لم تكن كلمات محمد بن سلمان ولي العهد السعودي عن الصحوة الإسلامية بوصفها كانت حدثا قديما وأن المملكة لن تعود إلى ما كانت عليه من قبل، لتمر مرور الكرام لكنها أشعلت فتيل الأزمة بين منظومة الملك وبين رجال الدين، التي كانت الشراكة قائمة بينهما منذ تأسيس دولة آل سعود. كما أنها فتحت المجال للعديد من التساؤلات، هل الصحوة الإسلامية داخل المملكة كانت منهجا صحيحا تسير عليه السعودية بعد أن أيدها بعض الملوك؟ أم أنها كانت فكرة خاطئة وقع فيها ملوك الدولة وآن الآوان لتصحيحها.
وخلال هذا التقرير تحاول “مواطن” إلقاء الضوء على حقبة زمنية مرت بها الشعوب العربية، تحت مسمى “الصحوة الإسلامية”:
بدأت المجتمعات العربية في القرن الماضي، وخصوصًا من منتصفه مرحلة جديدة من تاريخها المتخم بالأحداث، فالمشهد التي كانت تعانيه من احتلال خلق جيلاً جديدًا يحمل مصطلح “الصحوة الإسلامية” والذي بدأ مساره داعيًا إلى مقاومة الاحتلال والعودة إلى قيم الإسلام والتجديد، لكنه مع سبعينيات القرن الماضي أبرز لنا “حركات وجماعات” بعضها يحاول الوصول إلى الحكم والآخر يرفع راية “الجهاد” ضد الجميع.
ماذا تعني الصحوة؟
لفظ “الصحوة” في اللغة العربية، يقصد به “الوعي والشعور والإدارك”، ويقصد بـ”الصحوة الإسلامية” اليقظة والوثب، بمعنى النهوض، ويعرف من ذلك التعريف اللغوي أن مصطلح الصحوة يهدف إلى إحياء الدين الإسلامي من جديد، خصوصًا بعد الهجمات والحروب والانحدارات المعيشية التي استهدفت المجتمعات الإسلامية منذ القرن قبل الماضي.
ويتجلى من خلال السرد التاريخي للأحداث، خاصة مع انهيار الدولة العثمانية والتي تعد آخر خلافة إسلامية، وانتشار الاحتلال في ربوع البلدان العربية من قبل القوى العظمى آنذاك، أن الصحوة كانت تهدف إلى مقاومة الاستعمار، ومحاربة كل المظاهر الغربية على المجتمعات، من أجل إعادة المجتمعات الإسلامية إلى ثقافتها القديمة، المتمثلة في “الالتزام بالقيم والأخلاق من منظور إسلامي، وإعادة الزي الإسلامي والفصل بين الجنسيين”، وما إلى ذلك من عادات إسلامية، دون أطماع في السلطة، لتتحول مع مرور الزمن إلى هدف رئيسي.
“البداية”
بزغ شمس الصحوة الإسلامية منذ أكثر من قرنين من الزمان، فيعتبر “الهرم الأكبر” محمد عبد الوهاب، مؤسس السلفية الوهابية والتي أطلقها أواخر القرن الثاني عشر الهجري، ببلاد نجد في المملكة العربية السعودية، حيث تعد كل المحاولات التي تلت فكر عبد الوهاب، والذي وصفه البعض بمجدد الإسلام، وليدة فكره إلا أنها كانت بعيدة عن العنف والقتل بدعوى “الجهاد” الذي تبنته الوهابية منذ نشأتها الأولى.
وبدأت محاولات “إحياء” الدول الإسلامية في العهد الحديث منذ منتصف القرن الماضي، رغم اعتماد الأبحاث على انطلاقها في فترة السبعينيات إلا أن لها تاريخا يسبقها بعدة عقود، وكان مخاضها الأول من خلال شيخ الأزهر الأسبق حسن بن محمد بن محمود العطار، والذي كان يقول “إن بلادنا لابد أن تتغير ويتجدد بها من العلوم والمعارف ما ليس فيها”، وتلاه تلميذه رفاعة رافع الطهطاوي والذي سار على درب شيخه، محاولا دفع الصحوة الإسلامية ولكن عن طريق التجديد وإضافة العلوم التي كانت منتشرة في الغرب.
