مشهد عبثي تعيشه الدول العربية منذ بداية الألفية الجديدة على مستوى علاقاتها مع الكيان الصهيوني، التي كانت بالنسبة للجميع “مغتصبة الأرض ومنتهكة العرض”، لكنها تحولت الآن إلى دولة صديقة يسعى الجميع إلى التقرب منها وتكوين علاقات صداقة ودبلوماسية قوية معها.
اتخذت العلاقات “العربية الإسرائيلية” منذ بدايتها طابعًا عدائيًا خصوصا على المستوى الشعبي، بحكم احتلال الكيان الصهيوني لعدد من الدول العربية (مصر وسوريا والأردن وفلسطين)، واستمر العداء قائمًا حتى بعد توقيع اتفاقية “كامب ديفيد” بين إسرائيل ومصر عام 1979 مع كل انتهاك للجيش الإسرائيلي في فلسطين أو سوريا، الأمر الذي أدى إلى اندلاع مظاهرات غاضبة في مدن عربية كثيرة، ما دفع الحكام العرب إلى “الشجب والندب والاستنكار” حتى يتوقف، إضافة إلى إرسال المساعدات الإنسانية إلى أهل فلسطين بين حين وآخر.
ومع اندلاع ثورات الربيع العربي في بداية العقد الثاني من الألفية الجديدة، وسقوط نظام حسني مبارك في مصر، وبن علي في تونس، ومعمر القذافي في ليبيا، وعبدالله صالح في اليمن، وعدم اكتمال الثورة في سوريا ضد بشار الأسد، تغيرت الخريطة، حيث أصبحت الشعوب العربية أكثر استعدادًا لتقبل الاحتلال الإسرائيلي- الذي تمكن من الترويج لنفسه في صورة “الوديع” في منصاته الرقمية بمواقع التواصل الاجتماعي، ليبدأ حكام العالم العربي في إسقاط “برقع الحياء” عن وجوههم أمام الشاشات. وعلى مرأى ومسمع من الجميع، معلنين عن علاقاتهم القوية مع دولة الاحتلال، بعد غياب “الرادع الشعبي”.
“ليس صدفة”
تطورت الأوضاع في البلدان العربية خلال السنوات السبع الأخيرة، وشهدت تخبطًا كبيرًا في التشكيلة الشعبية العربية، أفقدتها أحد القضايا الرئيسية التي نشأت عليها، خصوصًا مع انتشار موقع التواصل الاجتماعي، أهمها “فيسبوك وتويتر و يوتيوب“، ليبدأ “الاحتلال” في تقديم نفسه بدور جديد بعيدًا عن أخبار القتل ومشاهد الدماء التي تربت عليها الشعوب.
الكيان الصهيوني، أطلق العديد من الصفحات باللغة العربية لكسب ود الشعوب العربية، وتطبيع العلاقات معها، كما هو مأمول منذ توقيع اتفاقية 1979، أهمها “صفحة المتحدث باسم جيش الاحتلال، افيخاي أدرعي والتي تأسست في يوليو 2011، والتي تلقى رواجًا كبيرًا بين متابعيها الذين يصل عددهم أكثر من 1.2 مليون شخص من كل البلدان العربية، معتمدًا على نشر “تدوينات” تحمل آيات قرانية وأدعية إسلامية خصوصًا في صبيحة يوم الجمعة، إضافة إلى أخرى تؤكد محبة الإسرائيليين للعرب وتقاربهم معهم”.
وقرر الجيش الإسرائيلي، مؤخرًا، تشكيل وحدة جديدة للتواصل مع الفلسطينيين باسم “الإعلام الجديد”، في محاولة منه للتأثير على الفلسطينيين.
وأنشأ الاحتلال، أيضًا، صفحة “(إسرائيل تتكلم بالعربية) التابعة لوزارة الخارجية التي دشنت في أغسطس 2011، والتي تعتمد على نشر محتوى يغازل الشعوب العربية، معتمدة على رصد مدى تطور الحياة في إسرائيل وتعد الأكثر انتشارًا ومتابعة عن صفحة (افيخاي)، حيث يزيد متابعيها بضع آلاف، إضافة إلى صفحة كبار المسؤولين الصهاينة، مثل رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، والتي تكتفي بنشر البيانات الرسمية باللغة العربية فقط.
ودشن الاحتلال، أيضًا، صفحة للمتحدث الرسمي باسم نتياهو، أوفير جندلمان، والتي يتابعها 144 ألف شخص، والتي كانت بصبغة رسمية في بدايتها، حيث تنشر البيانات الرسمية فقط دون التفاعل مع الجمهور، إلا أنها تغييرت خلال العام الأخير من خلال نشر محتوى يعلن فيه الاحتلال حاجته إلى “جاسوس”.
