى الشّموليّ لعدّة أسباب:
- عدم وجود قوة مركزيّة في الدّولة، ومع محاولة سليمان البارونيّ [ت 1940م] إصلاح الخلل إلا أنّه فشل لجمود العقليّة، وكثرة المصالحيين، ممّا جرّ العديد حتى من الفقهاء الخروج إلى العمل في النّظام الملكيّ المقابل لها.
- عدم وجود جيش موحد لها، وقوّة القبيلة، وانقسام النّاس وفق حزبين رئيسين.
- انتشار الجهل والمرض والأميّة، وهذا ما أرسله عبد الرّحمن بكلّي [ت 1406هـ/ 1986م] نيابة عن جمعيّة الإصلاح وعلماء ميزاب إلى عمان عقب وفاة محمد بن عبد الله الخليليّ، ومبايعة غالب بعده، وفي الرّسالة ناشدوا أهل عمان بتشييد المدارس والمعاهد والكليّات، وإرسال البعثات، وتعميم الصّناعات، وتأسيس المطابع والشّركات، وإصدار الجرائد والمجلات، وإنشاء المستوصفات والمستشفيات، وتعبيد السّبل والطّرقات، ومدّ السّكك الحديديّة والأسلاك الكهربائيّة، وإنشاء المعامل بأنواعها، واستخراج معادن الأرض ومحاصيلها[27]، وأحزنهم أن يبقى القطر العمانيّ فقيرا وفيه الكنوز الطّبيعيّة[28].
- الضّعف الماديّ، وعدم القدرة على تحقيق التّأمين والعدالة الاجتماعيّة لشح الحال، وممّا يدلّ على هذا سؤال محمد بن عبد الله الخليليّ [ت 1373هـ] لعامر بن خميس المالكيّ [ت 1349هـ] وكان الثّاني بمنزلة قاضي القضاة، ونصّ السّؤال: هل ترى بأسا في إعطاء فقير سائل من الزّكاة، وبيت المال، وقد مسّ النّاس الضّرر من جهة المحل، مع أنّ الدّولة لا سعة فيها، وتحتاج إلى حماية، ونحوه، وذلك لا يقوم إلا بالمال، فقد شقّ الحال، إن واسيت الضّعفاء بقيت الأمور كما ترى، وإن منعناهم خفنا أن تلحقهم مضرّه، وربما أنا نقدر ندفع بعضها[29]!
- جرّ الضّعف المالي للدّولة إلى الانهيار المعيشيّ، وانتشار الفقر، وما يتبع من ارتفاع معدلات السّرقة والسّطو، وانتشار الرّشاوى، وهذا ما قاله هاشل المسكري [ت 1968م] لمحمد بن عبد الله الخليليّ: وأن تجعلوا محاسبا أمينا لجباة الزّكاة، ولمعرفة طرق جمعها، وضبط الحسابات، لتقف على حقائق مدخول الدّولة ومخرجها، وأن يكون الخازن غير الوالي والقاضي إن أمكن؛ لأنّ للرأي العام سيدي انتقادات على بعض عمالكم في مال الدّولة، لما يظهر من جمعهم للثّورة الطّائلة بعد ما كانوا فقراء[30].
- فضلا عن الاضطراب السّياسيّ الكبير نتيجة الاستعمار الانجليزيّ، والصّراع مع ملكيّة مسقط، بجانب الثّورات الشّبابيّة في الدّاخل وظفار، والصّراع القبليّ، كلّ هذا لم يعطِ فرصة لهذه الإمامة من التّمكن لإقامة دولة بمعناها المدنيّ، وإنّما التف حولها بعض القبائل في حيّز صغير جدا، وغير مستقر أصلا.
وعليه نخلص كذلك لا يمكن منهجيّا اعتبار هذه الفترة 1331هـ – 1379هـ نموذجا كدولة تحمل النّموذج الإباضيّ في الدّولة، للعوامل الّتي أشرنا إليها آنفا، فلم تحدث إمامة مستقرة بصورة واضحة بعد الصّلت بن مالك [ت 272هـ]، والاستقرار حصل في الملكيات الوراثيّة [النّباهنة واليعاربة وآل سعيد].