ويعد الانطلاق الحقيقي للصحوة الإسلامية على يد جمال الدين الأفغاني الذي يعد واحدًا من المصلحين المسلمين الأكثر تأثيرًا في القرن الماضي، والذي سعى إلى ذلك من خلال ترحاله بين العديد من البلدان الإسلامية، ومعه تلميذه، أول مفتي مصري مستقل،الشيخ محمد عبده، أحد رموز التجديد في الفقه الإسلامي ومن دعاة النهضة والإصلاح في العالم العربي والإسلامي، والأكثر تأثيرًا في بدايات الحركة الإسلامية السلفية، واللذان قدما مشروع الجامعة الإسلامية.
“الانتشار”
شهدت الصحوة الإسلامية منذ بدياتها الأولى انتشارًا واسعًا، فبعيدًا عن المحاولات السابقة، شهد عام 1928 تأسيس حسن البنا جماعة الإخوان المسلمين أحد أكبر الحركات الإسلامية في العصر الحديث، والتي تعد أكثر الحركات تنظيمًا وتأثيرًا في التاريخ الحديث، وشملت لائحة باعثين الصحوة الإسلامية ومفكريها ونشطائها المفكر الإسلامي ومؤسس مجلة المنار محمد رشيد رضا، وصاحب كتاب “الإسلام وأصول الحكم” علي عبدالرازق، والمفكر عبد الرحمن الكواكبي ومالك بن نبي وعبدالحميد بن باديس في الجزائر.
وفي جنوب آسيا، عزز مفكرون إصلاحيون ورجال دولة مثل سيد أحمد خان ومحمد إقبال ومحمد علي جناح نظرية القومية الدينية الثنائية في شبه الجزيرة الهندية والعصبة الإسلامية في الهند، ما أدى إلى تأسيس الجمهورية الإسلامية الحديثة الأولى بباكستان، وأيضًا أحد مؤسسي الجماعة الإسلامية في جنوب آسيا (والتي تحولت الآن إلى أحد أكبر الأحزاب الإسلامية في شبه القارة الهندية، وتضم 4 دول هي باكستان والهند وبنجلاديش وسريلانكا)، أبو العلاء المودودي.
وتبرز الثورة الإيرانية ضمن قوام الصحوة الإسلامية في القرن الماضي، حيث كانت ثورة آية الله الخميني في عام 1979، والتي كان لها أبرز الأثر في عودة “السلفية الوهابية” إلى المشهد بعد انحسارها عقب انهيار الدولة السعودية الأولى.
“صحوة السعودية”
ولحقت المملكة بركب الصحوة وتحديدًا عقب الثورة الإيرانية وحادثة الحرم المكي على يد جهيمان العتيبي في 1 نوفمبر 1979 ضد حكام آل سعود، بدأ مصطلح الصحوة في الظهور بالمملكة في بداية حقبة الثمانينيات على يد بعض الدعاة من أمثال “سلمان العودة في بريدة، وعائض القرني في أبها، وسفر الحوالي في جدة، وناصر العمر وسعد البريك في الرياض”، والتي أدت لانتعاشة المذهب الوهابي الذي انتشر في السعودية قبل أكثر عقدين من الزمان.
وظهر من البداية أن الصحوة في السعودية كانت تهدف إلى أمور أبعد عن الدين والتقوى، واستخدمت من أجل اللجوء إلى الحكم بأساليب المراوغة والخداع، ولاقت الصحوة دعمًا كبيرًا من الدولة السعودية فور قيامها وخلال فترة الغزو السوفيتي لأفغانستان، إضافة إلى نجاح الثورة الإسلامية في طهران.
وتعد الفترة الأبرز لبزوغ الصحوة في المملكة في عهد الملك فهد بن عبد العزيز آل سعود، حيث بدأت الدولة في التأثر بتوجهاتها عمومًا، وتحدث الملك فهد بن عبدالعزيز عن الصحوة الإسلامية، قائلاً: “الصحوة ساهمت بتنوير بصائر المسلمين ونشر العقيدة الصحيحة، وإنها لم تكن موجودة تحت وطأة الاستعمار، لكنها الحمد لله الآن تنتشر في الشمال والجنوب والشرق والغرب”، مشددًا على أن بلاده كان لها دور كبير في دعم المسلمين في كل البلدان.
فيديو الملك فهد:
الملك فهد كان أكثر الداعمين للصحوة، حيث منح التيار الوهابي في البلاد كل السلطات ليحمي ملكه،رغم تأكيده دائمًا على أنها ساهمت في تنوير المسلمين، إلا أنه خلال تلك الفترة شنّ تيار الصحوة الوهابي حربًا على مجموعة من الشعراء والكتاب والروائيين السعوديين الحداثيين.