وتعد صفحة “المنسق” الذي أطلقها الاحتلال مختصة بالأنشطة الحكومية في الأراضي الفلسطينية الميجر جنرال، يواف مردخاي، ذات الطابع الخدمي والتي يتابعها حوالي 115 ألف عربي من الصفحات الأكثر شهرة، أيضًا، حيث تعتمد على متابعة الإجراءات التي تقدم للفلسطينين في مناطق “يهودا السامرة وقطاع غزة”، والتي تعد الأكثر تفاعلاً مع الجمهور العربي، حيث ترد على تعليقات واستفسارات المتابعين.
وفي سياق متصل، أوضح السياسي المصري، ناجي الشهابي، أن الصفحات الإسرائيلية استطاعت بالفعل تقديم نفسها شكل جديد على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي، من أجل جذب متابعين لها وإحداث طفرة في العلاقات الشعبية مع البلدان العربية، مكملاً: “رغم نجاحها بشكل كبير، إلا أنها لن تتمكن من تحقيق ذلك، لأن (عداء إسرائيل) و(القضية الفلسطينية)، يبقيان هم الشعوب العربية على مدار التاريخ”.
“مصر والأردن”
أطلق الاحتلال بعض الصفحات، بهدف زيادة التقارب بين إسرائيل وشعوب بعينها، من أجل التقارب وتعزيز العلاقات الدبلوماسية والصداقة، أبرزها صفحة “إسرائيل في مصر” والتي يبلغ عدد متابعيها 145 ألفًا، وأيضًا، “إسرائيل في الأردن” والتي يبلغ عدد متابعيها 58 ألفًا، والتي تعتمد على نشر محتوى رسمي وبعض الأنشطة في القاهرة وعمان، مثل وفود السياحة الإسرائيلية والتعايش السلمي بين العرب والإسرائيلين.
ويرى مصطفى سليمان، أحد المتخصصين في “السوشيال ميديا”، أن إسرائيل اتبعت منذ شهرة مواقع التواصل الاجتماعي في الوطن العربي العمل على جذب متابعين إليها، معتمدة في البداية على خلق نوع من الجدل ثم نشر الرسالة التي يريدونها والمبنية على مغازلة العرب خصوصًا الشباب، موضحًا أن الصفحات الرسمية لإسرائيل نجحت إلى حد كبير في تغيير اللهجة الشديدة ضد الاحتلال مع وجود أعمار صغيرة جدًا على مواقع التواصل الاجتماعي.
وتابع: “أدمن صفحات مواقع التواصل الاجتماعي الإسرائيلية، بالتأكيد يخضعون إلى تدريب على مستوى عال جدًا، ليتمكنوا من تحقيق أهداف الاحتلال والتي تتمثل في كسر الحدة في العلاقات، إضافة إلى إظهار صورة الحياة في تل أبيب بشكل أجمل مما في البلدان العربية، ومدى النجاح التي حققوه، فضلاً عن الابتعاد عن محاولات الاستفزاز خلال الأزمات، وأيضًا إظهار التعاطف الدائم مع الحوادث التي تشهدها المنطقة والتعاون مع الحكومات”.
“كلمة السر”
الاحتلال نجح خلال الأعوام الست الماضية في تحقيق هدفه، خصوصًا مع اختيار رئيس قسم الدبلوماسية الرقمية باللغة العربية في وزارة الخارجية الإسرائيلية، يوناتان جونين، ضمن قائمة “فوربس إسرائيل”، ليكون واحدًا من أبرز 30 شخصية مؤثرة في إسرائيل، ليعكس تنامي قوة منصات “السوشيال ميديا” الإسرائيلية الموجهة للعرب.
وشدد يوناثان، عقب اختياره إلى أهمية التواصل مع الشعوب العربية، متابعًا: “أحد الأهداف الاستراتيجية لوزارة الخارجية هو التوجه إلى العالم العربي، ونحن نستخدم مجموعة متنوعة من المنصات من أجل إجراء حوار مع الجمهور العربي، حيث تجاوزنا المليون متابع في العديد من الصفحات، ونجحنا في إحداث حالة من التقارب بعض الشيء مع الشعوب العربية”، مستشهدًا بالتعليقات الإيجابية التي بدأت تظهر، إضافة إلى الرسائل التي تصل للصفحات.
