في الاحتفالات الوطنية والأعياد الرسمية لسلطنة عمان ودولة الإمارات العربية المتحدة، يتابع المواطن الخليجي، لوحة فنية تراثية من الطراز الأول يُطلق عليها “فن العازي”، ذلك الفن الذي سمي العازي نسبة إلى الرجل أو الشاعر الذي ينشد قصيدة العازي، باعتباره فنًا تقليديًا عريقًا، يعتمد على إلقاء الشعر دون تنغم أو غناء، على أن يتولاه شاعر مبدع يجيد أصول الإلقاء الشعري.
ورغم قيمة هذا الفن إلا أنه عانى في بعض الفترات من الانقراض، وبفضل جهود عدد من المبدعين والفرق الفنية التقليدية، تم إحياؤه منذ سنوات قليلة ماضية، حيث تم إدخاله في الأحداث والمناسبات الوطنية، مع إنتاج مسرحي ناجح، وكان للتغطية الإعلامية دور كبير في إحياء هذا الفن، وتشجيع المزيد من الشعراء على تأليف القصائد له.
كلا البلدين الإمارات وسلطنة عمان، يُظهران اهتمامًا خاصًا بهذا النوع من الفن، لكن في الآونة الأخيرة أثيرت حالة واسعة من الجدل على مواقع التواصل الاجتماعي، بعد أن تقدمت دولة الإمارات بمقترح لمنظمة “اليونسكو” العالمية من أجل إدراجه على قائمة التراث الثقافي ونجحت في ذلك، لكن البعض اعتبر “العازي” فنا تراثيا عمانيا أصيلا، أما الإمارات فليس لها الحق في إدراجه كفن تراثي إماراتي.
من جهتها حاولت “مواطن” إلقاء الضوء على هذا الفن، وكيفية حل هذه الإشكالية الواقعة بين السلطنة والإمارات ومن أحق بنسب هذا التراث إليه؟
تاريخ الفنون الشعبية
الفنون الشعبية تعود إلى سنوات عُدت بالمئات حيث كانت تمثل رمزًا بالغ الأهمية، في المناسبات التي تستدعي الفخر وبث الحماسة والفرح وغيرها من الأغراض، وكانت تجرى بشكل مستمر ثم بدأ الأداء يتراجع بشكل تدريجية نتيجة للتطور والحداثة المجتمعية. فانتقل معظم سكان المناطق الصحراوية إلى المناطق الحضرية. وخلال الفترة من 1970 وحتى 1990 أدى الازدهار الاقتصادي إلى ترك المواطنين للعمل في القطاعات التقليدية والثقافة والفنون المرتبطة بهذه الأنشطة ومنها فن العازي.
السلطنة بين “الرزحة” و”العازي”
لم تشتهر عمان بفن “العازي” فقط لكن هنا أيضا فن شهير وهو “الرزحة” وهو أحد الفنون التراثية، القريبة من العازي، وهو فن من الفنون التي يشارك بها عدد كبير من الرجال، وذلك في شكل صفوف متساوية يتقدمهم المتبارزون بالسيوف والتروس، كلمات هذا الفن تكون عن مطارحة شعرية تتناول مواضيع تتعلق بالشجاعة والفخر والمديح والهجاء، كما يستخدم في هذا الفن الَطبل الُعماني، الذي غالباً ما يكون متوارثاً عند أبناء القبيلة ، حيث يقوم “الطبالون” بالتحرك بين الصفوف وهم يقرعون الطبل بطريقة موسيقية، وسميت ” الرزحة ” بهذا الاسم لأن المتبارزين بالسيف يرزحون تحت أثقال سيوفهم، ويمارس بشكل واسع في مختلف المناسبات الاجتماعية والوطنية. وهذا الفن “الرزحة” يأتي دائما بعد “العازي” مباشرة، حيث تبدأ المساجلات الشعرية والحماسية وفن الفرحة بالانتصارات وربما فن الاستعداد للحروب، يختلف من ولاية الى أخرى في عمان اختلافا يتمثل في سرعة الايقاع أو اللحن.