وإذا جئنا إلى الدّولة الرّستميّة فهي تنسب إلى عبد الرّحمن بن رستم بن بهرام بن سام بن كسرى الملك الفارسيّ[31] [ت 171هـ]، كان تلميذا لأبي عبيدة [ت 150هـ] ثمّ عاملا لأبي الخطاب عبد الأعلى بن السّمح [ت 144هـ] في المغرب[32]، بويع بالإمامة سنة 160هـ، وقيل 162هـ بتيهرت[33]، وإن كانت الإمامة شوريّة، ولظهور عبد الرّحمن الدّينيّ والعسكريّ، مع أصوله الفارسيّة، إلا أنّ الإمامة ظلّت من بعده أشبه بالوراثة، فبعد وفاته بويع ابنه عبد الوهاب بن عبد الرّحمن بن رستم[34] [171هـ – 197هـ]، وبعده بويع ابنه أفلح بن عبد الوهاب [171هـ – وفاته ما بين 238هـ إلى 250هـ]، وبعده خلفه ابنه أبو بكر بن أفلح [ت 261هـ]، إلا أنّه لم يكن محسنا لشؤون الإدارة والسّياسة كآبائه، واتهم بالتّآمر في قتل صهره محمد بن عرفة [ت ؟]، ولذلك فقدت دولته هيبتها واتَّسعت عليه رقعة الفتن والضّعف، وضاقت عليه الحال، وقلَّت أنصاره، فترك تيهرت وتنازل عن الإمامة لأخيه أبي اليقظان الّذي عاد من المشرق سنة 261هـ/874م، فخلفه في إمامة الدّولة الرستميّة[35]، وعليه أصبح أخوه أبو اليقظان محمد بن أفلح بن عبد الوهاب [261هـ – 281هـ] الإمام من بعده، وبعهد هذا الإمام تكون الدّولة الرّستميّة وصلت حالة الشّيخوخة كأيّ دولة في التّأريخ، حتى سقطت في عهد اليقظان بن محمد أبي اليقظان بن أفلح عام 297هـ[36].
أمّا الإمامة الإباضيّة في اليمن [128هـ – 130هـ] فلا يمكن اعتبارها دولة لأنّها لم يكتب لها النّجاح أصلا فضلا عن الاستمراريّة، لهذا لن نلتفت إليها.
وأمّا الإمامة الزّيديّة في اليمن فلن نتطرق إليها هنا، وإنّما سيكون الحديث عنها أثناء الحديث عند المدرسة النّصيّة، فلم يكن للزّيديين سلالة متصلة؛ بل هي منقطعة، وإن كانت في بيت معين؛ فهم يؤمنون بالانتخاب الطّبيعيّ [أهل الحلّ والعقد] للحاكم، وإن كانوا يحصرونه داخل نطاق محدد[37].
وممّا تقدّم نخلص أنّ طريقة اختيار الحاكم في سقيفة بني ساعدة [11هـ] واختيار أبي بكر أول خليفة للمسلمين، تحولت هذه الصّورة المجتمعيّة البعيدة عن الجانب الدّينيّ؛ تحولت عند الإباضيّة إلى جانب عقديّ، خاصة عند أبي عبيدة الكبير، وما ترتب من نظريّة مسالك الدّين الأربعة المتقدّم ذكرها، ثمّ ربط الإمامة بالولاية والبراءة.
وكما أنّ الإباضيّة ربطوا بين الجانبين التّنظيري والعمليّ في فترة مبكرة جدا؛ إلا أنّ التّجربة لم تستمر طويلا، وتأثرت كعادة العرب بالجانب القبليّ، ومن يتغلّب كان بالقوة أو رتصبح الإمامة أو الخلافة وراثيّة في نسله أو في أسرته، وعلى الأبعد في قبيلته وعشيرته، ومبدأ العبد الحبشيّ أو المولى لا قيمة له إلا تنظيرا أو في بعض الرّوايات!!
