قد يكون الحديث عن الجانب الحقوقي في مثل هذا الوقت هو من أوجب الواجبات التي يجب التحدث عنها بالنسبة لشخص مثلي خاض غمار تجربة دلوف المعتقلات والبراح فيها لبضع سنين. وقد كان لي شرف الكشف عن الكثير من الجرائم والانتهاكات الصارخة وتوثيقها ونشرها وأنا خلف القضبان في سابقة لم تحدث من قبل؛ فقد استطعنا اجتياز كل القيود الأمنية ما استطعنا إلى ذلك سبيلا، وكنت شاهد عيان على الكثير منها بل وضحية لها أيضا.
في البداية سأحدثكم عن جزء من تجربة عميقة جدا تتعلق “بالفكر” عايشتها في السجن ولا تزال تؤرقني كثيرا؛ فإذا استثنيت معتقلي الرأي، والمخلصين لفكرة الكفاح السلمي كفكرة لتحرير إرادة الأمة من نير كل مستبد محلي أو أجنبي، والذين أطالب بإطلاق سراحهم فورا دون قيد أو شرط؛ فإنني أقول:
وجدت في داخل السجن عصابة طامحة إلى السلطة (والتسلط) على رقاب أمتنا لا يريدون تحريرها وإنما يريدون استعبادها من جديد، ومعقودة بيعتها لطاغية تنظيم القاعدة قبل أن ينتقل ولاء الغالبية العظمى منهم لطاغية تنظيم جديد، وأعني هنا ما يطلقون على أنفسهم دولة الخلافة (داعش).ليس لديهم أي مشكلة مع الطغيان والاستبداد القابع على صدرورنا، وإنما يريدون أن يمارسوه بأنفسهم في أبشع صورة ممكن أن يتخيلها الإنسان، مخفين ذلك خلف شعار ” قتال الكفار والمرتدين وتطبيق الشريعة ” -شريعتهم هم بالطبع- ومعتنقين فكرة طغيانية لا يمكن أن يستوعب خطورتها إلا من اكتووا بنارها.
هم في الحقيقة أحفاد “لينين” و”ستالين” ولكن هذه المرة بعباءة الدين الإسلامي؛ وهم خمسة أقسام كما أحسب: منظرين فكريين؛ قادة عسكريين لديهم نزعة إجرامية؛ أتباع بعقلية القطيع وهم “الغالبية”؛ضحايا اعتقلوا لوقوعهم في دائرة الشبهة وهم أقلية؛سياسيين مرتزقة يريدون ركوب هذا التيار لتحقيق أهداف سلطوية.
ويتصدر صفوف هؤلاء أصحاب هوى ضلوا وأضلوا عن الفطرة الإنسانية حيث يقوم فكرهم على أن كل من يخالفهم ولا يخضع لإرادتهم “كافر مرتد يوجبون قتله”. بل أن الأمر تطور أكثر من ذلك فلم يتوقف تكفيرهم على من يوالي الأنظمة الرسمية العربية بل شمل حتى معارضيهم. بل إنهم أيضا ذهبوا أبعد من ذلك؛ حيث كفر بعضهم بعضا في جزئيات صغيرة جدا رغم اتفاقهم في أصول المنهج، وانقسموا على بعضهم دون أن يستوعبوا مستنقع الضلالة التي يغرقون في دركاتها ويريدون إغراق أمتنا معهم.
وحبل استحضار الأمثلة والشواهد المتتابعة التي تؤكد ما قلناها على الجرار؛ فالمغامرات السياسية والعسكرية التي فشلت فشلا ذريعا في أفغانستان والشيشان والصومال والعراق وسوريا وغيرها التي يجترونها بنفس الأخطاء وبعقلية نرجسية ترفض ممارسة أي نوع من النقد الذاتي والمراجعة المنهجية الصادقة؛ تؤكد عمق أزمة تلك التيارات. ولئن واجهتهم بتلك الأمثلة على اجترار فشلهم لأجابوا بأنه ابتلاء وتمحيص وغير ذلك من التبريرات التي تعكس حالة التحجر الرهيبة التي يعيشونها.
بل إن يد الاغتيال المعنوي والحسي تطال كل من يحاول النقد والمراجعة سواء من داخل التيار أو خارجه والشواهد كثيرة وأبرزها مراجعات بعض قيادات التيار في السجون المصرية ليتهموا بالخيانة والانهزام والإكراه في أقل الأحوال.
