أزمات عدة واضطرابات كثيرة تنشر في ربوع الشرق الأوسط بأسره ودول التعاون الخليجي منذ ثمانينيات القرن الماضي أدت جميعها إلى كوارث وتطلبت مواقف جادة وحازمة من حكومات المنطقة، لكن دولة واحدة بقيت خلال حوالي 38 عامًا تسير في طريق “اللا موقف، واللا رأي”، وكأنها غير معنية بما يحيط بها وبجيرانها، لتبدو في “عزلة” أو “المنزوية” أثارت الشكوك حولها، إنها “سلطنة عمان”.
تبدو السلطنة منذ تولى – صاحب رابع أطول فترة حكم في العالم – وحتى اليوم تقريبا بعيدة عن المشاهد والأحداث في منطقة الشرق الأوسط حتى وصفت بـ”الدولة الغائبة”، في مواقف لا تحتمل “الصمت أو الحياد”، حيث إن الحقيقة بدت واضحة، ورغم كل ذلك واندلاع حروب قادت أنظمة إلى السقوط ودول في الدخول إلى معترك الفوضي وانتشار الإرهاب في ربوع أخرى، لكن دولة “عمان” لم تظهر في المشهد من قريب أو بعيد، فبقيت “مستكينة” في سياستها الخارجية، الأمر الذي يدعو إلى التساؤل بشأن السلطنة.
يصف الكثيرون سلطنة عمان بـ”الدولة الهادئة”، نظرًا لطبيعتها الخلابة، وشعبها المضياف الهادئ “صاحب التنوعي الديني” الخاص، يميل للتواضع دائمًا ويحبّ الجميع، ويبدو أن سياستها احتفظت بطباع شعبها، حيث ترفض السلطنة دومًا أن يكون لها موقف حازم في أزمة بالمنطقة، أو دور فعال يشار له بـ”البنان”.
لكن في الحقيقة المشهد السياسي العربي والخليجي أصبح يوجه اتهامات عدة إلى “السلطنة” خلال السنوات القليلة الماضية خصوصًا في ظل مواقفها “اللينة” تجاه الأزمات، خاصةً في ظل الاتهامات التي توجه للسلطنة في ظل علاقاتها مع إيران.
في السطور القادمة ستحاول “مواطن” التعمق أكثر في النهج “السياسي” الذي تتبعه سلطنة عمان منذ تولى السلطان قابوس مقاليد الحكم، والأسباب التي أدت إلى جعل السلطنة بعيدة عن الحالة العربية والخليجية والإسلامية.
“حياد مستمر”
على مدار حوالي 4 عقود من الزمان بقي موقف سلطنة عمان من الأزمات الموجودة في منطقة الشرق الأوسط بالكامل علامة استفهام غريبة، فثالث أكبر دول شبه الجزيرة العربية من حيث المساحة لم تعلن أبدًا عن اتخاذ موقف صارم تجاه أي من القضايا الإقليمية، ولا حتى بيانات الشجب والرفض للأزمات بين جيرانها، الأمر الذي فسره المحللون بمحاولة كسب كافة الأطراف.
يعد آخر مواقف السلطنة وضوحًا منذ تولي السلطان قابوس بن سعيد بن تيمور آل سعيد سلطان حكم البلاد عام 1970، هو إعلانها ورفضها قطع العلاقات مع مصر إبان تفاوض الرئيس المصري محمد أنور السادات مع الكيان الصهيوني لتوقيع اتفاقية سلام بين البلدين والتي تمت عام 1979، وأعلنت الدول العربية على إثر توقيع الاتفاقية المعروفة إعلاميًا بـ”كامب ديفيد” قطع علاقتها مع القاهرة، ونقل مقر جامعة الدول العربية إلى تونس، وسحب جميع الأرصدة العربية من البنك المركزي المصري وحل الهيئة العربية للتصنيع ومنع دخول الصحف المصرية أراضيها.
والتزمت السلطنة “الحياد” بعد ذلك، فمع اندلاع الأزمة الخليجية الأولى عام 1980 بين دولتي “العراق وإيران”، والتي استمرت حوالي 8 سنوات، شهدت العديد من الاشتباكات الحدودية بين البلدين ووقع العديد من الحروب البرية والبحرية والجوية، وأدت إلى مقتل أكثر من نصف مليون جندي إيراني وعراقي، حافظت دولة عمان على صمتها، بل أنها سعت إلى تعزيز علاقاتها الاقتصادية والسياسية بين الدولتين، رافضة اتخاذ موقف لصالح دولة على حساب الأخرى.
