حالة التناطح والتنازع بين القوى، تولد أفكارا جديدة وطرقا للنيل من الآخر. والمتابع لمستجدات الأحداث يشاهد كل أنواع الأسلحة التي تستخدم للحرب ليس بالمعنى الحرفي للكلمة، لكن المضمون والأسلوب فهناك الأسلحة الكلامية عبر وسائل الإعلام وهناك سلاح الجواسيس، مرورا بسلاح الأغاني والشعر والأهازيج، ومؤخرا ظهر مصطلح جديد للحرب والسلاح وهو الذباب الإلكتروني الذي استخدم القائمون عليه من مواقع التواصل منصات لشن الهجوم.
وتحولت مواقع التواصل الاجتماعي، من مجرد حساب إلكتروني بهدف التواصل والتعبير السلمي، إلى فرض الرأي بقوة أو “التشبيح الالكتروني” والتغطية على رأي عام حقيقي، واستخدام أساليب الفضح والتشويه والتضليل والتشهير بكل من لا يساير المزاج العام للسلطة السياسية، لدرجة أصبح الأمر مهنة يُطلق عليها “المغرد المرتزق”.
مصطلح ‘‘الذباب الإلكتروني‘‘ والذي يمكن تسميته أيضا بـ”الكتائب الإلكترونية”، و”الخلايا السوداء” و”البوتس” و”الجيوش الالكترونية” و”الهاكرز” و”القراصنة” جرى تداوله بكثرة في الآونة الأخيرة، وهو محصور داخل عالم الواقع الافتراضي بأنواعه المختلفة، في ظل زيادة رقعة الدور الذي أصبحت تلعبه اللجان الإلكترونية في الصراعات والأزمات السياسية بين الدول، خاصة في منطقة الخليج العربي.
‘‘محركو الذباب‘‘ في أحيان كثيرة يظهرون كجنود مجهولي الهوية، أسلحتهم الحواسيب، هذه العناصر ليست مدربة فقط، لكن يمكن أن نطلق عليها مصطلح “الشخصيات المبرمجة”، حيث العدد الكبير من الحسابات الوهمية وغير الوهمية التي يتم توظيفها لخدمة أهداف معينة، وفي بعض الأحيان يُطلق عليهم اللجان الإلكترونية، التي تتمكن من إنشاء عدد لا نهائي من العناصر، وظيفتهم إعادة نشر الآراء وتوظيف قضية بعينها لتصبح رأيا عاما للمستخدمين، بحيث يكون رأيهم واحدا وتصريحاتهم مُجمعة على رأي موحد، وبالتالي يمكن وصفهم بـ “الماكينة” التي تستطيع توجيه الرأي العام.
عن طريقة مساهمة مجموعات “الذباب الالكتروني” في دعم رأي أو قضية محل جدل أو نقاش تبحث مجلة ‘‘مواطن‘‘ عن أبرز من استخدموا هذه الوسيلة وماذا كانت النتيجة!
متى بدأ الذباب بالطنين؟
في حقيقة الأمر لم يتم رصد تاريخ محدد أو أزمة بعينها ظهر فيها عمل اللجان الإلكترونية بشكل واضح، لكن يمكن تسليط الضوء على أبرز الملفات أو القضايا التي ظهر فيها بوضوح عمل الذباب الإلكتروني، وهنا نتذكر الأزمة السورية، حيث لاحظ المتابعون لمنصات التواصل إنشاء جيش إلكتروني ضخم تابع للنظام السوري يعمل من أجل خدمة ودعم مواقف النظام السوري، أيضًا دولة الاحتلال الإسرائيلي التي تستخدم ذبابها الإلكتروني للرد على المقاومة الفلسطينية، عن طريق منصات التواصل واستخدام عناصرها المبرمجة بذكاء كبير بهدف إسكات الصوت وتشويه الصورة.
ونأتي هنا إلى الأزمة الأهم التي ظهر فيها عمل اللجان الالكترونية قويًا، وهي “الأزمة الخليجية” الأخيرة بين قطر والدول التي أعلنت مقاطعتها لها، فإذا تحدثنا عن عمل اللجان والخلايا الإلكترونية بمختلف عناصرها، سنجد حربًا شرسة على منصات التواصل أبطالها عناصر الذباب الإلكتروني كل واحد فيها يعمل بهدف خدمة قضيته ومواجهة الطرف الآخر.
