عانت مصر على مدار فترات طويلة من تاريخها الثري من العنف الطبقي و التمييز الديني، فمنذ دخول اليهودية إلى مصر وقتلهم لملايين من الوثنيين بها، ما زالت السلسلة الطائفية تسير على أشدها حتى أيامنا تلك، السلسلة التي ضمت اليهود ذاتهم والمسيحيين من بعدهم والمسلمين وكافة الطوائف التي لم تحظ بعد بالحماية الكافية تحت سماء وطن يُفترض أنه وطنها.
وعلى مدار الفترات الأخيرة من حكم مصر، شهدت الأقليات الدينية العديد والعديد من الانتهاكات والاعتداءات المتتالية، والتي كانت تنتهي في الأخير بجلسات عُرفية تعقدها الدولة، لا تُسمن بها الضعيف ولا تُغني الأقوى من جوعه لمحاربة الآخر، في حين يتم بعدها تهميش الآخر تحت سمع وبصر دولة غائبة كُل الغيبة ومتهاونة كُل التهاون في حق أبنائها.
المسيحيون
حاصر أكثر من 500 مسلم مصري، منزل أحد المواطنين المسيحيين بمحافظة الجيزة، وذلك بعد انتشار شائعات عن رغبة مواطن في تقديم طلب من أجل بناء كنسية بالقرية، ليقوم الأهالي بمحاصرة منزله لمدة تزيد عن ثلاثة أيام مُطالبين بعدم بناء الكنيسة، وسط محاولات أمنية لتهدئة الغاضبين المسلمين، إضافة لخروجه من القرية، كما قاموا بالاعتداء على مركز خدمات مسيحي بالقرية والتعدي على المتواجدين به. كُل تلك الأحداث التي تدور تحت سمع النظام المصري وقياداته الأمنية، التي أظهرت خضوعًا كبيرًا لمطالب المحتجين المسلمين، وأكدت عدم وجود نية لبناء كنيسة بالقرية، إضافة إلى تشاورها مع المحتجين حول تهجير المواطن المسيحي وعائلته كاملة من قريته، في مثال واضح لقياس العلاقة التي تدور بين المسلمين السنةوالمسيحيين والنظام الحاكم بأذرعه في مصر.
في عام 1990 قُتل ستة مسيحيين، وحرقت أراضٍ ومنازل في بولاق بالقاهرة، كما تم قتل 13 مسيحيا بمنطقة المنشية بمحافظة أسيوط عام 1992، غير خمسة رهبان بنفس المحافظة عام 1994، كما قُتل تسعة مسيحيين أثناء خروجهم من كنيسة مار جرجس بمركز أبو قرقاص عام 1997، كما تم قتل 13 مسيحي بمدينة نجع جمادي في العام ذاته.
وفي بداية الألفية الجديدة قُتل 19 مسيحيًا أمام ذويهم، قبل أن يتم تهجير عائلات مسيحية كاملة عن محافظة المنيا، وهو ما حدث أيضًا عام 2006 بمحافظة قنا، وفي عام 2011 لقى 23 شخصًا مصرعهم في انفجار استهدف كنيسة القديسين بالإسكندرية، كما قُتل 13 مسيحيًا بمنطقة إمبابة خلال العام ذاته، قبل أن يأتي انفجار الكنيسة البطرسية بالعباسية مخلفًا 29 قتيلًا، ويأتي بعدها قتل سبعة مسيحيين وتهجير عشرات العائلات من العريش عام 2017، ومقتل 30 شخصًا في انفجار كنيستي مار جرجس بطنطا والكاتدرائية المرقسية بالإسكندرية، ومقتل 29 مسيحيًا بعد فتح النيران على حافلة كانت تقلهم بمحافظة المنيا في العام الأخير ذاته.
تقول منظمة “هيومن رايتس ووتش”، المعنية بحقوق الإنسان ‘‘إن حوالي 42 كنيسة مصرية قد تعرضت للاعتداء والسرقة خلال الفترة منذ ثورة 25 يناير 2011 ولمدة عامين بعدها‘‘.