واستمرت عمان في سياستها خلال أزمة الخليج الثانية عام 1991، حين غزت العراق دولة الكويت، حيث بقيت السلطنة محافظة على نهجها، فبالرغم من إرسالها جنودًا للمشاركة في التحالف الدولي ضد بغداد واتخاذها موقف دول التعاون الخليجي نفسه، إلا أنها بقيت محتفظة بطريق مفتوح مع العراق، مؤكدة أنها تميل إلى الحل السلمي.
الموقف بدا مشابها خلال الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، فرغم إعلان وزير الخارجية العُماني حينها يوسف بن علوي، تمسك السلطنة بالجهود المبذولة لمنع اندلاع حرب على العراق، مضيفًا خلال مؤتمر صُحفي مع نظيره الإيراني، كمال خرازي: “السلطنة ما زالت تعمل وستعمل وستبذل كل جهد ممكن يهدف إلى عدم السماح باندلاع الحرب فى المنطقة أو الهجوم على العراق أو غزو العراق”، لكن الواقع الفعلي على الأرض شهد منح السلطات العمانية التسهيلات للقوات الأمريكية في الهجوم على بغداد، تحت دعوى اتفاقيات الدفاع المشتركة بين البلدين.
“ثورات الربيع العربي”
ومع اندلاع ثورات الربيع العربي في “مصر وسوريا وتونس واليمن وليبيا” كررت السلطنة الموقف ذاته، متبعة “سياستها الغامضة”، فلم تعلن عن اتخاذ موقف في أي من أزمات الشرق بصورة واضحة، ورغم استمرار أحداث الثورة في دولة سوريا منذ 2011 إلا أن السلطنة لم تبدِ موقفًا، إذ حافظت على العلاقات الجيدة مع النظام السوري واستقبلت وزير خارجيته وليد المعلم، ولكنها في الوقت نفسه لم تتردد في استقبال المعارض السوري خالد خوجة.
وفي الأزمة اليمنية اتبعت السلطنة الطريق ذاته، فرفضت المشاركة في التحالف العربي ضد الحوثيين، وانتهجت ذات الموقف بالنسبة لأزمة ليبيا رافضة الوقوف مع أي من الفرقاء خلال السنوات الأخيرة، إذ استضافت خلال عام 2016 الفرقاء الليبيين، لمحاولة تقريب وجهات النظر.
الأزمة “العربية القطرية” في يونيو الماضي بين كل من مصر والسعودية والإمارات والبحرين من جهة وقطر من جهة أخرى، والتي أدت لقطع الدول الأربعة علاقاتها مع الدوحة، تعد من أكبر الأزمات التي يشهدها مجلس التعاون الخليجي منذ تأسيسه، إلا أن السلطنة بقيت متخذة موقف “المستكين”، فلا هي دعمت دول المقاطعة ولا أعلنت تأييدها للدوحة في ظل ما تعانيه من عزلة.
وفي أعقاب الأزمة انطلق وزير الخارجية العماني إلى الكويت والتقى أمير الكويت، الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح الذي أعلن عن جهود يبذلها لتقريب وجهات النظر بغية الوصول إلى حلّ سريع، كما زار وزير الخارجية السعودي، عادل الجبير، السلطنة في زيارة وصفت أنها من أجل التدخل في الأزمة، ومحاولة ثني الدوحة عن موقفه، واستقطاب السلطنة إلى الموقف العربي.
“سياسة قابوس”
وصف الكثير من المحللين النهج الذي تتبعه “سويسرا الشرق” أو “الدولة المنسية” أو “السلطنة الهادئة” إلى حاكمها “قابوس”، مؤكدين أن السلطنة نأت بنفسها عن الحرب هنا وهناك والدخول في معترك الخلافات السياسية والطائفية المنتشرة في الشرق الأوسط، لكن بالعودة إلى الخلفية التاريخية للحاكم الأطول عمرًا بين الحكام العرب والرابع في العالم والذي بلغت مدة حكمه حوالي 48 عامًا، نجد أن سلطان دولة عمان الذي أتى إلى الحكم بـ”انقلاب” على والده، كانت أولى الوزارات التي أنشاها هي وزارة الخارجية والتي أسست بعد فترة قصيرة جدًا من اعتلائه “العرش”.