أما فن العازي العُماني هو واحد من أهم الفنون التي تعد أحد أوجه الثقافة، وكذلك سجل حافل يصل ماضي سلطنة عمان العريق بحاضرها، لذا يقيمه العمانيون، في مناسبات عدة لعل أهمها، الأعراس، أو احتفالات الزواج، وتحية الوالي في الأعياد، وفي عيد الفطر المبارك وعيد الأضحى، وكذلك عندما تستقبل السلطنة في الزيارات الرسمية، ضيوف من بلدان أخرى بشكل رسمي، حيث يكون جميع المشاركين في فن العازي دائرة كبيرة مقـفلة، وهنا يتصدر شاعر العازي جماعته وهو ممسك بسيفه في يده اليمنى وترسه في يده اليسرى، ويسير وهو يلقي أو ينشد قصيدة الفخر أو المدح، بمشاركة مجموعة من الرجال التي تسير وراء الشاعر العازي، أما قصائده فتتحدث في التقوى وعبادة الله، وفي مكارم الأخلاق، والفخر بالأسلاف والأجداد وفي حروبهم وغزواتهم، وكذا مدح القيادة الحاكمة.
5 سنوات باليونسكو
واعترفت منظمة اليونسكو بعراقة الفن العماني منذ القدم، والسلطنة نجحت بجهودها في الحفاظ عليه من خلال إدراجها على القائمة الدولية للتراث الإنساني غير المادي، والذي أدرج في 5 من ديسمبر لعام 2012 خلال اجتماعات اللجنة الحكومية الدولية للتراث الثقافي غير المادي لليونسكو.
وأثمرت جهود السلطنة في تسجيل هذا الفن الذي قدمته وزارة التراث والثقافة بالتعاون مع وزارة التربية والتعليم ممثلة باللجنة الوطنية العمانية للتربية والثقافة والعلوم، من خلال ملف الترشيح الذي أعدته كوادر وشخصيات عمانية بالوزارة، وجرى مناقشة الملف في مدينة بالي واستكملت المناقشات بمقر اليونسكو في العاصمة الفرنسية باريس، وبموافقة أعضاء اللجنة الحكومية الدولية لاتفاقية صون التراث الثقافي غير المادي بإدراجه ضمن القائمة التمثيلية للتراث الثقافي غير المادي التي تشرف عليها “اليونسكو”.
وتختلف القائمة الأساسية التي سجلت فيها السلطنة فن العازي، عن القائمة الأخرى المسماة بقائمة “الصون العاجل” ففي اتفاقية صون التراث الثقافي غير المادي لتسجيلها فقد وضعت اليونسكو معايير لكل قائمة من القوائم الثلاث المتعلقة بصون التراث غير المادي وهي القائمة التمثيلية للتراث الثقافي غير المادي وقائمة الصون العاجل وقائمة أفضل الممارسات في مجال إدارة التراث غير المادي.
في الإمارات.. العازي عرض فني مميز
أما في الإمارات فلا يختلف العازي كثيرا عما هو موجود في سلطنة عمان، فهو فن من فنون الشعر ويلقى لأغراض الثناء والفخر والشجاعة، وبث الحماسة في الحضور، كما يغلب عليه أشعار الترحيب والاحتفال والمدح وسرد الإنجازات والأشعار المرتبطة بالانتماء للوطن، عبر أداء قوي من جانب المؤدي والمرددين الذين يعطون “الجواب”، والذين يصطفون خلف المؤدي بصفوف منظمة تضفي مزيدًا من الجمال على هذا اللون الفريد من الفن الإماراتي العريق.
“النموذج” الإماراتي في اليونسكو
في التاسع من شهر ديسمبر العام 2017 أعلنت دولة الإمارات العربية المتحدة، إدراج “فن العازي” في قائمة منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة “اليونسكو” للتراث الثقافي غير المادي للبشرية، الذي يحتاج إلى صون عاجل، وجاء الإدراج بإجماع ممثلي الدول المشاركة في الاجتماع الدوري الثاني عشر، للجنة الدولية الحكومية لصون التراث الثقافي غير المادي لليونسكو، والتي اختتمت في جزيرة “جوجو” بجمهورية كوريا الجنوبية.
ويعتبر العازي الإماراتي ثامن عنصر من التراث الإماراتي الوطني يدرج على قوائم اليونسكو للتراث العالمي، فقد سبق وتم تسجيل كل من الصقارة والعيالة والتغرودة والمجالس والقهوة العربية والرزفة والسدو في ملفات وطنية وملفات دولية مشتركة مع دول أخرى.
ويقول رئيس دائرة الثقافة والسياحة في أبوظبي، محمد خليفة المبارك، إن إدراج فن العازي على قائمة اليونسكو للتراث العالمي، يعزز من مكانة هذا الفن الأصيل الذي لا يزال يحظى باهتمام جماهيري واسع يؤكد عمق جذوره التاريخية.
