موقف ضبابي تعيشه المملكة العربية السعودية في أعقاب تصريحات ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان، بالتخلي عن التشدد والغلو في تعليمات الدين الإسلامي والعودة إلى الإسلام الوسطي مرة أخرى، والتي صحبتها عدة قرارات تتعلق بأمور تخالف طبيعة المجتمع السعودي المحافظ، وتغير من وضعه على الخريطة الإقليمية والدولية.
الأمير الصغير، الذي يستعد لتولي القيادة محل والده، أطلق في نهاية شهر أكتوبر الماضي تصريحات كان لها وقع شديد، ليعلن عن بدء المملكة مرحلة جديدة من تاريخها، قائلاً: “السعودية لم تكن كذلك قبل 1979، السعودية والمنطقة كلها انتشر فيها مشروع الصحوة بعد عام 1979 لأسباب كثيرة لا مجال اليوم لذكرها، فنحن لم نكن بالشكل هذا في السابق”. وتابع: “نحن فقط نعود لما كنا عليه، الإسلام الوسطي المعتدل المنفتح على العالم وعلى جميع الأديان وعلى جميع التقاليد والشعوب، 70 بالمئة من الشعب السعودي أقل من 30 سنة وبكل صراحة لن نضيع 30 سنة من حياتنا في التعامل مع أي أفكار متطرفة سوف ندمرهم اليوم بإذن الله”.
تصريحات الملك المنتظر والقرارات الأخيرة في السعودية، دعت العديد من المتابعين إلى التوقع بإعلان المملكة نهاية الحكم الوهابي، وبداية حقبة جديدة بعيدة عن التشدد والغلو في الدين، لكن “المجلة” سعت إلى البحث في التاريخ السعودي القريب والبعيد من أجل الإجابة على هذا التساؤل؟ ومحاولة استشفاف رد فعل الأصوليين على القرارات.
“وهابية السعودية”
وتبدو المملكة العربية السعودية عبر تاريخها الطويل بعيدة تمامًا عن الإسلام الوسطي، حيث ارتبطت السلطة في المملكة منذ إرهاصاتها الأولى بالتشدد الديني والفكر السلفي، فمع بدء إمام الحركة الوهابية محمد بن عبد الوهاب دعوته الدينية “السلفية المتشددة” عام 1744 ومحاولة حاكم الدرعية حينها الشيخ محمد بن سعود آل مقرن، أن يثبّت حكمه أمام توسع نفوذ بني خالد، حكام الإحساء التقت المصالح بينهما، فاستقبل الأخير الأول من أجل تثبيت ركائز حكمه.
ومنذ التقاء السعودية مع الوهابية لم يفترقا تقريبًا، فبدأت المملكة في التوسع من الدرعية وانتشر معها أيضًا فكر محمد بن عبد الوهاب وتلامذته ليغيروا عادات وتقاليد وفكر المجتمع، ليصبح أرضا خصبة جاهزة لتقبل فكرهم، واستمر ذلك مع محاولة عبد العزيز آل سعود في تأسيس السعودية الثالثة، والذي سعى خلالها إلى تقديم التمويل والدعم اللازم لأقطاب الحركة الإسلامية في مصر من الإخوان وغيرهم ليحظى بتأييد قيادات ذات وزن وتأثير في الشعوب.
ومع إعلان المملكة عام 1940، تم تأسيس “هيئة الأمر بالمعروف والنهي المنكر” والمكلفة بتطبيق نظام الحسبة المستوحى من الشريعة الإسلامية، والمعروفة إعلاميًا بـ”الشرطة الدينية”، حيث بدأت السعودية مرحلة أخرى في تاريخها مبنية على الأساس الديني المتشدد ومحاولة فرض السيطرة من أجل تثبيت آل سعود.