إن الأمة العربية والإسلامية تحمل اليوم في أحشائها بذرة فنائها، إذا لم تتدارك الوضع وترفع الاستبداد الاجتماعي و السياسي والديني عن مفكريها لمناقشة هذه الظاهرة وغيرها من الظواهر المقلقة والخطيرة.
قد تيسر لي الحوار والمناظرة مع بعض رموز هذا التيار داخل السجن حول ما يؤمنون به من أفكار، وعلى رأسهم الشيخ “حمد الحميدي”، وهو من أبرز قادتهم والذي قتل تعزيرا مع 46 من أتباعه لإدانتهم في عمليات إرهابية. وقد فاجأني الحميدي بتراجعه عن فكرة الجهاد ضد الغرب وتكفير الدول الإسلامية المنضوية تحت مظلة الأمم المتحدة إذا كانت الأمم المتحدة لا تمانع في الدعوة للإسلام على أراضيها ولم تكن محاربة لنا.
ومما قلته له ونحن نستقل حافلة صغيرة فيها اثنا عشر كرسيا يجلس عليها عدد من أتباعه: اعتبر أن هذه الحافلة تمثل الكرة الأرضية وكل فرد منا يمثل دولة بذاته، فأنا “أمريكا “وأنت “دولة الخلافة” ولا أمنعك من الدعوة لدينك ومعتقداتك على أرضي هل تقاتلني؟ قال: لا؛ فصُدم من إجابته الأتباع وانتشر خبر هذا الحوار داخل السجن انتشار النار في الهشيم. إذ هو يناقض تماما ما عهدوه منه. وكان أيضا يحرم التصوير الفوتوغرافي ولكنه استجاب لإدارة السجن وقبل بأخذ الصور له، ويوم سألته لماذا تقبل التصوير وأنت تحرمه وليس عليك إكراه، حيث لا يجبر أحد على التصوير؟ قال: أخشى أن يضروني فقلت: يعني ” تقية ” وليست قناعة؟ قال نعم؛ فقلت له كيف تمنح لنفسك هذا الحق وتسلبه من غيرك وتكفره بناء على اجتهادات مماثلة في قضايا أكبر، أليس ذلك من الجور والظلم لأقرانك من المشايخ وطلبة العلم الشرعي؟ سكت وعلى وجهه حسرة وندامة.
لكن للأسف هذا الحوار لم يطل إذ إن الوقت كان ضيقا ولم نستطع مناقشة قضايا أخرى. أذكر هذه القصة كنموذج يبين أن الحوار الحر يوصل إلى نتائج مرضية، وقد كان حوارنا حرا. وأكاد أن أجزم لو أن لدينا حرية رأي وتعبيرا على قدر متساوي للجميع لما انحرف شبابنا إلى أفكار التطرف والعنف التي تسيطر على مجتمعاتنا؛ ولكنه القمع والتسلط الذي يمارسه “الجميع ضد الجميع”.
إن جنوح السلطة إلى استخدام القبضة الأمنية كحل مبدئي لهو دليل على عجز الخطاب الشرعي الرسمي بل وحتى الحركي على مواجهة خطاب تيارات العنف. ولا أدل على ذلك من الزفرة التي أطلقها الملك الراحل عبدالله بن عبدالعزيز أمام رؤوس الأشهاد موجها نقده اللاذع والغاضب على المشايخ عندما قال لهم صراحة “أنتم فيكم كسل”.
صيحة الغضب هذه كانت من رأس السلطة في المملكة العربية السعودية وهي لدلالة على عمق الأزمة التي يعاني منها الخطاب الشرعي في بلادنا الذي مارس أسوأ أنواع القمع وأقبحه على المخالفين في قضايا فقهية بسيطة كالغناء وحلق اللحية بل ولبس الكبك والبنطلون !
وحتى أكون أكثر صراحة معكم تبين لي أن هؤلاء المتمردين على السلطة يعتبرون “حركة انشقاق” كبرى ضد الدولة السعودية حيث يعتقدون أنها خرجت عن المبادئ الإسلامية التي يعتقدونها؛ إذ إن خروجهم لم يكن خروجا من أجل الحرية والكرامة أو حقوق الإنسان، بل من أجل رغبتهم الجامحة في أن يعيدوا السلطة إلى عهودها المظلمة عندما كانت الدولة السعودية تعتنق فيها أفكار الشيخ محمد بن عبدالوهاب “المستبدة ” أو ينتزعونها منها ويحكمون قبضتهم الحديدية على الشعب من جديد باسم تأويلهم للدين.
