تشهد المنطقة العربية بصورة عامة، والخليجية بصورة خاصة، تدهورا حادا لأوضاع الحريات والنشاط السلمي الحقوقي منذ بداية الربيع العربي في 2011. وبالرغم من باب الأمل الذي انفتح على مصراعيه للحراك الاحتجاجي السلمي عبر سقوط نظامين يعتبران من أحد أقوى وأقدم الأنظمة الأمنية في المنطقة مثل تونس ومصر، إلا أّن الإجراءات التي أعقبت هذا السقوط، أعطت نتائج غير متوقعة أو غير التي كان الشباب العربي يطمح إليها، من ناحية الإصلاحين السياسي الحقوقي. هذا التدهور وإن كان أحد الجوانب التي أسهمت في حدوثه هو الأوضاع الأمنية غير المستقرة للدول التي شهدت سقوط أنظمة أو تغييرها، إلا أنّ الحدّة الأمنية، كذلك، والعدائية التي انتهجتها الأنظمة القائمة في باقي دول المنطقة وكذلك الدول التي شهدت تغييرا سياسيا، كان العامل الرئيس لهذا التراجع.
ورغم أن النشاطين السياسي والحقوقي، أصبحا بحاجة إلى ضمانات قانونية كشرط لحدوثهما من أجل تأمين وضمان سلامة كل من ينشط تحت سقفيهما، إلا أنّ غيابهما أو التردد من ممارستهما أعطيا الضوء الأخضر للأنظمة القائمة للتوسع في انتهاكاتها وتكميم أفواه الناشطين والمعارضين وحتى المختلفين، وقمعهم بكافة الوسائل المتاحة لها، أمنيا واقتصاديا وإعلاميا وغير ذلك. هذا الغياب أفرد مساحة واسعة للسلطة لتعميم نظرتها أو رؤيتها للواقع السياسي والحقوقي، غطّت على كافة الرؤى والآراء الأخرى المختلفة معها.
كيف نعمل على تفعيل الحراك الداخلي مجددا؟
الحراك المجتمعي المستقل غير المُوجه من السلطة أو حتى من شخصيات السلطة، هو الرهان الحقيقي والمعيار الأصدق من أجل تطوير العمل السياسي والوصول إلى مرحلة عالية من الناحية الحقوقية. لذلك، عادة ما تعمد السلطات القمعية والمستبدة، إلى السيطرة على أيّ عمل مجتمعي ومراقبة أنشطته، إن لم تكن هي من تصنعها! ولكن يبقى أن بعض المبادرات التي تأتي على صورة نشاط ثقافي أو حقوقي، هي التي تحمل أملا إلى تفعيل دور المجتمع المدني بعيدا عن يد السلطة. ولكن ذلك ليس بالأمر الهيّن ولا حتى الممكن في ظل القمع المتزايد للسلطة، والتجريم القانوني لأي نشاط مدني السلطة لا تُرخص له.
لكن العمل المدني، ومع التكنولوجيا المتاحة، أخذ منحى آخر، وتغيّرت صورته التقليدية المعتادة من تجمعات أو نشاط ميداني. كما وفرت هذه التكنولوجيا مصادر عديدة لتصدير المعلومة والوصول إليها كذلك. وهو ما فتح نافذة أمل إن لم يكن باب أمل، للعمل المدني، وإمكانية نشره وتعميمه، بالتالي تطويره عبر التشارك في تفعيله وإتاحة فرصة نشر أفكاره ومجالاته المتنوعة والمختلفة. فوسائل التواصل الاجتماعي فتحت منصّة إعلامية لم يكن ليحلم بها أي متفائل إلى إيجاد وتفعيل العمل المدني. وإن كانت السلطة أو سلطات المنطقة العربية تمكنت حقا من إنشاء جيش إلكتروني ضخم مهمته المراقبة والاختراق والتشويش على كافة هذه الأنشطة، إلى جانب الملاحقات الأمنية المكثّفة للشخصيات التي تنشط بشخوصها الحقيقية، إلا أنّ كمية تدفق وانتشار المعلومات وإفلاتها من تحجيم أو حتى “منع” السلطة لها، يعتبر نجاحا يُعطي معنى حقيقيا لوصف “نافذة أمل” لهذه الحالة.
لذلك، مسألة التراجع عن المساهمة إلى رفع مستوى الحراك المجتمعي المدني أصبحت مسألة وقت حتى تزداد كثافتها، خاصة مع الميزة التي تقدمها هذه الوسائل عبر إمكانية البقاء بمعرف مجهول.
ما هذه الأدوات؟
لا أعتقد أن هذه الأدوات تختلف باستخدام وسائل التواصل الاجتماعي، عن الواقع. مع الأخذ في الاعتبار الفعالية والتأثير بين الوجود افتراضيا وميدانيا. إيصال المعلومة وآلية توظيفها أو تطبيقها متاح جدا وسهل تمريره، كذلك عمليات المقارنة الصحيحة والدقيقة بالأرقام والمخرجات، بين دولة وأخرى، إلى نشر الآراء المختلفة مع أسلوب أو إدارة السلطة، وغيرها من الأفكار التي تهدف إلى تحقيق معنى مقارب للنشاط المدني، الشبيه بطبيعة وجود الأحزاب والتعدد الحزبي، وكذلك الجمعيات أو المنظمات الحقوقية التي تهدف إلى رفع المستوى الحقوقي عبر إيصال المعنى الحقيقي للحقوق وأنواعها ومجالاتها وكيفية تفعيلها.