كانت تلك هي أبرز الهجمات التي كانت وما زالت تومض في ذاكرة أكثر من خمسة ملايين مسيحي مصري حسب الإحصاءات الرسمية –أو خمسة عشر مليونًا على حد تعبير البابا تواضروس الثاني، بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية- وسط غياب كامل لأي رؤية تطرحها الدولة المصرية من أجل وقف احتقان يتزايد داخل نفوس المسيحيين وحالة من الاضطهاد والاعتداءات المُستمرة تتزايد ضدهم من قِبل المتشددين الإسلاميين في مصر، ووسط جلسات عُرفية للصلح لا نهاية لها.
الحكومات المصرية المختلفة تتبع نهجًا واحدًا في خطواتها، وهي الانتصار للأكثر عددًا، ففي شتى المواقف ينحصر مشهد الخلاص من الأزمة بقبضتين أحدهما تحمل “المصحف والأخرى الصليب” للتعبير عن الوحدة الوطنية في الوقت الذي لا تزال فيه الأزمة مدفونة، وعادة ما تتجدد وتخرج لنا ضحايا جددا، لأن جذوة النار تظل مشتعلة تحت الرماد.
الشيعة
“دخل التشيع مصر في الفترة التي دخل فيه الإسلام، هكذا يؤكد الشيخ جعفر السرجاني في كتابه “أضواء على عقائد الشيعة الأمامية”، فالشيعة جزء أصيل وخصب من النسيج المصري وتاريخها الإسلامي خلال العهود.
في عام 2000، أصدر مركز ابن خلدون للدراسات الانمائية، إحصائية بخصوص أعداد الشيعة في مصر، مؤكدا أنهم يمثلون 1% من إجمالي المسلمين، أي حوالي 657 ألف مواطن، غير أن محمد الدريني، الأمين العام للمجلس الأعلى لآل البيت قد رفض ذلك الرقم، رغم عدم وجود أعدادٍ أو إحصاءات رسمية لعدد الشيعة في مصر، وذلك لعدم وجود خانة المذهب بالبطاقة المصرية، مؤكدا أن أعداد الشيعة بمصر تتراوح بين المليون والمليون ونصف مواطن مصري ولا تقل عن ذلك، غير أنه، ووفقًا لإحصائيات وزارة الخارجية الأمريكية، فإن وجود الشيعة في مصر يتمثل في وجود 830 ألف شيعي، وبنسبة 1% أيضًا من إجمالي المسلمين.
كل ذلك لم يمنع بعض المتشددين، من اتخاذ موقف العداء من أنصار المبدأ الشيعي داخل القطر المصري، ساعد في ذلك الفتاوى العديدة بتكفيرهم والصراع السياسي بين “السنة والشيعة” في العالم الإسلامي بين السعودية وإيران، لينالوا قسطهم من التهديدات والاعتداءات السنية الشعبية والحكومية على حدٍ سواء، خاصة مع تغافل الحكومة المصرية عمّا يلم بهم إرضاء للطرف السعودي الحليف لها.
في عام 1987 كانت أولى حالات الاعتقال الجماعي بحق الشيعة في مصر، حيث تم القبض على 23 شيعيًا واتهامهم بالتجسس لصالح إيران، كما تم في العام التالي القبض على عدد آخر من الطلاب العرب وبنفس الاتهامات، قبل أن تقوم مصر باتهام القائم بالأعمال الإيراني بمصر بتمويل التنظيمات الشيعية، ليتم ترحيله في عقبها.
وفي عام 1989 تم القبض على 50 شخصًا بتهمة الانتماء لتنظيم شيعي، وهي التُهمة ذاتها التي واجهها آخرون عام 1996، وغيرهم عام 2002، وفي عام 2009 قامت باعتقال عدد من الشيعة بتهمة بناء مسجد خاص بهم دون تراخيص، تلك التراخيص التي كانت وزارة الأوقاف قد رفضتها شكلًا وموضوعًا.
