في أرض بلاد الرافدين بجنوب العراق خاصة في “محافظة ميسان” والمناطق السهلية القريبة من الأهوار والأنهار يوجد أتباع “دين” شكلوا ثقافة عابرة للتحديات والإمبراطوريات والأديان التي توالت على أرض بلاد ما بين النهرين، خلال أكثر من عشرين قرنًا من الزمن، إنهم “الصابئة المندائيون”.
ورغم قلة أعدادهم والتي تتراوح بين 50 إلى 100 ألف شخص على مستوى العالم، إلا أنهم ما زالوا محافظين على تراثهم وعادتهم حتى اليوم، وعبر هذا التقرير تسعى “مواطن” إلى التعريف بـ”المندائية” الذي يقال أنها أقدم ديانات التوحيد في التاريخ.
من هم؟
“ظلام حالك” يحيط بأصل ونشأة الديانة “المندائية أو الديانة الصابئية أو ديانة الصابئة المندائيون”، والتي يعرف أصحابها أنفسهم بأنهم أبناء أقدم الديانات الموحدة التي عرفتها البشرية، حيث إنهم يُؤمنون بالله الواحد الأحد، ويؤمنون بالنبي آدم عليه السلام وشيت وسام بن نوح والخليل إبراهيم، وآخر أنبيائهم يحيى بن زكريا (يوحنا المعمدان).
اسم الصابئة مشتق، من الفعل الآرامي “صبا”، ومعناه تعمّد أو اصطبغ أو غطس في الماء، والتعميد، بغطس الشخص في الماء، ويعد أحد أهم الطقوس الدينية لدى الصابئة المندائية، ومقصود بـ”الصابئ” في اللغة العربية أنه الخارج عن ملة قومه.وسمى الصابئة أنفسهم بـ”المندائيين”، وهي صفة مشتقة من كلمة “مندا” الآرامية، والتي تعني “العلم والعرفان”، واللغة المصابئية أو المندائية، هي إحدى اللهجات الآرامية – البابلية.
وارتبط الصابئة بنبي الله إبراهيم عليه السلام، حيث احتفظوا بصحفه ومارسوا طقوس التعميد التي سنها واستمروا عليها إلى يومنا هذا، وذُكر أن قسما منهم هاجر مع إبراهيم إلى حران في سوريا والقسم الآخر في العراق، وعرفوا فيما بعد بـ”ناصورايي اد كوشطا” أي حراس العهد الذين أسسوا بيوت النور والحكمة.
أمور التأريخ اختلفت حول نشأة دين “الصابئة” ومصادره الأولى، لتخرج بنظريتين، أولهما: “أنهم من سكان النهرين (دجلة والفرات)، وأنهم ورثوا الكثير من الميثولوجيا البابلية، ولكنهم تأثروا باليهودية بحكم تجاورهم مع اليهود الذين سكنوا المنطقة نفسها، وأيضًا بالمسيحية بسبب الاحتكاك بالنساطرة المسيحيين.”
وذكرت الرواية الثانية، أنهم من سكان منطقة البحر الميت (فلسطين) أو في شرق الأردن، موضحين أنهم كانوا يقومون بالتعميد قبل أن يتنقلوا إلى جنوب العراق.وتدعو الديانة الصابئية للإيمان بالله ووحدانيته مطلقًا، لا شريك له، واحد أحـد، ومن جملة أسمائه: “الحي العظيم، الحي الأزلي، المزكي، المهيمن، الرحيم، الغفور.”
وتقول المندائية: “إن الله الحي العظيم انبعث من ذاته وبأمره وكلمته تكونت جميع المخلوقات والملائكة التي تمجده وتسبحه في عالمها النوراني، وإنه كذلك بأمره تم خلق آدم وحواء من الصلصال عارفين بتعاليم الدين الصابئي وقد أمر الله آدم بتعليم هذا الدين لذريته لينشروه من بعده.”
كتب الصابئة
وتعتمد الديانة الصابئية على عدة كتب تنظم لهم طقوسهم، وشعائرهم: المجموعة الأولى، هي أجزاء التعاليم الدينية: والتي جاءت بشكل أساسي في: “كنزا ربا (الكنز الكبير)، ويقول المندائيون إنه صحف النبي آدم، ويتألف من قسمين، كنز يمين يحتوي على التعاليم والوصايا والتحذيرات وعلى قصص الخلق والتكوين والنشوء وعلى صحف آدم وشيتل (شيث) بن آدم ودنانوخت (إدريس) وعلى قصص بعض الملائكة، وكنز شمال يضم مجموعة من التراتيل وعلى مجموعة من القصص الخاصة برجوع وعروج النفس إلى موطنها الأصلي”.