وذكر السياسي المصري، ناجي الشهابي، في سياق متصل، أن فشل ثورات الربيع العربي كان له أثر كبير في تخلي الشعوب العربية عن القضايا القومية بعد التأثير الاقتصادي الذي تعرضوا له في السنوات الأخيرة، فضلاً عن عدم قدرتهم على التعبير في ظل قمع الأنظمة وأيضًا الأحداث الإرهابية التي تشهدها المنطقة.
“تغيير سعودي”
في مارس 2016، وقعت مصر والسعودية اتفاقية ترسيم الحدود بينهما، والتي تقضي بنقل ملكية جزيرتي “تيران وصنافير” إلى المملكة، إلى هنا الأمور قد تكون طبيعية بين دولتين شقيقتين، لكن اللافت للنظر، أن دولة الاحتلال أعلنت على لسان وزير دفاعها، موشيه يعلون، مباركتها للاتفاقية، مؤكدًا أن “الرياض” تعهدت باحترام مبادئ اتفاق السلام “المصرية – الإسرائيلية”، ما يشير إلى تغيير موقف “بلد الحرمين” التي لم تعترف بإسرائيل رسميًا حتى الآن.
ورغم عدم وجود علاقات بين إسرائيل والمملكة إلا أن لقاء المستشار السابق لرئيس الوزراء الإسرائيلي، ياكوف أميدرور، مع رئيس المخابرات السعودية السابق، الأمير تركي الفيصل بمعهد واشنطن في العاصمة الأمريكية، العام الماضي، كشف التحول الكبير في طبيعة العلاقات بين البلدين.
وقال الفيصل حينها: “بمجرد التوصل إلى اتفاق مع الفلسطينيين، يمكننا معًا تغيير الشرق الأوسط، فلا يوجد شيء يمكن أن يوقف دمج المال الإسرائيلي والعقل السعودي” حسب ما جاء في تقرير أعدته مؤسسة (PRI) الإعلامية الأمريكية، بعنوان “إسرائيل تطور علاقات جديدة مع السعودية ودول أخرى من الخليج”.
“خيانة علنية”
التغيير الذي بدى واضحًا في طبيعة العلاقات الشعبية “العربية الإسرائيلية”، ظهرت نتائجه خصوصًا خلال العام الماضي على مستوى العلاقات الدبلوماسية الرسمية مع الكيان، فأصبح مشهد الزيارة واللقاءات الحميمية عاديًا، وكشف عن ذلك زيارة وزير الخارجية المصري، سامح شكري، للأراضي المحتلة في يوليو 2016، والتي شهدت استقبال رئيس الوزراء الإسرائيلي، له في منزله، وحضوره مأدبة عشاء، الصور التي التقطت للمسؤول المصري الكبير بمنزل “سارة نتنياهو” أظهرت متابعتهما لنهائي أمم أوروبا لكرة القدم والتي كانت مقامة في فرنسا آنذاك.
هذا اللقاء لم يكن الأول فعليًا، لكن سبقه لقاء على مستوى أكبر في مدينة العقبة بالأردن في مارس 2016، والذي أعلنه عنه “نتنياهو” بعد 11 شهرًا في تصريحات صحفية لـ”هآرتس”، مشيرًا إلى أن اللقاء جمعه بالرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، وملك الأردن، عبد الله الثاني، ووزير الخارجية الأمريكي السابق، جون كيري، لبحث دفع عملية السلام في المنطقة.
ويرى الشهابي، أن التغيير في السياسيات العربية يأتي بسبب نجاح “المخطط الصهيو أمريكي” والذي كشف قدرة دولة الاحتلال على التحكم في المنطقة، وإبقاء وعزل الأنظمة، مشيرًا إلى أن الحكام العربي في الأعوام الأخيرة أصبحوا يحاولون تقديم “أوراق اعتمادهم” إلى دولة الاحتلال من أجل بقاء قضيتهم.
جنازة “بيريز”
الأمور بدت واضحة أكثر، خلال تشييع جثمان الرئيس الإسرائيلي السابق، شيمون بيريز، الذي توفى في سبتمبر 2016، عن 93 عامًا، والتي حضرتها 6 وفود رسمية عربية، حيث شارك في مراسم الدفن الرئيس الفلسطيني محمود عبّاس أبو مازن ووفد قيادي فلسطيني رفيع المستوى، ووزير الخارجيّة المصري، سامح شكري، ومن سلطنة عمان، السّفير خميس الفارس، ومن البحرين مبعوث وزارة الخارجية، ومن المغرب مستشار الملك المغربي”آندري أوزلاي”، ومن الأردن نائب رئيس الوزراء، جواد العناني، وكلها مشاركات ذات مغزى لا يفوت.