والتقت المملكة من جديد مع الفكر الوهابي في أعقاب الثورة الإيرانية وحادثة الحرم المكي على يد جهيمان العتيبي في نوفمبر 1979 خلال “الصحوة الإسلامية” التي انطلقت في السعودية مطلع الثمانينيات، بدعوة بعض الدعاة مثل، سلمان العودة في بريدة وعائض القرني في أبها وسفر الحوالي في جدة وناصر العمر وسعد البريك في الرياض وغيرها.
أيضًا، كان التقاء المملكة مع الوهابية في التاريخ الحديث، بعيدًا عن “الإصلاح الديني” فقط، فمع تثبت آل سعود في حكمهم بدؤوا مرحلة أخرى من خلال دعم وتمويل الجماعات الإسلامية في شتى الدول، إضافةً إلى نشر أفكارهم في المجتمعات الأخرى ومحاولة استرضاء واستقطاب الرموز الدينية المختلفة كما حدث مع الإمام محمد عبده وأنصاره من قبل الملك عبد العزيز.
وبزغت الصحوة بشكل أكبر في عهد الملك فهد بن عبد العزيز آل سعود، والذي منح أتباع التيار الوهابي في البلاد كل السلطات ليحمي مملكته وشن حملات من خلالهم على “الشعراء والكتاب الروائيين ورموز الحداثة”، رغم تصريحاته المستمرة بشأن أن “الصحوة الإسلامية ساهمت في تنوير المسلمين”.
واستمرت الحركة الإسلامية في المملكة في فرض سيطرتها على الشعب السعودي من خلال هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والتي يبلغ عدد رجالها حاليًا حوالي 8000 شخص، لمواجهة أي محاولة عن الخارطة التي بدأها ورسمها أبناء آل سعود بمساعدة -أو بالأدق باستغلال- الفكر الوهابي.
الهيئة المعروفة إعلاميًا باسم “الشرطة الدينية” والتي تبلغ تكلفتها 308 ملايين دولار سنويًا، والمزودة بأجهزة تواصل ذات جودة عالية وسيارات فخمة ومزايا ورواتب عالية، سعت دائمًا إلى فرض سطوتها لمنح حكام المملكة لهم جميع الصلاحيات، منها: “اعتقال الأشخاص وإقامة الحدود الشرعية لعدة أسباب، مثل: عدم إغلاق المحلات التجارية لأداء الصلاة في المسجد أو إطالة الشعر أو التجول في الأسواق أو إقامة الحفلات الفنية” والعديد من الأسباب التي لا توجب الحد الشرعي وفق العديد من المذاهب الإسلامية الأخرى.
وشهد تاريخ الهيئة منذ تأسيسها العديد من الانتهاكات التي أودت بحياة العديد من الأشخاص، لعل أبرزها: “اتهام عضوين بها بالتسبب في مقتل شاب في اليوم الوطني السعودي بعد مطاردته بسيارتهما الرسمية حتى سقط من فوق أحد الجسور، فضلاً عن اعتداء عضوين من الهيئة على فتاة في الشارع وسحلها والتي عرفت إعلاميًا بـ(فتاة النخيل)”.
وفي عام 2002 شكلت حادثة حريق مدرسة البنات في مكة صورة جديدة من الانتهاكات، حيث اتهمت الهيئة بزيادة أعداد الوفيات بعد طردهم أولياء الأمور الذين حاولوا إنقاذ أبنائهم ورجال الإطفاء والإسعاف، بحجة أنهن لا يرتدين الحجاب، تلك الحادثة التي أثيرت في الرأي العام العالمي والتي طالبت بسببها منظمة “هيومان رايتس ووتش”، السلطات السعودية بإجراء تحقيق جديد يمتاز بالعدل والشفافية لكشف حقيقة الحادث.