وكتب “دراشا إد يهيا (دروس يحيى)، وديوان أباثر (ديوان الملاك أباثر) و(آلما ريشايا ربا وآلما ريشايا زوطا) وفيهما شرح عن العالم الكبير الأول والعالم الصغير الأول، إضافة إلى عدد من الدواوين الصغيرة.
والمجموعة الثانية، تشمل الأجزاء التي تتناول المراسم والطقوس الدينية من الكنزا المندائي المقدس ومنها: “(سيدرا إد نشماثا) وتعني (كتاب الأنفس) ويعني بشكل رئيسي بطقوس المصبتا أو (التعميد)، ومراسم الزواج، وبعض النصوص تُعنى أيضًا بالمسقتا، وكتاب (القلستا) والذي يضم الأدعية والتراتيل والصلوات، ويضم كل ما جاء بتراتيل ونصوص الصباغة الصابئية، وتراتيل، الزواج والمسقتا.
وتضم أيضًا كتاب (قداها ربا) ويعني الصلاة العظيمة أو طلب التوسل العظيم؛ وكتاب (ألف وتريسار شيّاله) ويتضمن الأخطاء التي يرتكبها رجل الدين، وجزء منه التقويم المندائي السنوي، وآخر يتحدث عن مراسيم الزواج، وطقوس الصباغة.
أما المجموعة الثالثة، تشمل أجزاء المعرفة والعلم والتاريخ: وهما أسفر ملواشة أو كتاب تحديد أوقات الشر التي يواجهها الناس والمدن؛ وحران كويثا الذي يستعرض هجرة بعض الناصورائيين، وأيضًا بعض التواريخ للأحداث الفلكية السابقة وكذلك اللاحقة.
أركان دين الصابئة
ترتكز ديانة الصابئة على 5 أركان، أولها: “الشهادة والتوحيد (سهدوثا اد هيي)، وهي الاعتراف بالحي العظيم (هيي ربي) خالق الكون، واحد أحد، لاشريك لأحد بسلطانه”.
وثانيها: الصـباغـة (المصبتا)، وتعد من أهم أركان الديانة المندائية، حيث توجب على كل فرد منهم، ويرمز لديهم إلى الارتباط الروحي بين العالم المادي والروحي والتقرب من الله، وولادة جديدة للفرد تطهر القلوب من الآثام والأخطاء، وتستوجب على كل مندائي، ويجب أن تتم في المياه الجارية والحية لأنها ترمز للحياة والنور الرباني، ويجوز للصابئي تكرار الصباغة متى شاء.
وثالثهما: الصلاة (ابراخا)، وهي فرض على كل فرد منهم، يؤدى ثلاث مرات يوميًا (صباحًا وظهرًا وعصرًا)، ويؤديها الفرد قيامًا وركوعًا وجلوسًا بدون سجود، وتستغرق أكثر من ساعة، كما يسبقها (رشاما) تعني الوضوء، والتي تتكون من 13 فرضًا.
رابعهما: الصدقة (زدقا) ويشترط فيها السر وعدم الإعلان عنها، وتجب على كل صابئي.
خامسها: الصوم وهو عند الصابئة نوعين، الأول: الصوم الكبير، ويشمل الابتعاد عن كل الفواحش والمحرمات، وثانيهما: الصوم الصغير، وهو الكف عن تناول لحوم الحيوانات وذبحها خلال أيام معينة من السنة يبلغ مجموعها 36 يومًا.
طقوس خاصة
يرتدي المندائيون الزي الأبيض أثناء إحياء مراسم التعميد، عن طريق إدخال المعمَّد إلى (النهر الجاري) وإخراجه، معتبرين أن ذلك يغسله من ذنوبه وخطاياه، كما أنهم يرتلون خلال التعميد بعض الصلوات الدينية الخاصة بهم.