السلطة السعودية كما تعلمون تبرأت منها ولو لم تصرح بها وحاولت تغطية الموضوع بمسميات أخرى يوم أن رأت أنها غير قادرة على مواجهة العالم بأفكار رجعية متطرفة لا تؤمن إلا بقمع الآخر وقهره وقتله إذا لم يذعن لسلطانها. لكنها -أي السلطة- عجزت عن الحصول على مظلة شرعية مرنة تبرر هذا التحول من خلال نقد إرث أئمة الدعوة الوهابية إذ لا يزال ذلك تابوها لا يمس وهو ما يفسر حالة الفصام بين الخطاب الشرعي والممارسة السياسية، وهو يفسر كذلك عجزها عن مصارحة أبناء شعبها بذلك وعدم امتلاكها القدرة على إطلاق حوار مجتمعي صادق يحررها من ثقل هذا الموروث. وبكل بساطة ووضوح لا تزال السلطة متخوفة من أي مشاركة شعبية لها في سلطاتها المطلقة.
وكما قلت لا أريد بهذا المقال مناكفة السلطة أو غيرها، لكن الأمر يستحق منا، وأعني الشعب والسلطة، وقفة جادة وصادقة فالغرب والشرق استغل هذه الفئة لتفتيتنا وإرهاقنا؛ فهو يغذيها في كل أرض أراد احتلالها أو تقسيمها وليس هناك أرض مستثناة في حربهم علينا، والسفينة إذا غرقت غرقنا جميعا.
وكذلك مما يزيد الطين بلة أن ترى النخب الحداثية والليبرالية والتنويرية في الوجه الآخر من ثقافة الاستبداد الذي نقدناه على التيارات الأخرى. ويكفيك أن تتصفح تويتر لترى اتخاذهم موقفا انتهازيا لتصفية حسابات قديمة مستعينين بالسلطة ومعينين لها على ذلك.
تأمل حالة النشوة والزهو بل ورقصهم على حملات الاعتقال التعسفي بحق خصومهم والتي جرت وتجري الآن في انتهاك صارخ لأبسط قواعد الإجراءات الحقوقية التي ينص عليها نظام الإجراءات الجزائية، متخلين بذلك عن كل المبادئ التي ينادون بها من حرية وعدالة ومساواة، مجسدين بذلك حقيقة الأزمة الثقافية التي نعيشها. الطغيان والاستبداد ليس هوية لتيار فكري بعينه إنما هو أزمة ثقافة ترسخت فينا وجعلتنا نضمر العداوات لبعضنا البعض ونعيد تدوير ثقافة الاستبداد بصور مختلفة.
كذلك ومع كل أسف قام نفر قليل من الحركة الإصلاحية “التقدمية” باستغلال ذات الخطاب لتسويق مطالبنا شعبيا مع عدم قناعتهم بها مطلقا حسب ما فهمت، إنما مناكفة للسلطة ومحاولة لتحقيق مكاسب سياسية ضيقة؛ مما شوه المشهد وأخفى حقيقة الأزمة في ظل غياب حقيقي للمثقفين والمفكرين الأحرار المستعدين للنضال والتضحية من أجل قضية عادلة ومنطلقين من مبدأ المشاركة والتعددية وقبول الآخر.
إن خروجنا من هذه الدائرة الثقافية الولادة للاستبداد والتسلط إلى رحاب التسامح والقبول والتعددية تبدأ بمشروع إصلاحي متكامل في “أسرع وقت”. فالفكر لا يعالج إلا بالفكر مهما كانت قوة القبضة الأمنية، من خلال سن قانون صارم وبطريقة “عاجلة” كخطوة أولى يحفظ فيها لجميع الأفكار حقها في الوجود ما لم يمارس أصحابها عنفا أو يدعون له.
وأقول لكل صاحب فكرة طغيانية يريد فرضها على المجتمع إن الأمة ليست جماعتك أو حزبك، الأمة جماعات ومذاهب وطوائف وأديان وما لم تكن فكرتك التي تناضل من أجلها تضمن لكل مكون الحقوق نفسها التي تضمنها لنفسك فأنت عدو لها في ثياب صديق. فمن يريد أن يؤطر الناس على قيمه الحداثية أو القومية أو التقدمية لا يختلف عن داعش التي تريد أن تؤطر الناس على مذهب خلافتها. جميعها ما هي إلا صور متعددة للاستبداد والوصاية والتسلط على رقاب الناس.