وإلى جانب الحادثة كانت مطاردة أفراد من الهيئة والأمن لسيارة عائلة كاملة دون تصريح قانوني والتي أودت بحياة رب الأسرة عبد الرحمن الغامدي وبتر يد الأم سميرة الغامدي وإصابة الابن بكسور مضاعفة ونزيف داخلي، من الجرائم التي أدت إلى مطالبة الكثيرين بتقنين وضع الهيئة وعمل إصلاحات شاملة في جهازها الإداري.
وتعد الواقعة الأبرز في تاريخ الهيئة، هي محاولة عدد من الأعضاء توريط الإعلامي علي العلياني، في قضية مخلة بالآداب، بسبب مواقفه الصدامية معهم، وتم تحويل الأعضاء المتورطين في القضايا إلى المحاكمة، والتي لاقت رواجًا إعلاميًا كبيرًا ليس محليًا وإقليميًا فقط بل على المستوى العالمي.
“تغير جذري”
ومع تزايد انتهاكات الهيئة واجهت السعودية، العديد من الانتقادات، داخليًا وخارجيًا، فبتولي الملك سلمان بن عبد العزيز الحكم، بدأ مرحلة جديدة لمحاولة الظهور بثوب جديد أمام الرأي العام العالمي بدعم كبير من الملك المنتظر محمد بن سلمان، حيث أعلنت المملكة قام في 30 يناير 2015 إقالة عبد اللطيف آل الشيخ (أحد أحفاد محمد بن عبد الوهاب) من رئاسة الهيئة، وعيّن محله عبد الرحمن بن محمد السند.
وشهدت سياسات المملكة الدينية “تغيرًا جذريًا” خلال الفتر ة الماضية، وفي أبريل من العام الماضي قرر مجلس الوزراء السعودي- بموافقة ملكية- تنظيم عمل الجهاز، حيث منع رؤساء المراكز وأعضاء الهيئة من إيقاف الأشخاص أو التحفظ عليهم أو مطاردتهم أو طلب وثائقهم، أو التثبت من هوياتهم أو متابعتهم، وتُحوَّل تلك الصلاحيات إلى الشرطة والإدارة العامة لمكافحة المخدرات، وقصْر دورهم على تقديم البلاغات إلى الجهات الأمنية المختصّة.
وجاء القرار الملكي بسبب تقرير الهيئة في عام 2015 والذي ذكر أنه تم التعامل مع أكثر من 380 ألف قضية، 92% منها انتهت بالمناصحة، والتعهد من الأطراف المتورطة فيها بعدم المخالفة.
التغيير الكبير في موقف حاكم السعودية مع الهيئة والذي دعم تصريحات الملك المنتظر بشأن العودة إلى الإسلام الوسطي، أثار العديد من التساؤلات بشأن موقف الهيئة خصوصًا بعد إعلان مجلس الشورى عن وجود توصية مقدمة من 3 أعضاء بضم الهيئة لوزارة الشؤون الإسلامية وإنهاء استقلالها.
“المرأة والفن”
وشهدت السعودية خلال الأشهر الثلاثة الماضية تغييرات كبيرة على عكس طبيعتها المتشددة خصوصًا فيما يتعلق بالتعامل مع المرأة والفن عمومًا، فأصدرت في سبتمبر الماضي، قرارًا بالسماح للمرأة بالقيادة، فيما يُوصف بـ”انتصار تاريخي” للمرأة التي ظلت تقاتل من أجله عشرات السنين. كما سمحت للمرة الأولى في تاريخ المملكة بالدخور إلى ملعب رياضي في إطار الاحتفالات بالذكرى الـ87 لإقامة الدولة السعودية المعاصرة.
وعلى خلاف العادات والتقاليد السعودية خلال العقود الماضية، أعلنت المملكة عن تنظيم عدد كبير من الحفلات الموسيقية وإذاعة حفلات لنجوم الفن العربي قديمًا وحديثًا، إضافةً إلى عرض بعض المسرحيات داخل أراضيها للمرة الأولى، والتي لاقت تفاعلاً كبيرًا على مواقع التواصل الاجتماعي في الشرق الأوسط.