وخلال احتفال بعيدهم الأكبر يعتكف أبناء الطائفة المندائية في منازلهم لمدة 36 ساعة “للابتعاد عن العالم الخارجي لتجنب روح الأشرار كما يعتقدون”، ثم يخرجون للتجمع في المعابد وتلقي التهاني، ومتابعة طقوس العيد بالتعميد، والتي يرفضون خلالها الاقتراب من أي شخص لمدة 5 أيام (هي مدة الاحتفال) بدعوى أنهم لم يتخلصوا من خطاياهم الصغرى.
ويعتبر المندائيون الشخص غير المتزوج غير كامل دينيًا وروحيًا، وأن من يعيش بلا زوجة لا جنة له، كما يمنع الدين الصابئي الزواج من غير “المندائية”، ويعتبر من يفعل ذلك خارجًا عن الملة، ويسمحون للرجل بالعودة إلى الملة إذا تزوج من خارجها، لكنهم لا يقبلون بعودة المرأة.
غموض ومعاناة
ورغم اعتماد دين “الصابئة” على التوحيد، وذكر كتابهم العديد من الأنبياء الذين يؤمنون بهم، إلا أنهم يواجهون العديد من الأمور التي تروج ضدهم، مثل أنهم يعبدون الكواكب، وأن ديانتهم وثنية، إضافة إلى رفض البعض مصافحتهم ووصفهم بالأنجاس، وادعاء أنهم يخنقون الحيوانات، والذين “يحتضرون”.
وعن ذلك قال زعيم الطائفة المندائية في العراق والعالم، الشيخ جبار ستار حلو “إن العنف انتشر في العراق منذ 2003، وسعى كثيرون إلى إفراغ بلاد الرافدين من الديانات والقوميات التي تستوطن بها منذ آلاف السنين، ما أدى إلى انخفاض أعدادهم في العراق من 80 ألفًا إلى 7 آلاف تقريبًا، مشيرًا إلى أن ذلك يؤثر على التنوع الذي يجب أن يكون عليه المجتمع العراقي”.
ويعاني أبناء الديانة الصابئية من التهميش رغم نبوغ العديد من أبناء جلدتهم عبر التاريخ، منهم “أبو إسحاق الصابي وزير الطائع والمطيع، وثابت بن قرة وولداه سنان وإبراهيم اللذان برعا في الطب والرياضة والفلك والترجمة، والأديب إبراهيم بن هلال”، فلم يمثلوا في البرلمان في دورته الأولى 2006- 2010، وحصلوا على مقعد واحد بعد تطبيق نظام الكوتة بعد ذلك. وذكرت بعض كتب التاريخ، أن المندائيين رفضوا “التبشير” بعد تعرض للعديد من الانتهاكات من قبل اليهود، وإن كان اختلف في تحديد تلك الفترة.
وعكس الأديان السماوية كلها، ترفض الديانة الصابئة المندائية استقطاب أشخاص جدد، ولا يُمكن لغير المندائي أن ينتمي إلى هذه الطائفة، كما أنها ترفض أي طموح سياسي، ويتقربون إلى أصحاب الديانات الأخرى بنقاط التشابه الموجودة، ويشتهرون بصناعة الفضة.
الصابئة والإسلام
تلتقي الديانة “الصابئة” مع الأديان السماوية الأخرى (اليهودية والمسيحية والإسلامية) في العديد من الأمور العقائدية، تتمحور أغلبها حول التوحيد والحياة الأخرى بعد الموت، وتحريم السرقة والزنا والخمر، إضافة إلى فريضة الصوم التي يختص بها كل دين بشكل خاص به، إضافة إلى الصلاة، كما تتفق مع المسيحية من حيث “التعميد”، إضافة إلى تحريم الطلاق إلا في حالات خاصة.
وقد ذكر “الصابئة” في ثلاثة مواضع من القرآن الكريم؛ منها قول الله تعالى: (إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) البقرة/62، والثاني في قوله تعالى: (إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شيء شهيد) الحج/17، ويختلف دين الإسلام عن المندائية في أمور فقهية وتشريعية متعددة كوجوب الختان في الإسلام، لكن يؤمن المندائيون أنه تغيير في الخلق. وذكر بعض علماء المسلمين والباحثين، أن الصابئين المذكورين في القرآن هم الصابئة المندائيون، وعدوهم من بقايا الديانة الإبراهيمية.