وما يميز تلك الأزمة الدور الكبير الذي لعبته وتلعبه خلايا الذباب، حيث الحسابات المهولة، التي قيل أنها تعمل على مدار الساعة، من مراكز أمنية منتشرة في أكثر من مكان لتحقيق هدفهم سواءً كان مشروعا أو غير مشروع عن طريق نشر أكاذيب أو معلومات مغلوطة وغير صحيحة، أو حتى بث معلومات من شأنها تضليل وتأجيج الرأي العام.
المتابعون لمنصات التواصل الاجتماعي، وكيف تناولت هذه المنصات الأزمة الخليجية، يجدون تصريحات وهاشتاجات يقف خلفها عدد كبير يعود إلى اللجان الإلكترونية أو العناصر والخلايا المبرمجة.
خطر متفشٍّ في الداخل الخليجي
خطر الذباب الإلكتروني أوسع وأشمل من قصره على أزمة دولية بين طرفين -كما يزعم البعض- لكن يبدو أنها أزمة متفشية في منطقة الخليج، فبعض الدول الخليجية استخدمت الذباب الإلكتروني لقمع الحريات والحركات الاحتجاجية داخل بلادها عبر موقع التواصل الاجتماعي “تويتر” أو حتى الفيس بوك، حيث يبدأ التغريد بحسابات معروفة أو موثقة تتهم أشخاصا بتهم متعددة مثل الفساد، والخروج على النظام، وتكدير السلم العام، ثم تأتي مهمة “الذباب الإلكتروني” في النشر والدعم على منصات التواصل، من خلال إطلاق هاشتاجات يمكن أن تتصدر الـ “ترند” العالمي.
المملكة تقمع معارضيها..
ولو تحدثنا عن تبعات هذه الحرب النفسية لوجدنا أنها متفشية وظاهرة بصورة جلية في دول الخليج؛ ففي المملكة العربية السعودية تحولت وسائل التواصل التي يحوم بها الذباب، لوسيلة من قبل مؤيدي النظام الحاكم، لضرب المعارضين ووصفهم بالمفسدين والمخربين وهذا ما حدث مع عدد من الدعاة والمفكرين وتم على إثر ذلك سجن بعضهم وإبعاد آخرين، كما تحولت من حرمة قيادة المرأة للسيارات وحرمة السينمات والأفلام، لجواز ذلك لمصلحة مجتمعية، غير أن ما يدعو للعجب في المملكة أن كثيرا من هؤلاء كانوا “ضد” ثم أصبحوا “مع”.
وعلى المستوى الديني والروحي تم توظيف الدين عبر هذه الآلية كأساس لشرعية نظم الحكم سواء عبر التحالف مع رجال الدين أو بخدمة المقدسات الدينية الإسلامية وهو ما يعطي لها قوة دينية رمزية ناعمة في مخاطبة الغرب وكذلك العالم الاسلامي.
سلطنة عمان
رغم حالة الحياد الذي تطلقه السلطنة على نفسها، إلا أنها كسابقتها لم تألُ جهدا في التنكيل بمخالفيها عبر استخدام الذباب الإلكتروني لبث ما تريده ومحاولة إقناع الرأي العام به، وقامت باتخاذ سياسات ضد نشطاء ومعارضين على تويتر سواء عبر حجب المواقع الإلكترونية أو اعتقال النشطاء وسجنهم أو بإحداث تغييرات تشريعية لمواجهة الفجوة في التعامل مع ما تعتبره جرائم إلكترونية، بالإضافة إلى التجسس على النشطاء ورصد حساباتهم ومكالمتهم.
أمن إلكتروني بالإمارات
لم يختلف الأمر في الإمارات العربية المتحدة، فهي أيضا تنتهج الأسلوب نفسه لحرب الآخرين وتوجيه التهم جزافا، بحجة العمل على نشر الفكر المعتدل عبر إصلاح المؤسسات الدينية والإعلامية والتحول السياسي الملائم لتغيرات الواقع والانفتاح السياسي على المعارضة الوطنية، وعملت من أجل ذلك على تأسيس جهاز أمني خليجي موحد، يتخذ من أبوظبي مقرا له. وفتحت المجال أمام التعاون الدولي في مجال الأمن الإلكتروني، كما أجرت مع دول الخليج اتفاقيات للتعاون مع الولايات المتحدة وحلف الناتو.
