تنوع المجتمعات ثقافيا وعرقيا أحد أسباب تقدمها وازدهارها بين سائر الأمم، إذ تمكنوا من استغلال هذا التنوع بصورة إيجابية، ولم يشعر أي مواطن في أنحاء القطر بالتمييز وهضم الحقوق مهما كانت لغته أو ثقافته طالما ينطوي تحت لواء الدولة. إلا أن هذا النسيج المتماسك سرعان ما يتفتت ويصبح أحد أسباب الصراع في الدولة الواحدة والمنطقة الواحدة إذا اختفت مظاهر العدالة.
صراع الأقليات في الوطن العربي حقيقة لا يمكن إنكارها، ولا يكفي اللجوء إلى نظرية التآمر الاستعماري فقط في بروز هذه القضية، لأنه حتى في حالة وجود مؤامرة فقد رحل المستعمر منذ عقود، وعلينا كوطن عربي أن نواجه واقعنا بكل صعوباته للوصول إلى الحلول المناسبة، مع الوضع في الاعتبار أن قضايا الأقليات أصبحت جزءا أساسيا في مبادئ حقوق الإنسان.
وقد نص ميثاق الجمعية العامة للأمم المتحدة على إعلان خاص بشأن الأقليات إذ تقول المادة الأولى فيه “على الدول أن تقوم كل في إقليمها بحماية وجود الأقليات وهويتها القومية أو الإثنية وهويتها الثقافية والدينية واللغوية وبتهيئة الظروف الكفيلة بتعزيز هذه الهوية”.
وتخضع أكثر الجماعات ذات الأقلية إلى حكم مركزي تحتكر السلطة السياسية فيه نخبة غالبا ما تكون متجانسة، ومن الحلول المطروحة إعطاء الأقلية حكما ذاتيا يقصد به وجود سلطة محلية في إطار الدولة المركزية، كما تعد الفيدرالية أحد الحلول المقبولة حيث تتوزع بعض السلطات بين المركز والأقاليم مع بقاء السيادة العليا ممثلة في الدفاع والسياسة الخارجية بيد الحكومة المركزية.
وتستعرض “مواطن” على مدار حلقات عدة، ملف الأقيات في الوطن العربي، في محاولة لإلقاء الضوء عليهم نظرا لمدى تأثير مسألة الأقليات على الأمن القومي العربي.
فشل الحكومات العربية، السبب؟
يتحدث البعض عن سكان الوطن العربي بأن مجتمعهم عربي اللغة ودينهم الإسلام ومذهبهم سني وهؤلاء يقدرون بأكثر من 80 % من السكان، وعند تفصيل الخريطة الإثنية نجد تعددا يظهر وجود مسلمين عربا وهم الأغلبية الساحقة وعرب غير مسلمين كالمسيحيين، ومسلمون غير عرب كالأكراد في العراق والشركس في الأردن والبربر في المغرب والجزائر وبعض الزنوج في السودان وموريتانيا، وهناك من ليسوا مسلمين ولا عربا مثل الأرمن في سوريا ولبنان.
أما على صعيد المستوى المذهبي فهناك مسلمون سنة وشيعة وعلويون ودروز بالإضافة إلى طرق صوفية وحركات سياسية دينية كثيرة مثل الإسماعيلية.
وفي إحدى الدراسات التي تناولت الدول العربية الأكثر تجانسا، نجد أن الفئة الأولى تقل نسبة الأقليات الإثنية فيها عن 15 %، وتضم مصر وقطر والسعودية وتونس وليبيا والأردن، والفئة الثانية الأقطار متوسطة التجانس وتحتوي على أقليات إثنية تتراوح نسبتها ما بين 15 و25 %، وهي الكويت وعُمان والجزائر والإمارات، والفئة الثالثة الأقطار الاكثر تنوعا ويصل حجم الأقليات فيها إلى أكثر من 25 % وهي لبنان والعراق وسوريا والبحرين وموريتانيا واليمن والمغرب والسودان.
ويرى الكثيرون أن فشل الحكومات العربية في حل مشكلة الأقليات كان السبب في انتهاكات حقوق الإنسان التي سادت الوطن العربي، لأن الدول العربية غالبا ما تلجأ إلى استخدام القوة لإخضاع أو محاولة تذويب هذه الأقليات.
