تشهد المنطقة العربية تحولات جذرية غير مسبوقة في ملف الصراع العربي الإسرائيلي، ففي خطوة مفاجئة للرأي العام الفلسطيني والعربي قامت حركة المقاومة الإسلامية (حماس) بمراجعات لمواقفها الاستراتيجية الثابتة اتخذت على إثرها قرارات عدة، اعتبرت (تنازلات)، من شأنها إنهاء حالة الانقسام الفلسطيني المستمر منذ سنوات، وإتمام المصالحة مع حركة فتح.
قرارت حماس الأربعة اشتملت على، حل اللجنة الإدارية في قطاع غزة، ودعوة حكومة الوفاق للقدوم إلى قطاع غزة، لممارسة مهامها والقيام بواجباتها، والموافقة على إجراء الانتخابات العامة، واستعداد الحركة لتلبية الدعوة المصرية للحوار مع حركة فتح، حول آليات تنفيذ اتفاق القاهرة 2011 وملحقاته، وتشكيل حكومة وحدة وطنية في إطار حوار تشارك فيه الفصائل الفلسطينية كافة الموقعة على اتفاق 2011″.
الوساطة المصرية بقيادة رئيس المخابرات العامة خالد فوزي كانت حاسمة هذه المرة على عكس المحاولات السابقة، فبعد اجتماعات عدة بين وفدي حماس وفتح في القاهرة لم تتردد حماس نحو المضي قدما في القرارات السابقة لتحقيق مصالحة فلسطينية حقيقية تمهد الطريق إلى وحدة الصف الفلسطيني لتكون نواة لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي وتخفيف المعاناة عن الشعب الفلسطيني.
قرارات حماس أثارت العديد من التساؤلات حول توقيتها وأهدافها والنتائج المترتبة عليها، وما إذا كانت الحركة اضطرت لها بعد ضغوطات مورست على قياداتها ومن جهة وحصار القطاع من جهة أخرى. تخلي حماس عن قطاع غزة يأتي بعد 10 سوات من الحصار المحكم بقطع الماء والكهرباء والغذاء وقطع الرواتب، فضلا عن منع إعادة إعمار القطاع الذي دمره العدو الصهيوني، كذلك بعدما فقدت حماس الأمل في الربيع العربي بالمنطقة.
حماس في أحضان السيسي
استضافت القاهرة اجتماعات عدة بين وفدي حماس وفتح في محاولة لتقريب وجهات النظر بين الطرفين لإنجاز ملف المصالحة، إلا أن هذا الموقف وضع الوسيط المصري في مأزق شديد، ففي الوقت الذي يضطر فيه رئيس المخابرات العامة المصرية للقاء قيادات حماس في القاهرة، توجه الحكومة المصرية ذاتها اتهامات لحركة حماس بدعم الإرهاب في سيناء، وتحاكم قيادات من جماعة الإخوان المسلمين على رأسهم الرئيس السابق محمد مرسي بتهم تتعلق بالتخابر مع حركة حماس التي تجلس معها على طاولة واحدة.
وهذا ما يدعو للاستغراب أن تكون مصر هي المحرك الأساسي لعملية المصالحة رغم أنها العدو اللدود لحماس وتعدها محرك عجلة الإرهاب في مصر ومصدرا لكافة الاغتيالات التي يتعرض لها العسكريون في منطقة سيناء، فضلا عن اغتيال النائب العام الراحل هشام بركات، وهذا تشهده ساحات القضاء، وتحدث عنه وزير الداخلية المصري مجدي عبدالغفار الذي أكد أن “مخطط” اغتيال بركات “صدر به توجيه من القيادات الإخوانية الإرهابية الهاربة في تركيا وبالتنسيق مع الذراع الأخرى المسلحة لجماعة الإخوان المسلمين في غزة وهي حركة حماس التي اضطلعت بدور كبير في تنفيذ هذا المخطط وتنفيذ اغتيال النائب العام وأشرفت على العملية منذ بدايتها حتى انتهاء تنفيذها”.
وقد لجأت حكومة السيسي إلى التضييق على الحركة بشتى الطرق ما بين تصنيفها كمنظمة إرهابية، وحظر أنشطتها في مصر والتحفظ على جميع مقراتها، إلى أحكام قضائية بإعدام عدد من الفلسطينيين التابعين للحركة.