“خلايا عزمي “
برزت ضمن اللجان الإلكترونية في الأزمة الخليجية ما يعرف بـ”خلايا عزمي” التي تعمل بكل عناصرها بهدف الدفاع عن الموقف القطري، في مواجهة الدول المقاطعة لها “السعودية، الإمارات، البحرين، مصر”، حيث كان هناك تركيز كبير من تلك الخلايا على منصات التواصل الاجتماعي، فأصبح لها تأثير واسع وقوي على نشطاء مواقع التواصل من خلال الحشد وتحقيق الهدف بأي شكل كان.
حسابات شهيرة
أيضا في سياق الأزمة الخليجية بين قطر وجيرانها برزت على الساحة المعلوماتية، حسابات لشخصيات شهيرة أكاديمية وإعلامية وصحفية داخل قطر، كل منها تدافع عن موقف بلادها ضد المملكة والإمارات والبحرين ومصر، ويقودون حملات إعلامية لمواجهة دول المقاطعة الأربعة، ويتم فيها استخدام العناصر الإلكترونية المدربة بشكل قوي، على منصات التواصل الاجتماعي.
ذباب ملكي
تحديدًا في السعودية كان هناك ظهور قوي لمجموعات الذباب الإلكتروني، التي تعمل بحسابات كبيرة، تخدم موقف السعودية في أزمتها مع دولة قطر، حيث تعتمد اللجان الإلكترونية السعودية على حسابات وهمية، بصور حقيقية، أو أسماء تعود لعائلات سعودية معروفة، وتعمل هذه الحسابات على إنشاء مجموعة من الهاشتاجات والتغريدات التي تخدم دعم موقف السعودية ومهاجمة قطر، ويتم تداول معلومات أن الشخص المسؤول والقائد لمجموعات وخلايا الذباب الإلكتروني السعودي هو وزير بالديوان الملكي.
حيث زعم البعض أن هذا الوزير لديه لجان إلكترونية بحسابات ضخمة داخل وخارج المملكة العربية السعودية، يقودها جيش إلكتروني من المغردين لرصد ما يُنشر في وسائل التواصل الاجتماعي، وإعداد إحصائيات، وكذا تتبع مصادر التغريدات والكتابة بحسابات وهمية للدفاع عن وجهات نظر السلطات السعودية.
جيش مطنوخ
وذكرت تقارير صحفية، أن من بين الخلايا الإلكترونية السعودية هناك ما يسمى بـ”جيش مطنوخ”، الذي يعمل في مهام معينة مثل عمليات الاختراق والتهكير، ورصد التوجهات المخالفة أو المستقلة لعموم المغردين، وتصنيفهم في قوائم خاصة وفق توجهات يتحكم فيها المسؤول عن الذباب الإلكتروني السعودي.
ساحة للقتال
في عالمنا هذا أصبحت الأحداث ومجرياتها تتوارد بشكل مستمر، وعلى مدار اليوم نقرأ ونشاهد ونستمع لأبرز المستجدات في قضية بعينها، وبمجرد أن يُثار جدل حيال قضية بعينها، هنا وخلال ساعات معدودة نجد كمًا مهولاً من التصريحات على منصات التواصل الاجتماعي، لدعم رأي بعينه في تلك القضية. فنجد مثلاً هاشتاجات تتصدر قائمة الأكثر تداولاً في بلد ما، بحيث أن غالبية هذه التغريدات تدعم أو تؤيد رأيًا أو قرارًا بعينه، لكن الحقيقة الغائبة أن تلك المجموعات “الموجهة” أصبحت هي التي تقود الشعوب عن طريق نشر وتداول ما تريده، وليس ما تريد أن تعبر عنه الشعوب.
يقول الكاتب الساخر أحمد الزعبي ‘‘الذباب لا يصنع عسلاً، ولا يقبل بالمواجهة، هو يزعجك فقط فهو ليس ندّاً حقيقاً لك، لأنك لو أحضرت أعتى الأسلحة فلن تقدر عليه لأنه أصغر منها جميعاً وأتفه منها جميعاً، الذباب الإلكتروني لا تغريه المواقف النظيفة فلا يحلّق فوقها، هو يطير دائماً حيث فضلات التصريحات والمواقف الميتة، يحوم طويلاً يتغذّى عليها.. حتى تتحل جيفة الكلام ويبلى جسد الحدث فيطير أو يموت دون أن يشكره أحد أو يعتدّ به أحد‘‘.