فعلامات التأثر ظهرت جلية على الرئيس الفليسطيني، الذي “سالت دموعه” متأثرًا بوفاة “قاتل الأطفال”، والحزن الذي غطى وجه الوزير المصري، والتي أثارت سخرية عارمة ضدهم، أكدت مدى التقارب بين الحكومات العربية والإسرائيلية.
وتابع الشهاوي: “ابتعاد الشعوب العربية عن المشهد القومي وانشغالها بحماية نفسها من الأنظمة أبعدها عن قضاياها الأساسية، فضلاً عن عدم قدرتها حتى على المطالبة بحقوقها التي تسلب منها”، مشيرًا إلى أن حالة “الشرذمة” في الدول العربية ساعدت كثيرًا في إظهار العلاقات بهذا المشهد المأساوي.
“إسرائيل تتباهى”
نتنياهو، تحدث مباهيًا الإسرائيليين في حفل أقيم بمناسبة عيد رأس السنة العبرية الجديدة في مقر وزارة الخارجية الإسرائيلية بمدينة القدس، الشهر الماضي، مؤكدًا وجود تطور كبير في العلاقات مع الدول العربية، واصفًا الوضع الحالي بـ”غير المسبوق”.
ونقل المتحدث باسمه، أوفير جندلمان، قوله إن “ما يحدث في علاقاتنا مع الدول العربية غير مسبوق، وأكبر من أي وقت مضى”، نتنياهو تابع: “التغيير الهائل يجري رغم أن الفلسطينيين لم يغيّروا بعد، شروط التوصل إلى تسوية”، منوهًا إلى تركيز حكومته على تطبيع علاقات بلاده مع الدول “السنية المعتدلة”، في إشارة إلى “مصر والسعودية والأردن والإمارات”.
وأضاف أن هناك تعاونًا بطرق ومستويات مختلفة مع الدول العربية، لكنه ليس في مرحلة الظهور العلني بعد، موضحًا أن هذه الأمور الحاصلة بصورة غير معلنة، هي أوسع نطاقًا إلى حد كبير من أي حقبة مضت في تاريخ دولة إسرائيل.
“علاقات سرية”
ويبدو أن وقت الإعلان جاء أقرب من أي وقت مضى، حيث ظهر نتنياهو والسيسي في لقاء على هامش اجتماعات الأمم المتحدة في نيويورك، الشهر الماضي، في جلسة نقلتها وسائل الإعلام، والتي اعتلت وجهه “ضحكات” تنم عن الألفة، ومدى التقارب بينهما، لتؤكد أن العلاقات السرية التي استمرت لعقود خوفًا من الغضب الشعبي جاء أوان أن تتصدر المشهد العربي ليبدأ الجميع مرحلة جديدة مع دولة الاحتلال.
وامتدت السياسة العربية الجديدة، لأن تعلن مجموعة الدول العربية في اليونسكو، برئاسة الأردن والسلطة الفلسطينية، عن سحبها طرح مشروع قرار ضد إسرائيل للتصويت عليه في اجتماع اللجنة التنفيذية لمنظمة “اليونيسكو”، والذي سيبدأ أعماله في باريس، هذا الأسبوع.
وينتقد مشروع القرار سياسة الحكومة الإسرائيلية في القدس الشرقية والضفة الغربية وقطاع غزة، لتكون هذه هي المرة الأولى منذ أبريل 2013، التي لا يتم فيها طرح مشروع قرار يتعلق بالصراع الإسرائيلي – الفلسطيني في مؤتمر لمؤسسات “اليونيسكو”.
“تسريبات ويكليكس”
لتؤكد المواقف صحة الوثائق المسربة من “ويكيليكس” عام 2011، والتي تحدثت عن علاقات دبلوماسية سرية بين إسرائيل ودول عربية، حيث أشارت برقية دبلوماسية سرية تعود لعام 2009 إلى أن وجود علاقات دبلوماسية سرية مكثفة بين إسرائيل ودول الخليج، موضحة أن إسرائيل ودول الخليج، تبادلوا معلومات استخبارية خطيرة، خاصة بشأن إيران.
وأوضحت البرقية أن معظم تلك الإجراءات الدبلوماسية بين تل أبيب وعواصم في الخليج العربي تمت لتنسيق السياسات وتبادل المعلومات الاستخبارية بشأن الخطر الذي تمثله طهران في المنطقة، رغم المظاهر العامة الخارجية التي توحي بالعدائية المتبادلة بين إسرائيل ودول الخليج.