تخوين ومصالحة
الموقف المصري تجاهل كل هذه الاتهامات من أجل إتمام المصالحة، وهو ما جعل مراقبين يشكون في نزاهة الوسيط المصري ويرون أنه يصب لصالح إسرائيل ضد المصالح الفلسطينية، إذ رأى الحكومة المصرية أنه بدلا من المواجهة المستمرة بين حماس والكيان الإسرائيلي، فمن الأفضل العمل على تصفية الحركة بصورة تدريجية.
فبدون سابق إنذار تحولت هذه العلاقة من النفور إلى ترحيب وضيافة، ففي يناير من بداية العام الحالي التقى إسماعيل هنية نائب رئيس المكتب السياسي لحماس مسؤولين مصريين بالقاهرة، في خطوة اعتبرت نقلة نوعية وإيجابية في العلاقات مع القاهرة، ثم توالت الزيارات التي أثمرت في النهاية عن تمهيد الطرق للمصالحة الفلسطينية.
من جهته الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي يرى في إنجاح المصالحة الفلسطينية مزايا عديدة، منها أنها فرصة لتقديم نفسه للولايات المتحدة على أنه شريك فعال وأساسي في قضايا المنطقة لا سيما الصراع العربي الإسرائيلي، وبالتالي يكسب رهان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في تحقيق ما فشل سابقوه في إنجازه، وبالتالي يصبح الطريق ممهدا نحو حصول السيسي على جائزة نوبل للسلام، وكذلك استعادة القاهرة لمكانتها الدولية والأقليمية، فضلا عن مزايا اقتصادية أخرى.
حماس تبادر وفتح تستجيب
فتح من جانبها وجدت أنه لزاما عليها أن تستقبل قرارات حماس بمزيد من الفاعلية والإيجابية، حيث أكدت على أهمية استعادة الوحدة الوطنية وإنجاح المصالحة الوطنية وتمكين حكومة الوفاق الوطني من العمل بشكل فعلي في غزة دون أي عوائق.
وعليه توجه رئيس الوزراء الفلسطيني، رامي الحمد الله إلى قطاع غزة، لأول مرة منذ عام 2015، لتسلم جميع المسؤوليات في القطاع في محاولة طموحة لإنهاء الانقسام بين الفصائل الفلسطينية المتنافسة.
كذلك فإن السلطة الفلسطينية بقيادة محمود عباس ستكون مطالبة بإلغاء القرارات التي اتخذت تجاه أهالي قطاع غزة، تلك التي تمثلت في وقف التحويلات المالية إلى القطاع وخفض رواتب موظفي السلطة الفلسطينية هناك والتوقف عن دفع فاتورة الكهرباء.
صفقة القرن
كشفت وسائل إعلام إسرائيلية أن اجتماعا عقد قبل عام ونصف في العاصمة الأردنية عمان بين رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الخارجية الأمريكي السابق جون كيري والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي وعاهل الأردن عبد الله الثاني، تناول مقترحات جديدة لتسوية النزاع الفلسطيني الإسرائيلي على أساس يهودية الدولة وتبادل الأراضي، بما أطلق عليه صفقة القرن.
وتسعى مصر مع السعودية والإمارات العربية المتحدة في هذه الصفقة إلى المصالحة الفلسطينية كجزء من مخطط برعاية أمريكية من أجل اتفاق سلام إقليمي مع إسرائيل.
وتقضي الصفقة -التي أنكرتها القاهرة وعمان- بتنازل فلسطين عن جزء من الضفة لصالح الكيان الإسرائيلي، وتنازل مصر عن جزء من سيناء على الحدود مع قطاع غزة لتوطين الفلسطينيين، مقابل حصول مصر على جزء من صحراء النقب فضلا عن مزايا اقتصادية أخرى منها السماح لمصر بالحصول على القدرات النووية السلمية، يقابل ذلك التزام إسرائيلي بوقف عمليات الاستيطان خارج الكتل الاستيطانية، مع استمرار التنسيق الأمني تحت إشراف أمريكي، والسماح لجيش الاحتلال بالعمل في الضفة الغربية، والتلميح بإطلاق سراح عدد من الأسرى.