تحطم على جدار المعاهدات
يعد الأكراد من أكبر الأقليات العرقية في منطقة الشرق الأوسط، إذ يتراوح عددهم ما بين 25 و35 مليونا، ويسكنون المناطق الجبلية على الشريط الحدودي لدول مثل تركيا، والعراق، وسوريا، وإيران، وأرمينيا، ويعانون من عدم وجود دولة مستقلة تجمعهم معترف بها دوليا.
بدأت فكرة الدولة الكردية المستقلة تتبلور في مطلع القرن العشرين تحت مسمى “كردستان” بمقترح من الحلفاء الغربيين في معاهدة سيفر عام 1920، وذلك بعد هزيمة الدولة العثمانية إبان الحرب العالمية الأولى.
لكن ما لبثت أن تحطمت هذه الآمال بعد ثلاث سنوات فقط، عقب توقيع معاهدة لوزان التي رسمت حدود الدولة التركية الحالية، بصورة تمنع قيام دولة كردية، ومنذ ذلك الوقت يعيش الأكراد كأقليات، ودمرت أي محاولة للاستقلال.
وقاتل الأكراد على مدار العقود الأخيرة في سبيل الحصول على هذا الكيان المستقل، لكنهم اصطدموا بعراقيل في تلك الدول حالت دون تحقيق حلمهم ذلك، لذلك فقد حرصوا على المشاركة في التطورات الإقليمية، فنجدهم على سبيل المثال أحد الأطراف المشاركة في محاربة تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”، وكذلك لعبوا أدوارا مؤثرة في الصراعات في العراق وسوريا.
ويتوزع الأكراد في شمال شرقي سوريا وشمال العراق، ويتواجدون كذلك في جنوب تركيا وشمال غرب إيران وبالإضافة إلى هذه الدول الأربع فإن أعدادا كبيرة من الأكراد تعيش في كل من أذربيجان وأرمينيا ولبنان إضافة إلى أوروبا.
ويتواجد حوالي 15 مليون نسمة من الشعب الكردي في تركيا بنسبة تصل إلى 20 من إجمالي سكانها، أما إيران فيتواجد بها 6 ملاين كردي بنسبة تصل إلى 10 %، وفي الوطن العربي يعتبر العراق أكبر بلد حاضن للأكراد بحوالي 5 مليون نسمة بنسبة تصل ما بين 15 إلى 20 % من سكان بلاد الرافدين، وأخيرا سوريا يقطن بها أكثر من مليوني بنسبة 15 % من السكان.
ويمكن تقسيم الأكراد إلى أربع مجموعات، تتحدث كل مجموعة لغة مختلفة عن الأخرى، فهناك الكرمانج، والكلهود، واللور، والكوران.
معاناة واضطهاد
مع المحاولات المستمرة للأكراد في البحث عن كيان مستقل منفصل، وجدت حكومات الدول التي يتواجد فيها الأكراد، تهديدا صريحا لوحدة أراضيهم وخطرا يهدد الأمن القومي لهذه الدول، ومصدرا لبث نزعة الانفصال لدى فصائل أخرى لم تكن تفكر من قبل في الخروج من سيطرة الحكومات المركزية.
معاناة الأكراد تجسدت في أشكال عدة منها التهميش والاضطهاد تارة مثل حالهم في سوريا حيث عمد النظام البعثي إلى إقصائهم، لكنهم استغلوا حالة الفوضى التي عمت سوريا بين النظام والمعارضة في عام 2011، وأقاموا إدارة كردية تتمتع بحكم ذاتي في بعض المناطق الشمالية. وكانت النزاعات المسلحة شكل آخر من الاضطهاد مثلما حدث في تركيا عندما اندلعت اشتباكات بين القوات التركية وحزب العمال الكردستاني في 2015، وكذلك في إيران التي يدور فيها بين الحين والآخر مواجهات بين قوات الأمن ومتمردي حزب الحياة الحرة الكردستاني “بيجاك”.