وبعد هذا البيان التّأريخيّ لهذه المدرسة نتطرق إلى الأدلّة، وبطبيعة الحال مدرسة الشورى ترفض من البداية مسألة تعلّق الإمامة بالنّص أو الهاشميّة أو القرشيّة، فهي مع مبدأ سواسية النّاس في الإمامة، وأنّها مربوطة في الأصل بالشّجاعة والتّقوى لا بالجنس[38]، إلا أنّ الحرّ مقدّم على المولى، ومحصورة في الذّكور دون الإناث، ولا يصح أن يكون الخليفة أو الإمام غير مسلم، كما أنّها كما رأينا غالبها ارتبط في الحقيقة بالقبيلة ووراثة المختار أو المتغلّب.
والأدلّة عند هذا الفريق عقليّة ونقليّة، أمّا العقليّة فالأصل النّاس لبعضهم أكفاء، فلا معنى لحصرها في بني هاشم أو قريش، أو في جنس معين، ثمّ إنّ مبايعة الأنصار لسعد وهم أمّة يسقط مبدأ القرشيّة، وقد عاشوا بين ظهرانيّ النّبيّ – صلّى الله عليه وسلّم – فلا يغيب عنهم مثل هذا، كما أنّ اختيار أبي بكر يسقط النّص الجليّ أو الخفيّ لعلي بن أبي طالب، فدلّ هذا أنّ الأصل الكفاءة بين الجميع من حيث أصل الذّات.
وأمّا النّقليّة فمنها من الكتاب ومنها من المرويات والآثار، وأمّا من الكتاب فأمر الله تعالى بالشورى ، وجاءت في موضعين، الموضع الأول قوله تعالى: {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}[39]، والموضع الثّاني قوله: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ}[40].
ووجه الاستدلال أنّ الله سبحانه قد ذكر الشورى بين ركنين من أركان الإسلام، وهما الصّلاة والإنفاق، فدلّ ذلك على وجوب المشاورة بينهم في أمورهم، دقيقها وجليلها، وليس هناك أمر تجب فيه المشاورة أعظم من أمر الإمامة[41]، والاستدلال الآخر من الآية أنّها مطلقة؛ لأنّ مورد النّزول يخلو من قرينةٍ تقيده، والإطلاق يقتضي حملها على كلّ أمر يطلب فيه التّشاور ما عدا الأحكام والحدود الشّرعيّة؛ لأنّها خارجة بالتّخصص لدليل العقل القاضي بأنّ عدم خروجها من هذا الإطلاق يستلزم إلغاء تشريعها، ولأنّ الخلافة لم يرد فيها نص شرعيّ يبين كيفيتها وشروطها، ومواصفاتها تندرج تحت ما يطلب فيه المشورة أو الشورى [42]، إلا أنّ من قال بالنّص يقول آية الشورى مقيدة بروايات النّص، ولأنّ الآية ليست في مقام التّشريع، وإنّما هي في مقام بيان أهمية و قيمة التّشاور في الأمور العامّة الّتي تتطلب ذلك[43]، ومن قال بالقرشيّة يتفقون مع الإباضيّة في هذا الأصل، إلا أنّهم يقدّمون النّسب من قريش لورود النّص فيه، وانعقاد الإجماع عليه[44]، وهذا حال الاختيار عندهم لا التّغلب.
والآية لا مستند للجميع فيها، فهي من القيم المطلقة في حياة الإنسان والمجتمع، وليست نظرية مخصوصة في الحكم؛ لأنّ الإنزال سيختلف باختلاف الزّمان والوسيلة المستخدمة، ولأنّ الله تعالى ترك طريقة الحكم ماهيته وآليته يعود إلى العقل البشريّ، فالآية تتحدث في الأصل عن قيمة كبرى وهي الشورى [45].