“ولي العهد”
تصريحات ولي العهد السعودي، والتي تأتي ضمن خطة رؤية السعودية 2030، بشأن دور المرأة والعودة إلى الإسلام الوسطي وموقف المملكة من الفن أثارت قبولاً ورفضًا داخل المجتمع السعودي ذاته، إلا أن التصريحات والقرارات طرحت تسأولين، الأول: “هل تخلع المملكة عباءة الوهابية؟ والثاني: كيف سيكون رد “الأصوليين” على الخطوات المتخذة؟.
الإجابة على التساؤل الأول تبدو “نعم” الأقرب لها، خصوصًا في تصريحات محمد بن سلمان والقرارات الغريبة التي يتخذها لكنه يبدو متحكمًا أكثر في سياق الأمور داخل القصر الحاكم، وخصوصًا مع إقالة العديد من المسؤولين، وتوقيف العديد من الأمراء القريبين من السلطة، علاوةً على قرارات دعم المرأة والفن.
وبالرغم من كون “نعم” هي الأقرب، إلا أن موقف “الأصوليين” في المملكة والذين يتمتعون بسلطة كبيرة في ظل ما كانوا يتحلون به خلال العقود الماضية، وصلت إلى حد مقارعة السلطة الحاكمة رأسًا برأس والوقوف أمامها، الأمر الذي يثير التخوف من تحول الموقف في السعودية.
ولكن التاريخ السعودي الحديث شهد العديد من الدعوات من قبل الأصوليين والتي كادت أن تؤدي إلى اضطرابات سياسية ودينية في العديد من المواقف لعل أشهرها حادثة اقتحام الحرم عام 1979، والتي استمر المسلحون في السيطرة عليه حوالي 4 أسابيع، حتى تم فك الحصار بعدها.
واقعة اقتحام الحرم سبقها واقعة أخرى والتي بدأت في عام 1965 باندلاع تظاهرات بقيادة خالد بن مساعد آل سعود وحدوث اضطرابات على ضوء بعض الإصلاحات التي قام بها العاهل السعودي- آنذاك- الملك فيصل بن عبد العزيز، والتي انتهت بمقتل خالد في سبتمبر من عام 1965، وتبعتها محاولة فيصل شقيق خالد للثأر لأخيه باغتيال الملك فيصل.
وتبرز الواقعة الثالثة والتي بدأت عام 1916 فمع ظهور الشيخ عبد الكريم المغربي والذي استوطن واحة الأرطاوية الواقعة بين نجد والإحساء، وجمع العشائر من حوله ودرّب الشباب بشكل متطور على الحياة العسكرية، وأعلن عن تنظيم حركة باسم “الإخوان” والتي انضم إليها السلطان عبد العزيز الواحة والقبائل الواقعة تحت حكمه.
وشكّلٓ جيشا موحدا باسم “الإخوان” من أجل محاربة عملاء بريطانيا في الجزيرة العربية، أي خصوم آل سعود، ولكن بعد فترة اعترض التنظيم على سياسات عبد العزيز عقب ضمه للحجاز، لتبدأ الحركة عام 1927 أعمالاً عسكرية ضد الملك والكويت والعراق بسبب الانتداب البريطاني، لكن حاكم السعودية تمكن من السيطرة على المعارضين في عام 1930 بعد الاستعانة بالقوات البريطانية، التي قصفت معسكرات الحركة في “نجد والكويت والعراق”.
وتبدو كل المؤشرات تصب في مصلحة ولي العهد، خصوصًا في ظل التقارب الكبير بينه وبين الولايات المتحدة الأمريكية والكيان الصهيوني، إضافةً إلى الدولة المصرية والتي تشهد العلاقات بين البلدين توافقًا كبيرًا في ظل ما يتمتع به الجيش المصري من قدرات قتالية كبيرة وتأكيد الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، دائمًا أن أمن الخليج جزء من أمن مصر القومي.