هذه الأدوات، وجودها وانتشارها سيضمن انتشار وجهة نظر مغايرة، وإن كانت فكرة انتشارها بأسماء أو معرفات حقيقية، سيكسبها أهمية أكبر لدى المتلقي، إلا أنّه ومن أجل ضمان سلامة مصادرها، بالتالي استمرارها وبقائها، فعملية تفعيلها بمعرفات وهمية يُفضّل طالما كان المحتوى الذي تقدمه أو ستقدمه هذه المعرفات هو الرهان الحقيقي إلى رفع مستوى الوعي والمعرفة وسيضمن وجود الصوت المختلف. خاصّة وأنّه إلى الآن، وبرغم الجيوش الإلكترونية التي وظفتها الأجهزة الأمنية للمراقبة والاختراق والتشويش، إلا أنها لا تملك الآلية إلى مراقبة الحسابات التي تكتفي بالمطالعة والقراءة دون التعليق أو الاشتراك بأي صورة كانت في هذه المنشورات.
هذه الأفكار إن انتشرت ولو بصورة أقل من المتوقع، إلا أنها دليل حقيقي على أن نوع الأفكار المنادى إليها هي أفكار سلمية، وإصلاحات تهدف إلى توسيع قاعدة المشاركة الشعبية، واستحداث قوانين تضمن الشفافية والمحاسبة لأي سلطة، وتنزع منها سلطتها المطلقة مع إعطاء المجتمع المدني إمكانية لشغل دور المراقب والمحاسب لهذه السلطة. ولن يكون مهما معرفة مصدر الجهات الطارحة لهذه الأفكار، طالما أنها تقوم على أسس ومبادئ تعمل بصورة واضحة من أجل الإصلاح السلمي، وتفضح الروايات الملفقة أو غير الحقيقية التي تعمل السلطة على تعميمها، من أن هكذا نوع من الحراك هدفه الإخلال بالأمن أو استهداف وحدة وسلامة المجتمع!
ولعلّ أهمية إيجاد طريقة لمراقبة مدى تأثير هكذا نوع من الأنشطة، سيكون وسيلة فعّالة إلى الرُقي به، وتنويعه وتطويره مستقبلا، عبر معرفة مخرجاته، والنوع المعرفي والجودة لهذه المخرجات، وإمكانية إحداث تغيير على المدى القريب أو المدى البعيد، في مختلف المجالات التي يتناولها هذا الحراك.
هل المقاطعة طريقة فعالة للتغيير؟
المقاطعة إحدى أهم الطرق المستخدمة للتعبير عن الرأي، ولعل الذين يعتقدون أو يجدون في المقاطعة طريقة تُعطي السلطة الفرصة إلى فرض الرؤية والنظرة التي تريد، وهذا حقيقي، إلا أنّ المقاطعة تحت ظلّ ظروف أمنية قمعية، ومراقبة سلطوية مشددة على أي صوت يحمل سمات مشكوك فيها، أو سبق وأن اشترك في نشاط ضد توجهات السلطة، نوعا ما مستحيل. فقد نجحت السلطة فعلا في توجيه المشاركات المحدودة للأصوات القليلة المعارضة لها، بل واستطاعت التحكم حتى في المحتوى المقدّم لها. واستطاعت كذلك تصوير المشكلة بأنها مشكلة إرادة وعقول، وليست مشكلة إدارة ونظام حكم. وحتى تلك الأصوات التي رفضت التوجيه لصوتها، أو التحجيم لدورها، يتم التخلص منها بسهولة، سواء عبر الاغتيال المعنوي الذي تمارسه السلطة عبر نشر خصوصيات هذه الشخصيات على العلن، أو عبر تلفيق التهم وبالتالي اغتياله قانونيا.
المقاطعة لا تعني بالضرورة هنا الصمت أو مواجهة السلطة فكريا، بل رفض أدوات السلطة التي تتيحها للعامة بحجّة فتح الباب للمشاركة في صناعة القرار، وابتكار طرق وأدوات مغايرة من أجل إيصال الصوت المعارض بطريقة لا يمكن للسلطة أن تصل إليها أن تشوهها.
المبالغة في التقليل أو التقدير
التقليل من قدرة السلطة أو حتى المبالغة في تقديرها، عادة ما يسهم إلى وجود مخرجات غير مرغوب فيها، خاصة مع الاستهانة بمدى قدرة السلطة على محاصرة هذا النوع من النشاط، وتوجيهه إلكترونيا، أو تشويهه. فالتسليم بتفوق السلطة ماديا أمر لا بدّ منه، فهي لديها من المال ما يمكنها من توظيف الكفاءات العالية لاختراق هكذا أنشطة، خاصة التي لا تتخذ من الحذر منهجا في عملها. ولكن كذلك المبالغة وإعطاء السلطة حجما أكبر من حجمها، لربما يتسبب في الأخير إلى انعدام هكذا نشاط بسبب الخوف.
كذلك المبالغة في تقليل أو تقدير ما يُمكن لهذه الأدوات المغايرة، سيتسبب في غياب روح الجديّة من المحتوى المعرفي المُقدّم، وسيأتي بمحتوى هزيل سهل التشكيك به وبالتالي سهل دحره وهزمه. إلى جانب ظهور معرفات حقيقية ستدّعي قيامها بالنشاط نفسه، فقط لتعميم فرضية أن السلطة تعطي مساحة واسعة للحريات المنادية للإصلاح السياسي أو الحقوقي، وأن الذين يتم قمعهم واعتقالهم ما هم إلا أصحاب مطالب أو مساعي شخصية، يهدفون إلى هدم مبادئ وقيم المجتمع!
كلا الأمرين سيكون لهما مخرجات غير محمودة العواقب، وستكرس في الأخير للنهج الذي تتبعه السلطة مع أي بوادر للعمل المجتمعي في جانبي الإصلاح السياسي أو الحقوقي.