ومن أدلتهم رواية العرباض بن سارية [ت 75هـ على قول]: أوصيكم بتقوى اللّه، والسّمع والطّاعة، وإن عبد حبشيّ، فإنّه من يعش منكم يرَ اختلافا كثيرا، وإياكم ومحدثات الأمور، فإنّها ضلالة، فمن أدرك ذلك منكم فعليه بسنتي وسنّة الخلفاء الرّاشدين المهديين، عضّوا عليها بالنّواجذ[46]، والشّاهد فيها من قال بالشورى رأى أنّها من سنّة الخلفاء الرّاشدين، وبينا طريقة اختيارهم، وقيل هذا في الجانب التّشريعيّ، فهم تطبيق لمنهج النّبوة، وعلي اعتبر بعضهم قولهم معتبرا تشريعا، وهذا ما يدخل ضمنا في مفهوم دليل حجيّة قول الصّحابيّ، وعلى العموم لا مستند لهذه الرّواية من الفريقين؛ لأنّ الخلفاء الرّاشدين لم يعطوا طريقة واضحة لاختيار الحاكم، ثمّ الخلاف السّياسيّ وقع في عهدهم من بينهم، وجملتهم صحابة، ولا يتسع المقام لتفصيل ذلك هنا[47]، والفريق الثّاني لا حجة له أيضا؛ لأنّ الوحي أكمل بكمال الكتاب: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}[48]، وما عداه تجربة بشريّة كأي تجربة في التّأريخ، سياسة واقتصادا ومجتمعا.
ومن الأدلة رواية أنس بن مالك [ت 93هـ] أنّ النّبيّ – صلّى الله عليه وسلّم – قال: اسمعوا وأطيعوا، وإن استعمل عليكم عبد حبشيّ، كأن رأسه زبيبة[49]، وعند التّرمذيّ من طريق أمّ الحصين الأحمسيَّة [ت ؟] ذكرت الرّواية نفسها، إلا أنّها سمعتها في خطبة الوداع[50]، والرّواية إن صحت مع ذكرها في حجة الوداع فهي تبطل نظريّة القرشيّة والهاشميّة؛ لأنّ هؤلاء حسب العقليّة المجتمعيّة آنذاك وقت الخطاب ليسوا عبيدا، إلا أنّه ردّ عليهم هذا ليس في الخلافة العامّة وإنّما في بعض لوازم الخلافة كالسّرايا والوزارات ونحوها، وقيل هو من باب التّغليظ في وجوب الطّاعة لا من باب البيان في الخلافة، والرّواية في جوهرها تفيد الطّاعة، ولا تفيد آلية اختيار الحاكم أو الخليفة.
وهناك آثار عديدة من أقوال الخلفاء الأوائل كقول أبي بكر [ت 11هـ]: هذا علي بن أبي طالب، ولا بيعة لي في عنقه، وهو بالخيار في أمره، ألا وأنتم بالخيار جميعا في بيعتكم إياي، فإن رأيتم لها غيري فأنا أول من يبايعه[51]، ورواية عمر بن الخطاب [ت 23هـ]: من بايع رجلا من غير مشورة من المسلمين فلا يبايع هو والّذي يبايعه تغرة أن يقتلا[52]، وقول علي بن أبي طالب [ت 40هـ]: إنّ بيعتي لا تكون خفية، ولا تكون إلا عن رضى المسلمين[53].
وعموما جميع هذه الرّوايات والآثار مفهومها أنّ الأمر شورى ورضا من الجميع، والطّريقة وآليتها متروكة للزّمان والمكان، ولا يوجد دليل فيها على القرشيّة أو الهاشميّة أو الوراثة، ومع هذا المنهج كأصل بشريّ إلا أنّه تحول عقيدة وصراع كلامي من جهة، وتأثر بالمذهب والجنس والقبيلة من جهة أخرى!!
الهوامش: