رغم مرور أكثر من 6 سنوات على مقتل زعيم تنظيم القاعدة البارز، أسامة بن لادن ، إلا أنه عاد للواجهة من جديد، ليس بكلماته الرنانة التي كان يتوعد فيها الغرب بالويلات والدمار، وإنما هذه المرة عبر مئات الآلاف من الوثائق التي كشفت عنها وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (CIA)، والتي تحمل اسم “وثائق بن لادن” أو “أبوت آباد”.
وقد نشرت مؤسسة الدفاع عن الديمقراطية -المقربة من المخابرات الأمريكية ومقرها واشنطن- ما يقرب من نصف مليون وثيقة احتوت على أفلام مصورة ومراسلات ومذكرات لـ”بن لادن”، عثرت عليها القوات الأمريكية خلال مداهمة المقر الذي كان يختبئ فيه زعيم القاعدة في أبوت آباد بباكستان قبل مقتله في عام 2011، ونشرتها الولايات المتحدة على 4 دفعات .
تعد وثائق “أبوت أباد” كنزًا ثمينًا لإمكانية فهم ظاهرة تنظيم القاعدة لما تحويه من قدر هائل ومهم من المعلومات التي توضح الكثير من الأمور التي تخص التنظيم، وعلاقاته مع الحركات الجهادية، وفكره الأيديولوجي، وبناءه الهيكلي التنظيمي، وآليات عمله الدعائي الإعلامي، ونشاطه العسكري.
وحرصت الإدارة الامريكية على حجب نشر بعض الوثائق بحجة أنها تضر الأمن القومي، أو أنها فارغة أو معطوبة أو مكررة، أو أنها تحتوي على مواد إباحية، أو أنها محمية بموجب قوانين النشر، لكن يبقى السؤال حول المعايير التي تحكم نشر وثائق وحجب أخرى في إطار البحث عن أدق التحليلات لها؟.
كما يثير نشر الوثائق تساؤلات عدة، منها الجدوى من نشرها في وقت يحاول فيه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، التوصل إلى اتفاق واضح مع إيران فيما يتعلق ببرنامجها النووي، مع حرصه خلال الشهور الماضية على إظهارها كـ”مهدد أساسي للولايات المتحدة” في إشارة إلى برنامجها النووي واحتمال تطويره أو استخدامه.
محتويات الوثائق
تضمنت الوثائق المنشورة لـ”بن لادن”، ملفات وثائقية وصوتية ومصورة، تظهر بعض الجوانب من شخصية بن لادن ورؤيته لبعض القضايا، حيث أبدى على سبيل المثال إعجابه بالربيع العربي وكان حريصًا على متابعة التطورات الخاصة به وتوقع قبل مقتله أن يكتمل بنجاح الثورة في سوريا، كما دعا أتباعه لعدم تعكير صفو هذه الثورات بتدخلاتهم المسلحة، وذلك بهدف الاستفادة من الربيع العربي لخدمة مصالح التنظيم.
وكان بن لادن يؤمن بمحاربة العدو البعيد ويعني واشنطن والغرب عبر ضرب أهدافهم، وكان يعتقد بعدم قدرة التنظيم على بناء إمارة اسلامية في المنطقة العربية في الوقت الحالي.
كما كشفت الوثائق عن خطط بن لادن لتجهيز نجله حمزة لتولي مسؤولية القيادة ليعبر عن رؤيته لمستقبل التنظيم، وفي هذا السياق تضمنت الوثائق أيضًا شريطًا مصورًا يظهر حفل زفاف حمزة بن لادن، وكتابات أخرى دونها على امتداد 228 صفحة يكشف فيها عن رؤيته للتنظيم ومكانته في العالم، ورغبته في إحياء نشاط له بداية من القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي مرورًا بحركة شباب المجاهدين في الصومال والقاعدة في جزيرة العرب باليمن انتهاءً بحركة طالبان باكستان.
ويقول بن لادن في كتاباته، إنه بعد سقوط قندهار في أيدي القوات الأمريكية اقترح على قادة التنظيم الاتصال بحزب الله اللبناني أو نظام صدام حسين في العراق حينها، إلا أن معظم القادة رفضوا الاقتراحين وذهبوا في النهاية إلى باكستان.
ووثقت هذه المستندات لعلاقة بن لادن بوجوه ووسائل إعلام بارزة، إذ دون بن لادن تاريخًا من اللقاءات بإعلاميين غربيين منهم الكاتب الأمريكي الشهير، روبرت فيسك، في السودان عام 1994، وأجرى في السنة نفسها لقاء مع سكوت ماكليون، مراسل مجلة التايم الأمريكية.
وقدم بن لادن شرحًا وتوقعات بشأن الأوضاع في الشرق الأوسط لما يمكن للتنظيم فعله، وأشارت الوثائق إلى الخلافة الاستراتيجية والعقائدية مع حلفاء القاعدة وتقاطع المصالح مع إيران.
القاعدة وإيران
من بين الوثائق التي عثر عليها، واحدة تحتوي على 19 صفحة، كشفت طبيعة العلاقة بين القاعدة وإيران، حيث عرضت إيران على التنظيم دعمه ماديًا وعسكريًا والتدريب في معسكرات حزب الله في لبنان، مقابل ضرب أهداف أمريكية في الخليج، كما ساعدت الاستخبارات الإيرانية في عملية تنقّل بعض أعضاء التنظيم في المنطقة عبر منحهم تأشيرات سفر تسهل وصولهم للبلدان التي تحوي “الأهداف”.
وبينت الوثائق أن هناك تقاطعًا للمصالح بين القاعدة وإيران برغم اختلافهما فكريًا وعقائديًا وأيديولوجيًا، ولكن رغم هذا الاختلاف إلا أن بن لادن حذر رفاقه من “تهديد إيران”، واصفًا إياها بأنها “شريان مهم” لتنظيم القاعدة، فضلاً عن إقامة حفل زفاف لحمزة نجل بن لادن من المرجح أن يكون قد تم في إيران، وهو ما يؤشر نحو حقيقة العلاقة بينهما.
كذلك سهلت الاستخبارات الإيرانية سفر بعض عناصر القاعدة بتأشيرات الدخول، بينما كانت تؤوي الآخرين.
ورغم أن إدارة ترامب فشلت في إقناع شركائها الأوروبيين بإعادة النظر في الاتفاق النووي، إلا أن مضمون وثيقة “القاعدة” المسربة، قد يقدم طوق النجاة لها، خاصة أن الرئيس الأمريكي في ورطة داخلية بسبب التحقيقات في علاقة حملته الانتخابية بروسيا، ويحتاج إلى أي إنجاز للخروج من أزمته.
خلافات داخل الصفوف
من المتوقع أن يتسبب نشر الوثائق في حالة من الانقسام والخلافات بين أعضاء التنظيم، لا سيما بعدما كشفت أن أسامة بن لادن حدد مجموعة من القيادات لخلافة الزعيم الحالي، أيمن الظواهري، وذلك على عكس رغبة الأخير في الدفع بحمزة بن لادن ليكون خلفًا له.
وجاءت الأسماء التي وضعها بن لادن لخلافة الظواهري على النحو التالي بالترتيب وفقًا للوثيقة المنشورة: أبو الخير المصري، وعبد الله عبد الرحمن، وأبو محمد المصري، وسيف العدل.
من جانبه، قلل نبيل نعيم -القيادي الجهادي السابق، في تصريحات صحفية له- من أهمية هذه الوثائق كونها مشكوك في مصداقيتها، واعتبر أن تنظيم القاعدة يعاني في الوقت الراهن من التمزق والضعف نظرًا للضربات التي يتلقاها من جهات عدة، وذلك سيؤثر عليه في الدفع بعناصر جديدة قادرة على المواجهة.
وهو ما أيده حسام الحداد، الباحث في شؤون الجماعات الإسلامية، بقوله إن وثائق “أبوت آباد” ستخلق حالة من الخلافات داخل تنظيم القاعدة بعد الكشف عن خلفاء “الظواهري”.
القاعدة تعود بعد هزائم داعش
بعد الهزائم المتلاحقة التي مني بها تنظيم داعش في سوريا والعراق، سيجد تنظيم القاعدة الطريق مفتوحًا أمامه للظهور مجددًا والعودة لساحة حركة الجهاد العالمية واستعادة مكانته في ساحات القتال، فالقاعدة لديها طموحات كبيرة في سوريا وسيسعى التنظيم أن يكون هذا البلد معقلا جديدا له.
وهناك فرصة قوية لإعادة إحياء التنظيم من جديد بعد انهياره في سوريا والعراق، مستغلاً في ذلك دعم القوى العالمية الرافضة للهيمنة الأمريكية على العالم.
ويستغل تنظيم القاعدة عوامل عدة تمكنه من إعادة الهيمنة مرة أخرى، فهو يمتلك نفوذًا أوسع من داعش خارج العراق وسوريا والمغرب، فضلاً عن بسطه السيطرة على مساحات شاسعة في أفغانستان وليبيا واليمن والصومال وعدد من الدول الأخرى في أفريقيا ومنطقة الشرق الأوسط وآسيا.
نبذة عن التنظيم
تأسس تنظيم القاعدة عمليًا في أغسطس عام 1988، وشن اعتداءات إرهابية أبرزها ضرب برجي التجارة العالمي بنيويورك في الحادي عشر من سبتمبر، ويعتمد على الهجمات الانتحارية والمتزامنة، ويعتمد مركزية القرار لا مركزية التنفيذ، ويقود التنظيم حاليًا أيمن الظواهري، خلفًا لأسامة بن لادن.
وينتشر التنظيم في سوريا على شكل مجموعات متفرقة، وفي قاعدة شبه الجزيرة العربية المنتشرة بقوة في اليمن، حيث ينشط التنظيم في أبين ومأرب وشبوة ويضم 40 ألف مقاتل، وهناك تنظيم المغرب الإسلامي الذي ينشط في الجزائر، أما حركة الشباب الصومالية فتضم بين 5 إلى 9 آلاف مقاتل، في حين تضم شبه الجزيرة الهندية أقل من 600 ألف مقاتل، والتي تعمل في أفغانستان وباكستان وبنجلاديش والهند، ولديها نشاط واسع على الحدود الأفغانية الباكستانية وهناك مجموعات تفرقة تنتشر في ليبيا ومالي وغيرها.