وفي عام 2010 قامت نيابة أمن الدولة العُليا باعتقال 12 شيعيًا واتهامهم بإهانة الدين الإسلامي وتحريف القرآن الكريم والتآمر على النظام الحاكم. وفي عام 2011 منعت الشرطة المصرية ما يُقارب 3000 شيعي من الاحتفال بيوم عاشوراء، وهو ما تم تكراره عام 2012، ليخرج الأزهر بتصريحات يشجب فيها الهرطقة الشيعية، كما وصفها، وفي عام 2015، صرح أحمد الطيب، شيخ الأزهر، بأن الأزهر لا يُمكنه أن يقف مكتوف الأيدي أمام ترويج قضايا تطعن مباشرة في عقيدة أهل السنة وعدالة صحابة رسول الله.
كانت الأمور قد وصلت إلى ذروتها في عام 2013، وتحديدًا في 23 يونيو، حين قام أهالي إحدى قُرى مُحافظة الجيزة بالاعتداء على منزل أحد قيادات التيار الشيعي في مصر وهو حسن شحاتة وقتله هو وأخيه واثنين أخرين، قبل أن يقوموا بإحراق المنزل والتنكيل بجثثهم وسحلها في شوارع القرية، ليأتي الرد الرسمي المصري فاترًا ومستنكرًا مقتل وتعذيب أربعة أفراد، “بالرغم من كون أفكارهم غريبة عن مجتمعنا”، تلك القضية التي حُكم فيها على جناة وهميين من أجل إسكات المجتمع الدولي، وبأحكام مُخففة.
لتخرج بعدها المبادرة المصرية للحقوق الشخصية المُهتمة بحقوق الإنسان وتؤكد تعرض الشيعة في مصر لقُرابة سبعين حالة اعتداء، والتي جاءت معظمها من خلال العصابات الوهابية التي تعمل تحت مظلة الحكومة المصرية، وبتمويل مليارات الدولارات السعودية التي دخلت مصر تحت عنوان “مساعداتٍ إنسانية”، بدون أي تدخل حكومي أو علمي أو ديني يؤسس قيم المواطنة التي كفلها الدستور المصري.
البهائية
تنُص المادة الثانية من الدستور المصري على حرية الاعتقاد للمواطنين كافة، وبالرغم من ذلك فإن الديانة البهائية غير مُعترف بها في مصر سواءً رسميًا أو شعبيًا حتى الآن.
ويحكي موقعهم الرسمي عن مُبشرهم ورسولهم حضرة بهاء الله، كما تحكي الدكتورة بسمة محمد موسى في أغسطس 2008 عن بدء الديانة البهائية في مصر، وذلك عن طريق عدد من تجار السجاد الإيرانيين والذين نزلوا مصر عام 1864 للتجارة، غير أن أربعة منهم قد استقروا بمصر وعملوا في تجارتهم كما عملوا في الدعوة لدينهم الجديد.
ظلت البهائية تسير بخطى وتيدة ومستقرة لحدٍ ما، حتى شُكِّل المحفل الروحي المركزي للبهائيين بمصر والسودان عام 1924 بمنطقة العباسية، واعترفت به الدولة بعد عشر سنوات، قبل أن توافق على تخصيص قطعتي أرض إضافيتين يتم تخصيصهم كمقابر للبهائيين في مصر.
في عام 1924 ومع إقامة المحفل الروحي المركزي للبهائيين، قام مجموعة من المسلمين بالاعتداء على ثلاثة من البهائيين بقرية كوم الصعايدة ببني سويف، ليتم القبض على عدد من المُعتدين، والذين أكدوا فتوى أحد شيوخ القرية بخروج البهائيين على الدين الإسلامي، وهو ما دفع محكمة ببا الشرعية بالمحافظة إلى إصدار قرارها في 10 مايو 1925، باعتبار الديانة البهائية ديانة قائمة بذاتها ومستقلة كاستقلال الإسلام عن المسيحية والمسيحية عن اليهودية.