وما يشير إلى أن صفقة القرن تسير بخطى ثابتة هو البدء بصورة تدريجية في القضاء على المقاومة وعلى رأسها حماس بأن تتحول لمجرد حزب سياسي، وهو ما يترجم الآن على أرض الواقع بعد تنازلها عن غزة، حيث لم يتبق لها سوى كتائب عز الدين القسام الجناج العسكري لها وهو ما تسعى إسرائيل حاليا للقضاء عليه بالضغط على جميع الأطراف.
وفي الوقت الذي يشهد فيه قطاع غزة أزمات طاحنة جراء الحصار المفروض عليه نتيجة الخلافات بين السلطة الفلسطينية وحماس، يظهر النائب السابق في المجلس التشريعي محمد دحلان كجزء من الخطة الموضوعة بأن يحل الأخير رئيسا للسلطة الفلسطينية بدعم مصري إماراتي سعودي بدلا من محمود عباس، وحينها تنفرج الأزمات في غزة ما يجعل الغزاويين يتمسكون به ويفضلونه عن حماس وأبو مازن.
لذلك يمكن القول إن ما يدبر في الكواليس بين قادة الولايات المتحدة وإسرائيل وبعض القادة العرب والخليجيين بما أطلق عليه صفقة القرن، يسير بصورة ممنهجة وخطى ثابتة نحو تصفية المقاومة ومن ثم قتل للقضية الفلسطينية بصورة نهائية.
وعليه فإن محاولات إسرائيل المستمرة لتحويل حركة حماس من حركة مقاومة لمنظمة سياسية هو أكبر دليل على نجاح مشروع المقاومة ضد الكيان الصهيوني، ولولا الموقف العربي الخليجي الداعم لهذه الصفقة التي تتم برعاية أمريكية أوروبية لظلت المقاومة شوكة في ظهر الاحتلال الإسرائيلي.
تاريخ من الصراع بين فتح وحماس
تتبنى حركة حماس فكرا إسلاميا قوامه المقاومة العسكرية المسلحة ضد العدو الصهيوني، وعلى النقيض تتبنى حركة فتح فكرا علمانيا يعتمد على المفاوضات الدبلوماسية باعتباره السبيل الوحيد لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي.
وبرز الخلاف بين حركتي فتح وحماس عام 2007، بعدما وقعت اشتباكات مسلحة بين الأجنحة العسكرية لكلا الطرفين، وهو ما تسبب في مقتل وإصابة المئات في مشهد تألم له كل عربي ولم يسعد به سوى الاحتلال الإسرائيلي.
لكن الخلاف بين الحركتين يعود إلى أبعد من ذلك وتحديدا عام 1993، عندما وقعت منظمة التحرير الفلسطينية اتفاقية أوسلو للسلام مع إسرائيل، تلك الاتفاقية التي عارضتها حماس ورفضت وقف أنشطتها العسكرية ضد الاحتلال، وهو ما اعتبرته فتح تهديدا في مسيرة المفاوضات السياسية مع إسرائيل.
حاولت بعض الأطراف العربية التوسط بين حماس وفتح في محاولة للتهدئة عبر اجتماعات يمكن أن تمثل نواة لاتفاق يرضي جميع الأطراف، حيث عقدت اجتماعات في القاهرة والدوحة ومكة المكرمة.
في عام 2005 توسط جهاز المخابرات العامة المصرية بين الحركتين وتوج الاجتماع بـ”اتفاق القاهرة”، الذي نص على انتخاب مجلس وطني جديد في الداخل والخارج، وتفعيل منظمة التحرير الفلسطينية كممثل شرعي وحيد للشعب الفلسطيني يجمع كل القوى والفصائل الفلسطينية.
وكانت نتائج الانتخابات التشريعية عام 2006 التي حصدت أغلبيتها حماس بداية الشرارة للصراع بين الحركتين ما تسبب في انقسام بين الفصائل بعدما رفضت فتح وبقية الفصائل المشاركة في الحكومة التي شكلتها حركة حماس، برئاسة إسماعيل هنية، ومن جانبها اتهمت حماس، حركة فتح بالسعي للإطاحة بحكومتها.