وبدأت الصحوة حربها الإقصائية لتيار الحداثة في المملكة، من خلال تجهيز بنيتها التحتية بالاستيلاء على 80 ألف مسجد، وعقد مئات الآلاف من المحاضرات، وتأسيس مئات الجمعيات الخيرية، ليكتسب رموز التيار الصحوي الجديد في المملكة قوة كبيرة، كما أنه عزز من تواجده بين العامة بإعلائه راية الإسلام والدين دائمًا في كل أحاديثه ومواقفه.
وفي منتصف تسعينيات القرن الماضي، ظهر صدام كبير بين قادة الصحوة والنظام الحاكم في المملكة، بعد مطالبتهم حكومة بلادهم بتغييرات اجتماعية وسياسية من أهمها وقف التعاون العسكري مع الولايات المتحدة إبان حرب الخليج الثانية، ليخرج من رحمها العديد من الحركات المسلحة، مثل “تنظيم القاعدة” والذي عانى العالم كله من أعماله الإرهابية، فضلاً عن تنظيم داعش المنشق عنه، وحركة طالبان.
وبقيت المملكة محافظة على توجهها بدعم الصحوة والحركات المسلحة في العديد من البلدان العربية والإسلامية، ولكن مع تولى الملك سلمان بن عبد العزيز الحكم في البلاد، وبزوغ نجم نجله محمد بن سلمان محليًا وإقليميًا وعالميًا، شهدت المملكة تغييرات انفتاحية كالسماح للمرأة بقيادة السيارات، وحضورهن بعض مباريات كرة القدم في بعض الملاعب، إضافة إلى تقويض يد هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي كان تمارس دور “الإله” على الموجودين في المملكة.
الأمير الصغير الذي يستعد لتولي القيادة محل والده، أطلق في نهاية شهر أكتوبر الماضي تصريحات كان لها وقع شديد، ليعلن عن بدء المملكة مرحلة جديدة من تاريخها، قائلاً: “السعودية لم تكن كذلك قبل 1979، السعودية والمنطقة كلها انتشر فيها مشروع الصحوة بعد عام 1979 لأسباب كثيرة لا مجال اليوم لذكرها، فنحن لم نكن بالشكل هذا في السابق.”
وتابع: “نحن فقط نعود لما كنا عليه، الإسلام الوسطي المعتدل المنفتح على العالم وعلى جميع الأديان وعلى جميع التقاليد والشعوب، 70 بالمئة من الشعب السعودي أقل من 30 سنة وبكل صراحة لن نضيع 30 سنة من حياتنا في التعامل مع أي أفكار متطرفة سوف ندمرهم اليوم بإذن الله”.
“حروب جديدة”
وضمّت الصحوة الإسلامية العديد من الحركات والجماعات والتي تولدت خلال العقدين الأخيريين، وكان الداعم الرئيسي لها السعودية، في مقدمتها: “حركة حماس وحركة الجهاد في فلسطين، والسلفية الجهادية (القاعدة) والتي كانت تعيش في أكثر من دولة على رأسهما (السعودية والعراق)، قبل أن تنتقل إلى أفغانستان وباكستان وتنظيم طالبان إضافة إلى حركة الشباب الصومالية وجماعة بوكو حرام في نيجيريا وتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي في مالي وحركة أنصار الدين في مالي.
ومع ظهور الحركات الإسلامية في العقود الثلاث الماضية، عمل أنصار الصحوة على استخدام مصطلح الجهاد للتعبير عن آرائهم وفرض معتقداتهم في شكل الدولة في حقبة الثمانينيات، رافعين راية الجهاد وسط دعم العديد من الدول لأجل تصفية حساباتها مع أنظمة بعينها، ولعل المثال الأبرز كان حرب أفغانستان.
لقد كان المشهد العام للصحوة في بداية تأسيسها جيدًا، رغم محاولات حاملي راية الدين في الوصول إلى الحكم إلا أنهم رضخوا إلى التخلي عن عباءة الجهاد، مرتدين ثوب الديمقراطية ونافسوا في أول تجربة لها في الوطن العربي بالجزائر تلتها اليمن ومصر وعدد من الدول، حاصدين العديد من الأصوات والمقاعد في الحكم لكنهم قابلوا عروشا ديكتاتورية جالسة على الحكم من عشرات السنين.