في عام 1960 أمر الرئيس جمال عبد الناصر بإغلاق المحفل الروحي للبهائيين ومُصادرة كتبهم وممتلكاتهم، كما تم القبض على عشرات البهائيين على رأسهم التشكيلي المصري حسن بيكار بتهمة الترويج للمبدأ البهائي، وليتم بعدها التعامل مع البهائيين كأصحاب بدعة وهرطقة.
وقد أحصت يوهانا بينك، أستاذة الدراسات الإسلامية بجامعة ألبرت لودويك بألمانيا،اعتقال أكثر من 263 بهائيًا منذ قرار “ناصر” وحتى عام 2001، حين تم القبض على عائلة كاملة من شيخ بهائي وأخويه الإثنين وزوجته وأحد أعمامها بإحدى قُرى صعيد مصر، واتهامهم بنشر المبدأ البهائي، كما رصد مركز الأندلس للتسامح ومكافحة العنف عددا من المقالات الصحفية التحريضية ضد البهائيين في مصر، والتي جاءت جميعها بالجرائد القومية، تصف البهائيين بالتهديد العلني والصريح للأمن القومي المصري، في حين رصدت اللجنة الأمريكية لحرية الأديان عام 2010 أكثر من 15 فتوى كُفر وزندقة بحق البهائيين، استنادًا على كونهم يؤمنون أن نبيًا جاء مع النبي محمد.
كل تلك السلسلة أدت إلى تهجير وحرق منازل البهائيين بعدد من قُرى الصعيد عام 2009، تلك الأحداث التي هزت الرأي العام حينها، وسمحت الحكومة المصرية في أعقابها للبهائيين لا بالاعتراف بدينهم ولكن بمجرد عدم إجبارهم على المثول لديانة أخرى وكتابة شرطة (ــ) مكان خانة الديانة بالبطاقة، وهو أبسط الحقوق التي ناضل البهائيون من أجلها بعدما أُجبروا لسنواتٍ عديدة على كتابة مُسلم في خانة ديانتهم بالبطاقة الشخصية.
“الصوفيون”
العنصرية امتدت لتطال أصحاب الإسلام الروحي (الصوفيون)، والذين قرروا منذ بدايتهم الابتعاد كليًا عن الصراعات مع الطوائف الأخرى ودائرة النفوذ، متخذة من مساجد “أولياء الله” مسكنًا لهم، ومن تجمعاتهم منفذًا لغذاء أرواحهم.
يعيش الصوفيون في مصر تحت تعنت الجماعات الإسلامية السلفية، والتي تمنعهم من إقامة احتفالاتهم الدينية بطريقتهم ويواجهون اعتداءات جمة، بمعاونة الأجهزة الأمنية التي تخرج قبل الاحتفال بأي مولد ديني للصوفية لتعلن رفضها لإقامته تحت دعوى “احترازات أمنية”، ليكون الصوفيون أيضًا ضمن دائرة الأقلية الدينية المصرية.
وشهد الصوفيون في مصر أبشع وأعنف جريمة في تاريخ مصر الحديث حينما قتل أكثر من 300 شخص وأصيب العشرات من أهالي قرية الروضة بمحافظة شمال سيناء المضطربة أمنيًا، وكشفت التقارير الإعلامية أن القرية تتلقى تهديدات من الجماعات الجهادية الموجودة في سيناء منذ أكثر من على خلفية إقامة الاحتفالات وحلقات الذكر.
في النهاية، ربما لم تتفق كافة الدساتير المصرية منذ بدايتها وحتى الآن على مادة أو مبدأ مثل اتفاقها على مبدأ حرية الاعتقاد والعقيدة، غير أن كُل تلك الدساتير كانت وما زالت بلا جدوى حقيقية في ظل حُكم يرى البعض دون الآخر وتُثار الشكوك العديدة حول استغلاله للعنف الطائفي، بل والوقوف وراءه بقوة من آن إلى آخر من أجل فرض سياسة الخوف على الشعب المصري، وإغراقه في دوامات مكافحة إرهابٍ وهمي من جانب، أو فرض قبضة أمنيةأكثر إحكامًا حول رقبته من جانب آخر.