وفي عام 2006 تدخلت قطر في خط الأزمة الفلسطينية وحاولت الوساطة بين الحركتين إلا أنها لم تنجح في ذلك.
وفي عام 2007 أطلق العاهل السعودي الراحل عبدالله بن عبدالعزيز مبادرة لعقد حوار بين حركتي فتح وحماس، انتهى بتوقيع “اتفاق مكة”، الذي أسفر عن تشكيل حكومة وحدة وطنية مشتركة يقودها الحمساوي إسماعيل هنية، والفتحاوي عزام الأحمد، إلا أن الاتفاق لم يستمر طويلا حيث وقعت الاشتباكات المسلحة بين الحركتين وأسفرت عن سيطرة حماس على قطاع غزة.
عادت القاهرة للوساطة مرة أخرى في 2009، حينما أطلقت المخابرات المصرية، مبادرة لتحقيق المصالحة، عرفت فيما بعد باسم “الورقة المصرية”، ولكنها لم تكتمل.
وفي أواخر عام 2010 عقد لقاء بين قيادات فتح وحماس في العاصمة السورية دمشق، لكنه لم يسفر عن أي نتائج ملموسة على أرض الواقع.
وفي مقر جامعة الدول العربية وقعت حركتا حماس وفتح في 2011، اتفاقًا للمصالحة، يتضمن تشكيل حكومة وحدة وطنية، بحضور محمود عباس، ورئيس المكتب السياسي السابق لحركة حماس خالد مشعل، إلا إنه لم ينفذ أيضا.
وفي العام التالي وقع محمود عباس مع خالد مشعل، اتفاقًا في القاهرة، ينص على بدء مشاورات لتشكيل حكومة توافق وطني، والسماح للجنة الانتخابات المركزية بتجديد سجلات الناخبين الفلسطينيين في قطاع غزة، إلا أن حماس أوقفت عمل لجنة الانتخابات المركزية فيما بعد.
وكذلك من ضمن الاتفاقات التي لم تشهد التنفيذ على أرض الواقع ما أطلق عليه “إعلان الدوحة”، وهو ينص على ترأس أبومازن حكومة انتقالية والإعداد للانتخابات.
كذلك في 2013، عقد الرئيس الفلسطيني محمود عباس، مباحثات مع خالد مشعل، في القاهرة، واتفقا على “تنفيذ اتفاق المصالحة الفلسطينية”، ولكنه أيضا لم ينفذ.
وفي 2014 أُطلق “اتفاق الشاطئ” بتشكيل حكومة وفاق فلسطينية وذلك بعد لقاءات جمعت قيادات من الحركتين في حماس وفتح ومنظمة التحرير الفلسطينية وكان ذلك في قطاع غزة.
وفي مارس من العام الماضي شكّلت حماس لجنة إدارية، لإدارة الشؤون الحكومية في قطاع غزة، وهو ما رفضته الحكومة الفلسطينية برئاسة رامي الحمدلله، واعتبرتها تخليا من قبل حماس عن مسؤوليتها في القطاع، وعليه اتخذ محمود عباس، إجراءات قاسية ضد قطاع غزة ردا على تشكيل حماس هذه اللجنة، ومنها تخفيض رواتب الموظفين وإحالة بعضهم للتقاعد المبكر، وتخفيض إمدادات الكهرباء للقطاع.
وفي سبتمبر الماضي أعلنت حركة “حماس″ حلّ اللجنة الإدارية التي شكّلتها في قطاع غزة لإدارة المؤسسات الحكومية بعد جهود مصرية لتحقيق المصالحة الفلسطينية وإنهاء حالة الانقسام.
العصا والجزرة
سياسة “العصا والجزرة” و”المراوغة السياسية” و”سياسة النفس الطويل” هي التكتيكات التي يمكن أن توصف بها هذه العلاقة الأخيرة بين حركة حماس ومصر وفتح، فبعد وصول العلاقة بين هذه الأطراف الثلاثة لمرحلة الصراع والتناقض عقب ثورة يناير 2011، إذ بها تتحول لعلاقة ود واحترام وأشياء أخرى، قد تسفر عن خباياها في المستقبل.