من جانبه يؤكد مدير عام دائرة الثقافة والسياحة في أبوظبي، سيف سعيد غباش، أن إدراج فن العازي على قائمة الصون العاجل لمنظمة اليونسكو، يشكل ثمرة من ثمار العمل البناء الذي تحرص الدائرة على توفيره بالتعاون مع مختلف الجهات ذات الصلة.
كيف استطاعت الدولتان تسجيل العازي؟
توجد خمسة معايير يستند عليها لتسجيل أحد عناصر التراث غير المادي في القائمة التمثيلية لاتفاقية اليونسكو لحماية وصون التراث غير المادي تتمثل في أن يشكل العنصر تراثًا ثقافيًا غير مادي وفقًا لتعريفه في المادة الثانية من الاتفاقية، وأن يسهم إدراج العنصر في تأمين إبراز التراث الثقافي غير المادي وزيادة الوعي بأهميته، وتشجيع الحوار، وبذلك يعبر عن التنوع الثقافي في العالم كله وينهض دليلاً على الإبداع البشري، وأن تكون قد وضعت تدابير للصون من شأنها أن تحمي العنصر وتكفل الترويج له، بالإضافة إلى أن يكون العنصر قد رشح للصون عقب مشاركته على أوسع نطاق ممكن من جانب الجماعة أو المجموعة المعنية أو الأفراد المعنيين بحسب الحالة، وبموافقتهم الحرة والمسبقة والواعية، وأخيرًا أن يكون العنصر قد أدرج في قائمة حصر التراث الثقافي غير المادي الموجود في أراضي الدولة الطرف (الدول الأطراف) التي قدمت الترشيح وفقا للمادتين 11 و12 من الاتفاقية.
وبينت الاتفاقية المجالات التي يندرج تعريف “التراث الثقافي غير المادي” تحتها وحددت مجموعة منها وهي التقاليد وأشكال التعبير الشفهي وتعتبر اللغة واسطة للتعبير عن التراث الثقافي غير المادي، وفنون وتقاليد أداء العروض، والممارسات الاجتماعية والطقوس والاحتفالات، وكذلك المعارف والممارسات المتعلقة بالطبيعة والكون، إضافة إلى المهارات المرتبطة بالفنون الحرفية التقليدية.
لمن ينسب العازي؟
بمراجعة الأحداث التاريخية بداية من الاهتمام الخليجي بفن العازي ومروره بفترات تراجع نتيجة التطور الحضاري، ثم بداية الاهتمام به من جديد، ووصولاً إلى إدراجه على قوائم اليونيسكو، هناك تاريخ يروي نفسه لهذا الفن فقبل خمس سنوات من الآن كان العازي العماني مدرجًا على قوائم اليونسكو.
أما دولة الإمارات العربية المتحدة فهي دولة حديثة النشأة وتحديدا في شهر ديسمبر من عام 1971م، فضلا عن أنها من الناحية الجغرافية كانت جزءا من عمان. والبعض يرى أن التراث الموجود في الإمارات يُنسب للتراث التاريخي لعمان والأدلة كثيرة نذكر منها على سبيل المثال “الخنجر الإماراتي” هو في الأصل عُماني وكذلك “الحلوى الإماراتية” هي في الأصل أيضا عُمانية، وغيرها.
والمتتبع لهذه القرارت يلاحظ أن دولة الإمارات تعتمد فكرة أن التاريخ يُنسب للأشخاص ويتبعهم حتى لو غيروا مكان إقامتهم أو تنقلوا من موطنهم الأصل أو تغير اسم المكان. وهنا نستذكر أن عددا كبيرا من العُمانيين الذين كانوا يقطنون الأراضي العمانية الحالية، انتقلوا للعيش في مدن وبلدات دولة الإمارات العربية، ونقلوا معهم تراثهم التاريخي. لكن مع مرور الوقت أصبح يطلق عليهم تسمية الإماراتيين، وبالتالي فتراثهم أصبح يحمل نفس المسمى.
كما أن فن العازي لم تضعه الإمارات على قوائم اليونسكو إلا خلال عام 2017. ما زال الشارع العماني متمسكا بملكية العازي ويعتبره تراثا أصيلا لا يتجزأ من موروثه. وبث التلفزيزن العماني بعض التقارير الإعلامية التي أوردت تصريحات لمجموعة من المؤرخين والشعراء مؤكدين أن فن العازي في عمان فن عريق وله تاريخ كبير، حيث توجد قصائد لشعراء عمانيين في فن العازي يعود عمرها أكثر من 150 عامًا تقريبًا.