كأنها قطعة لحم تتقاذفها الكلاب، هكذا كانت وأصبحت فلسطين ، فيمنح أرضها من لا يملك لمن لا يستحق، وفي الوقت ذاته لا يملك (العرب) حولا ولا قوة، وتلك مصيبة، لكن المصيبة الأعظم أنهم أصبحوا الجسر الذي يعبر عليه العدو للنيل من أصحاب الأرض الفلسطينيون.
فمؤخرا أطل على العالم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، ليؤكد أحقية الكيان الصهيوني في القدس، وأنها عاصمة أبدية لهم واصفا هذا القرار بأنه جاء متأخرا، ما فعله ترامب يذكرنا بما فعله وزير الخارجية البريطاني قبل 100 عام وتحديدا عام 1917 عندما أصدر قرارا بمنح فلسطين لليهود.
رحلة فلسطين مع اليهود وأتباعهم، هي هدف ومرمى قديم، تحقق بالفعل منذ 100 عام، وطوال هذه الفترة ينهش أرضها الاستعمار قطعة تلو قطعة، تحت سمع وبصر القوى العالمية، وشجب واستنكار الأهل والأصحاب والجيران، ولولا مقاومة على استحياء من أهلها لما كان بيننا ووسطنا دولة تدعى فلسطين.
إلا أن ما يدعو إلى الضحك والسخرية، أن كلا الشخصين بلفور وترامب، قاما بدور الواعظ، حيث أكدا على أهمية عدم النيل من حقوق أصحاب الأرض وأن مدينة القدس لا يجب أن يحرم المقيمون بها من حقوقهم المدنية والدينية، ويجب أن تبقى مكانًا يصلي فيه اليهود، والمسيحيون، والمسلمون”.
رحلة الاغتصاب الأولى ‘‘وعد بلفور‘‘
بدأت الرحلة الأولى لاغتصاب فلسطين منذ وعد بلفور البريطاني الذي أعطى منحة لليهود المشردين الذين ضاق بهم الحال في العالم أجمع وتمنوا أن تكون لهم دولة يجمعون شتاتهم بها، ورغم تعدد الخيارات أمامهم ليكون لهم دولة لكن وقع الاختيار أخيرا على فلسطين لتكون محطتهم التي سيعلنون منها دولتهم الكبرى.
وقد جاء الوعد بمنح الأرض الفلسطينية لليهود آن ذاك من وزير الخارجية البريطانية آرثر بلفور عام 1917 والذي سمي فيما بعد بوعد بلفور إلى اللورد روتشيلد أحد زعماء الحركة الصهيونية في شكل خطاب جاء نصه كالتالي:
عزيزي اللورد روتشيلد
يسرني جدا أن أبلغكم بالنيابة عن حكومة جلالته، التصريح التالي الذي ينطوي على العطف على أماني اليهود والصهيونية، وقد عرض على الوزارة وأقرته:
“إن حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلى تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، وستبذل غاية جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية، على أن يفهم جليا أنه لن يؤتى بعمل من شأنه أن ينتقص من الحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة الآن في فلسطين ولا الحقوق أو الوضع السياسي الذي يتمتع به اليهود في البلدان الأخرى”.
وسأكون ممتنا إذا ما أحطتم الاتحاد الصهيوني علما بهذا التصريح.
المخلص آرثر بلفور
شجب واستنكار منذ القدم
وكعادة العرب على مر التاريخ بعد أن صدر وعد بلفور تباينت ردود فعل العرب ما بين مستنكر ومستهجن وغاضب، والاستنكار، وكعادة الغرب أيضا ومن أجل امتصاص رد فعل العرب، قامت بريطانيا بإرسال رسالةٍ إلى الشريف الحسين مع الكولونيل باست تطمئن العرب بأنها لن تسمح للشعب اليهودي بالتوطين إلّا بالحجم الذي يتناسب مع مصالِح العرب الاقتصادية والسياسيّة.
وكان هذا الوعد من بريطانيا نوعا من التخديرٍ للحد من تصعيد الأمور، بينما أعطت أوامرها إلى الإدارة العسكرية البريطانيّة المسؤولة عن فلسطين باتباع جميع أوامر اللجنة اليهوديّة الموجودة.
ومن يومها والشعب الفلسطيني يقف على صفيح ساخن يقوم بالثورة والانتفاضة تلو الانتفاضة ليتحرر من الدنس اليهودي، ومازالوا يقدِّمون أرواحهم فداءً للمحافظة على الأرض الفلسطينيّة من التدنيس، حتى جاءهم الوعد الثاني وعد ترامب.