أما في العراق فبعد عقود من اضطهاد نظام صدام حسين للأكراد، استطاع الأكراد الحصول على حكم ذاتي أقر رسميا في 2005، بموجب الدستور العراقي الذي أسس لجمهورية اتحادية.
استفتاء الانفصال.. والرفض الدولي
في الخامس والعشرين من شهر سبتمبر الماضي، توجه مواطنو إقليم كردستان العراق إلى صناديق الاقتراع للإدلاء بأصواتهم في حق تقرير المصير بشأن استقلال الإقليم عن العراق، وكانت نتيجة هذا الاستفتاء أغلبية ساحقة بالموافقة على الانفصال بنتيجة أكثر من 92 % من المشاركين فيه، ولجأت حكومة إقليم كردستان إلى الاستفتاء بعدما شعرت أن الحكومة العراقية لم تحترم الحكم الذاتي الذي أقيم بعد الإطاحة بنظام صدام حسين إبان الغزو الأمريكي للعراق.
ورفضت الحكومة العراقية الاعتراف بهذا الاستفتاء حيث عدّ رئيس الحكومة العراقية حيدر العبادي أن هذا الاستفتاء غير دستوري وهدد بالتصعيد، إذا لم يتراجع قادة الإقليم عن موقفهم، وتعتقد بغداد أن الانفصال يخلق انقساما في العراق في الوقت الذي تسعى فيه لحل النزاعات والقضاء على داعش وإعادة إعمار البلاد.
وعلى الصعيد الدولي كان لإجراء هذا الاستفتاء مردود إقليمي واسع، حيث عبرت دول مثل تركيا وإيران وسوريا والصين وروسيا عن رفضها لاستفتاء انفصال كردستان عن العراق، وهددت دول مثل تركيا باتخاذ خطوات تصعيدية اقتصادية وعسكرية، إذا لم يتراجع قادة الإقليم عن الاستفتاء، إذ تخشى تركيا من عواقب الانفصال بتمرد سكانها الأكراد، والسعي إلى محاولة الانفصال.
وجاءت نهاية الاستفتاء لعوامل أخرى كانقسام القوى السياسية الكردية في الداخل، وتخلي الولايات المتحدة عن وعودها بالوقوف إلى جانب الانفصال، حيث دعت إلى توحيد الصفوف من أجل محاربة تنظيم داعش الإرهابي.
ووسط كل هذه الضغوط استجاب رئيس الأقليم المنتهية ولايته مسعود بارازاني لهذه الدعوات، وتنحى عن رئاسة أقليم كردستان لتؤجل محاولات حكم ذاتي لدولة الأكراد لحين آشعار آخر.
الأكراد في سطور
يدين غالبية الشعب الكردي بالديانة الإسلامية، وتشير الإحصائيات إلى أن 85 % من الأكراد يتبعون الديانة الإسلامية، وينقسمون إلى 65 % من السنة، وتعتبر المجموعة السنية الأكبر في إيران، و10 % من المسلمين الشيعة، وكذلك هناك ديانات مختلفة لبعض الأكراد مثل اليزيديين، الأرمن، الآشوريين، النساطرة واليهود.
وتشير بعض التقارير إلى أن مصطلح الأكراد بدأ تداوله في عهد الإمبراطورية الساسانية وكان حينها باللغة الفارسية الوسطى، ويشير هذا المعنى إلى قبائل إيرانية بدوية.
يعيش يهود كردستان بصورة أساسية في دولة الاحتلال الإسرائيلي، ويقدر عددهم بنحو 130 ألف شخص، ويتحدثون باللغة الآرامية.
“البيشمركة”.. مصطلح يطلق على الميليشيات الكردية المقاتلة من أجل استقلال كردستان، ومعناها باللغة الكردية “الذاهبون إلى الموت”، وتكونت عقب سقوط الإمبراطوية العثمانية في نهاية الحرب العالمية الأولى، وشاركت تلك الميليشيات بصورة أساسية مع القوات العراقية في هزيمة تنظيم داعش بالعراق.
“pkk” أو حزب العمال الكردستاني، وهو تنظيم كردي مسلح تأسس في أواخر سبعينات القرن الماضي على يد عبدالله أوجلان، وهي جماعة مسلمة بطابع إيديلوجي قومي كردي ماركسي.