في بداية القرن الواحد والعشرين، بدأت الشعوب العربية في محاولات هدم عروش الدكتاتورية من خلال الوسائل المتاحة من الديمقراطية، لكن الجانب الآخر من العالم كان يشهد بزوغ حراك إسلامي بوجه آخر، بدأ بإعلان حرب عالمية تمت في أحداث 11 سبتمبر 2001، الوضع الذي غير المشهد عن بكرة أبيه تجاه طموح الإسلامين المشروعة.
“حرب أفغانستان”
إبان فترة الاحتلال السوفيتي لأفغانستان في الفترة من 1979 و1988 دعمت العديد من الدول المقاومين الأفغان، والذين استقبلوا المئات من المجاهدين العرب لتحرير بلادهم، وبحلول بحلول أواسط الثمانينيات، كبدت حركة المقاومة الأفغانية المدعومة من قبل كل من “الولايات الأمريكية المتحدة والمملكة المتحدة والصين والسعودية وباكستان ودول أخرى موسكو خسائر عسكرية كبيرة وعلاقات دولية متوترة.
وكان المحاربون غير النظاميين الأفغان يتم تسليحهم وتمويلهم وتدريبدهم بشكل رئيسي من قبل الولايات الأمريكية المتحدة والسعودية وباكستان، وتم إرسال المئات من المجاهدين السعوديين والخليجين ليشاركوا المقاومة، بموافقة أمريكية، لكن الوضع اختلف تماما، في أعقاب رحيل الاحتلال السوفيتي، حيث اندلعت حرب أهلية في أفغانستان في ظل محاولات الجماعة الإسلامية السيطرة على الحكم.
الوضع في أفغانستان بعد الحرب الأهلية التي شهدتها البلاد في الفترة من 1996 إلى 2001، وخلال تلك الفترة انتقل أسامة بن لادن الذي كان يقيم في السعودية مع أفراد تنظيم القاعدة وأسسوا معسكرات تدريب تحت غطاء حركة طالبان (والتي كانت تتولى الحكم حينها)، وبعد تفجير سفارات الولايات المتحدة في 1998 أطلق الجيش الأمريكي مجموعة من الصواريخ على المعسكرات التدريبية ولكن كان لها تأثير محدود على التنظيم (القاعدة).
“الدعم السعودي”
ودعمت السعودية بشكل كبير جدًا الجماعات الجهادية في قبل وبعد 2001، فكانت المملكة والإمارات وباكستان داعمين لنظام “طالبان” ومعترفين به رغم الرفض الدولي والعقوبات التي فرضت عليه من قبل مجلس الأمن.
وبقيت السعودية محافظة على دعمها المادي والمعنوي للحركات الجهادية في أفغانستان، وتلتها الجماعات المسلحة في سوريا وليبيا واليمن والعراق إبان الغزو الأمريكي وبعده، ومولت الإرهابيين هناك بملايين الدولارات، وعن هذا يقول المدير السابق للمكتب الأفغاني الباكستاني في العراق لوكالة الأنباء الباكستانية، العميد محمد يوسف: “إذا جاء دولار واحد من الولايات المتحدة، فباقي الدولارات أتت من السعودية”.
وتابع: “هذه الأموال التي بلغت مئات الملايين من الدولارات في فترة الثمانينيات تم نقلها إلى حسابات خاصة مملوكة للجماعات الإرهابية في أفغانستان عبر وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، والشيوخ والأمراء السعوديون يصرفون بسخاء، ويقدمون المبالغ النقدية الضخمة لمختلف الإرهابيين”.
وذكر وزير المالية السابق لنظام طالبان، آغا جان موتاسيم، في حديث مع صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية، أنه سافر إلى المملكة السعودية بدعوى الحج، من أجل الحصول على الدعم المالي من السعوديين وغيرهم، مشيرًا إلى أنه تنكر كطبيب وهرب عبر الحدود الأفغانية الباكستانية في سيارة إسعاف وسط حملة أمريكية خلال فترة الحرب في 2001.
وبقيت السعودية محافظة على عهدها في دعم الحركات الجهادية في أفغانستان البلد التي ما زالت تعاني من ويلات الحرب والإرهابيين حتى الآن، ولكن بإطار رسمي من خلال اتفاقيات دعم لحكومة أشرف غني التي يعتبرها الكثيرين ذراع السعودية والخليج في البلاد.