محاولات لتكوين الدولة
لم يكن وعد بلفور هو المحاولة الأولى من اليهود لانتزاع قرار يمكنهم من الاستيلاء على فلسطين والإقامة بها فقد حاولوا مرار وتكرارا فقد أكد موقع ‘‘عرب 48‘‘ أنه منذ تسرب اليهود إلى فلسطين بعد خروجهم من مصر، وهم يحاولون أن يربطوا أنفسهم بهذه الأرض ويحاولون بشتى الوسائل أن يكون لهم موطئ قدم فيها, وكتب اليهود التاريخية وعلى رأسها التوراة تتحدث بكل صراحة أن بني إسرائيل عملوا جاهدين حتى يؤسسوا لهم في فلسطين مجتمعاً كبيراً يرقى إلى مستوى الدولة تكون إقامتهم فيه دائمة عوضا عن الترحال والتنقل.
كما حاولوا بعد ظهور الديانة النصرانية أن يسايروا أباطرة الرومان حتى يتمكنوا من البقاء في تجمعاتهم في فلسطين، ولا يتعرضوا للسبي والتشتت في الأرض، فتعاونوا مع الرومان بداية في ملاحقة النصارى والتنكيل بهم والوشاية بأي نصراني وعلى رأسهم المسيح نفسه، وتغلغلوا في المجتمع الروماني وأوجدوا لهم ثقلا اقتصاديا حال دون القضاء عليهم بالرغم من معرفة الرومان ما يحيكه اليهود في الخفاء.
وحاول مفكروهم البحث عن بدائل للغيتو الذي كانت تتميز به تجمعات اليهود في كل مكان يقيمون به، عبر إقناع عدد من سياسيي أوروبا بإيجاد بقعة أرض لهم بعيدة كانت أو قريبة في إفريقية أو في آسيا وحتى في القارة الأسترالية.
وفي العصر الحديث، نادى نابليون كأول سياسي أوروبي علانية بإقامة دولة لليهود على أرض فلسطين، وهو صاحب النداء المشهور الموجه لليهود “ورثة أرض إسرائيل الشرعيين” الذي صدر في نيسان 1799م وقد دعا نابليون اليهود بهذا النداء للنهوض والالتفاف حول علمه، من أجل تحقيق أحلامهم، وإعادة دولتهم في الحملة الفرنسية التي احتلت مصر عام 1798م.
وكذلك حاولوا جاهدين مع السلطان عبدالحميد الثاني، فقد رأى الصحفي اليهودي تيودور هرتزل مؤسس الصهيونية السياسية المعاصرة. أن السلطان عبد الحميد الثاني عائق كبير أمام الأهداف الصهيونية بفلسطين فقرر التحرك دبلوماسيًا والعمل على إقناعه بكل الوسائل للحصول على وطن في فلسطين، ومن أجل الحصول على فرصة للقاء السلطان عبد الحميد حاول إقناع صديقه نيوزلينسكي ذي العلاقة الحسنة والطيبة مع السلطان، بالتوسط له للقائه، وبالفعل التقى بالسلطان عبد الحميد الثاني، وعندما طلب منه توطينهم في فلسطين قال له السلطان بالقول “لا أستطيع بيع حتى ولو شبر واحد من هذه الأرض، لأن هذه الأرض ليست ملكا لشخصي بل هي ملكٌ للدولة العثمانية، نحن ما أخذنا هذه الأراضي إلا بسكب الدماء والقوة ولن نسلمها لأحد إلا بسكب الدماء والقوة والله لإن قطعتم جسدي قطعة قطعة لن أتخلى عن شبرٍ واحد من فلسطين”.
رحلة الاغتصاب الثانية ‘‘وعد ترامب‘‘
ثم كان القرار الثاني المشؤوم والنكبة التي صدرت من قبل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الذي وعد بمنح القدس للكيان الصهيوني متحديا كل الأعراف الدولية والقرارات الأممية التي أقرت بحق فلسطين في الأرض، ليكشف ترامب الوجه القبيح لأمريكا، وينزع عنها برقع الحياء، ويثبت أن أمريكا لم ولن تكون أبدا الدولة النزيهة أو المحايدة.
لكن ما يجعل الأمر برمته كأنه أمر مبيت بليل، وإن ترامب ما كان ليأخذ ذلك القرار دون الاستناد على بعض القوى والأطراف العربية وهذا ما أكده كثير من المحللين الذي أكدوا أن هذه صفقة وقعت عليها العديد من الأطراف العربية ذات الثقل في المنطقة العربية.
لكن ما يجعل الأمر صعبا في هذا التوقيت عن السابق أن هناك وعيا عربيا لدى الشعوب ووسائل اتصال جعلت العالم أجمع كأنه قرية واحدة لذا اندلعت الثورات في كافة البلدان العربية مستنكرة لقرار أمريكا سواء على مستوى العالم العربي و الإسلامي أو العالم أجمع.
لتؤكد الشعوب العربية وحتى الغربية -كما يقول الكاتب عصام العبيدي- أنها ما زالت حية وضميرها يقظ ولم تصب بأي عطب كقادتها.. بل وكشفت هذه الشعوب أنه لا يمكن السيطرة عليها وتطويعها حسب إرادة ومصلحة الملوك والسلاطين!.