وكان السلطان قابوس تسلم مقاليد حكم عُمان في 23 يوليو 1970 إثر انقلاب وصف بـ”الأبيض” على والده السلطان سعيد بن تيمور، والذي أطيح به من الحكم في انقلاب زعم أن أنصار ابنه قابوس قادوه، ونصبوا ابنه على العرش، وتم نفي السلطان سعيد بعدها إلى لندن حتى توفي في 19 أكتوبر 1972 ودفن في مقبرة “بروكود”.
وذكر السلطان الموصوف بـ”الصامت” في بداية توليه الحكم أن سياسة بلاده الخارجية قائمة على حسن الجوار وعدم التدخل في شؤون الدول الخارجية، والوقوف مع القضايا العربية والإسلامية ومناصرتها في كافة المجالات، مشيرًا إلى أنه يؤمن بالحياد الإيجابي ويناصره.
ويعتبر المحللون أن سياسة عمان تلقى دعم العديد من دول العالم والدول الخليجية أيضًا، كونها تسمح دومًا بتوفير سبيل إلى التفاوض وإعادة الأمور إلى سياق الهدوء، كما حدث في العديد من المواقف، منها: “النجاح في الوصول إلى تفاهم بين العراق وإيران، وأيضًا في المُفاوَضات النوويّة بين إيران والدول الخمسة الكبار.”
كما لعبت دورًا في تأمين إطلاق سراح أفراد البحرية الملكية البريطانية عام 2007، وثلاثة سياح أمريكيين اعتقلوا في إيران عامي 2010 و2011، علاوةً على العديد من المواقف الأخرى.
“العلاقات مع إيران”
وأرجع محللون أن سر المواقف المتبانية من المملكة تجاه القضايا الأقليمية والدولية يعود إلى العلاقات التي تربطها بدولة إيران ذات الأغلبية الشيعية.
وتعود العلاقات العمانية الإيرانية إلى عهد الشاه في أوائل السبعينيات، قبل تولى السلطان قابوس الحكم، وتحديدًا في عهد والده، حيث تمكن عندما عمد إلى نشر قواته في محافظة ظفار عام 1962 بعد تمرد ماركسي أسهمت بدعمه دول أجنبية، وسعت السلطنة إلى سحقه بالمساعدة الإيرانية والبريطانية في عام 1976.
وتتشارك كل من إيران وسلطنة عُمان، في مضيق هرمز الذي يمر منه نحو 40% من نفط العالم المنقول بحراً، مدخل الخليج العربي ذي الأهمية الاستراتيجية الكبرى، وتتقاسم الدولتان حقولاً مشتركة للنفط، علاوة على وجود مصالح اقتصادية عدة بينها، فضلاً عن كون السلطنة تتخذ مواقف دائمًا مساندة لطهران، حيث رفضت مقاطعتها في حرب الخليج الأولى، كما ساندتها وقادت مفاوضات الملف النووي.
التقارب العماني الأيراني ظل واضحًا خلال العقود الأربع الماضية، فالسلطنة رفضت الوقوف مع العراق على حساب إيران 1980، ودفعت عجلة التفاوض بين أمريكا وإيران بشأن الملف النووي الإيراني2011، كما أنها رفضت الدخول مرارًا وتكرارًا في الصراع “الإيراني – العربي” عمومًا، و”الإيراني – السعودية” تحديدًا.
وكان السلطان قابوس، أول زعيم خليجي يزور إيران في أعقاب انتخاب الرئيس الإيراني، حسن روحاني الأولى عام 2013، والتقى خلال زيارته بالمرشد الإيراني، آية الله على خامنئي، ورد الزيارة نظيره الإيراني في مارس عام 2014 في أول زيارة لدولة من دول التعاون الخليجي كرئيس.
وتعد أبرز علامات الاستفهام المثارة حول العلاقات الإيرانية العمانية، هو رفص السلطنة فكرة الاتحاد الخليجي التي أطلقتها السعودية عام 2011 في أعقاب ثورات الربيع، وتهديدها بالخروج من مجلس التعاون الخليجي، إضافة إلى اعتذارها عن المشاركة في مناورات “حسم العقبان 2017” والتي اختتمت فعالياتها في أبريل الماضي، في الوقت التي شاركت مع القوات الإيرانية في مناورات على سواحلها عقبها بعدة أيام.
استراتيجية مسقط الحيادية الدائمة، جعلت منها دولة “غامضة” بالنسبة إلى الجميع، فكثيرون يرون أن التنوع الموجود في الدولة دافع لذلك، وآخرون يشيرون إلى أن التقارب “الإيراني” هو السر، وغيرهم يرمي إلى أن حياد السلطنة يعني أنها دولة “اللا شيء”.