تبقى المساحات المتاحة لـ حرية التعبير والفكر والرأي قضايا ومطالب حقوقية إنسانية لا جدال فيها، تشغل حيزًا وتساؤلًا ملحًا حول تلك المساحة ومقدار الحريات في الأوطان العربية، التي تلجم فيها الأنظمة الأصوات وأصحاب الرؤى ووجهات النظر وربما الحلول، حتى أن دولًا كانت تسمح بهامش من الحريات لجأت إلى التعتيم على ما يجري في الداخل بدعوى الحفاظ على الأمن أحيانًا.
ما يحدث هو وثيق الصلة بالصراع بين الفكر والثقافة وسيطرة الدين والسياسة على مجريات الأحداث داخل بوتقة الفكر والإبداع في المنطقة العربية، في ظل انطلاق دعاوى أصولية واسعة مغلفة بعباءة دينية.
عن أبعاد الصراع بين الفكر والسياسة، والتضيق الذي يسير رويدا رويدا تجاه وعي المثقفين الجادّين ومن في حُكمهم بمطقة الخليج، وتحول الكثير ممن يمارسون الكتابة الأدبية والمسائل الفكرية، للأعمال النقدية الحرة، فضلا عن التنازل عن شرف المساهمة في دعم التطلعات العقلية والفكرية النافعة والسديدة للإنسان العربي المعاصر، يحدث الباحث والكاتب الكويتي المتخصص في الفلسفة وتاريخ الأفكار عقيل يوسف عيدان مجلة “مواطن” في هذه السطور التالية.
حوار: أحمد بن سعيد
- سجون دول الخليج مكتظة بمعتقلي الرأي وأصحاب المواقف الصادقة.
- الأنظمة العربية تتبنى سياسة تهميش المفكرين وأصحاب الرؤى.
- الاستبداد والطغيان السياسي والديني أكثر خطرًا على العرب من المخطط الإيراني.
- حرية التعبير والضمير متدنية.. والكويت تضيق على الحريات بإطلاق سلطة الرقابة.
- النزعة إلى “العلمنة” في السعودية أقرب ما تكون إلى (خضراء الدمن).
- الرقابة وضعت المثقفين الخليجيين بما يشبه الصندوق المغلق بدون ثغرة للحياة الثقافية الصحية.
- مشروع “ترامب” لتهويد القدس كشف عن الوجه القبيح للمتغزلين بإسرائيل.
- الغضب الشعبي سيجبر العرب على حلحلة الأزمات دون المسكّنات الدينية وعقاقير السياسة والاقتصاد.
- الكويت تجاهد للمصالحة بين قطر والرباعي العربي حتى لا يسقط “مجلس التعاون”.
- أكثر الإعلام الخاص فخ يظن أكثرية الناس وبعض المثقفين أنه طوق النجاة.
- النظام الإيراني لا يمثل خطرًا على أحد بقدر ما تمثّله الأنظمة العربية.
فإلى نص الحوار:
1- بداية.. كيف ترى المساحات المتاحة لحرية الرأي والفكر والتعبير في دول الخليج حاليًا؟
لأنني لا أكتفي بمعرفة الأشياء كما هي في الواقع، ولكن أنظر إلى هذه الأشياء أيضًا كما يجب أن تكون، فإن حرية التعبير والضمير في مستوى متدنٍ جدًا برغم كل ما يشاع رسميًا وبالضد من الاتجاه العالمي نحو هذا الحق الإنساني الأصيل، ولعلني لا أذيع سرًا إذا ذكرت أن سجونا عديدة في دول خليجية عدة الآن بأصحاب الرأي والموقف والمعارضين السلميين الصادقين ومن الذين يناوئون بالتعبير والقول المظاهر غير المحمودة في دولهم، وأن القهر والتشديد في التصدي للحريات أضحى سمة هذه الدول.
2- هل يمكن أن تطلعنا على بعض الدول التي تراجع فيها ميزان حرية التعبير في الفترة الأخيرة؟
على رأسهم دولة الكويت التي عرفت بانفتاحها ووعيها الفائق في مجال حرية التعبير والضمير خلال عقود طويلة، لكنها للأسف بدأت منذ فترة غير قصيرة بالتضييق شيئًا فشيئًا على الحريات عبر فرض سلطة الرقابة وإطلاق يدها التي طالت مناحي عدة أصبحت تهدد جديًا مكانة الكويت ودورها الهام في هذا المجال، إن دول الخليج – مع التأكيد على التفاوت النسبي في هذا الموضوع – بَدَت في مواجهة المناداة بـ حرية التعبير والضمير وكأنها “خلعت القفاز الحريري وارتدت جلد النمر”!.
3- من وجهة نظرك هل يوجد بالفعل صراع بين السياسة والدين مع الأدب والثقافة؟
في ظني أن السلطات والحكومات في المنطقة تتأزّم وتضيق من وعي المثقفين الجادّين ومن في حُكمهم، لأنهم يعملون ويسعون لحَمْل المواطن والفرد الخليجي عبر كتاباتهم ومؤلفاتهم ومحاضراتهم ولقاءاتهم على أن يقتنع بنفسه ويفكّر فيها بدلًا من التخلّي عن مسؤولياته الخاصة والعامة، والإذعان لتهديد “الحلف الأوليجارشي”- بتعبير المفكر الفرنسي، روجيه جارودي- هذا الحِلف المعقود بين السلطة السياسية والسلطة الدينية بشكل أساسي ظاهرًا أو باطنًا، فقد أرادت هذه المجموعة الجادة من المثقفين- ولا يزالون- تكبير المسؤولية الفردية للمواطنين والأفراد وحتى الجماعات عبر الشجاعة الفكرية والوضوح العقلي والذي يظهر أكثر عبر الممارسة الواعية والنزيهة للديمقراطية.
4- وما الخطر الفعلي الذي قد تشكله الوصاية السياسية على المفكرين والمثقفين؟
إن أخطر ما تقوم به السلطة بمؤسساتها المختلفة وبتحالفاتها العديدة ليس هو وضع الوصاية المباشرة أو الغاطسة على المثقفين الجادين فقط، وإنما وضع هؤلاء المبدعين والكتّاب في زاوية تتماثل مع حالة ذلك الطائر الذي كنّا -ونحن أطفال- نقوم بنزع بعض ريشاته حتى لا يطير، ثم نطلقه يمارس “حريته” مشيًا! ثم -وبلا حياء- نسميه طائرًا! ، فسوف أكتفي بذكر مثل واحد سريع للمقارنة بين ما يوجد على الساحة العربية- والخليجية في عِدادها- بما هو موجود في أوروبا وأمريكا، ففي الوقت نفسه الذي يتطور فيه العالم الغربي في المجال الروائي -مثلًا- مخترقًا الرموز الدينية، كما جرى في الرواية الشهيرة (شيفرة دافنشي) للكاتب الأمريكي دان براون، نجد الروائي العربي- إلا ما ندر- خائفًا من انتقاد المؤسسة الدينية، دَع عنك الرموز الدينية ذاتها التي تحتاج إلى نقدٍ حقيقي وجاد.
5- الأصولية لفظ شاع انتشاره في منطقة الخليج العربي وغيره هل ترى خطرا لهذا المصطلح على الحريات وأبرزها التفكير والرأي؟
من الضروري -في ظني- أن أقف سريعًا عند المقصود بالأصولية، فالأصل هو الأساس الذي يقوم عليه الشيء، ومن ثم فإن الأصل في الإسلام هو القرآن، غير أن أصولية الأصل تفرّعت إلى مذاهب وتيارات وفرق وتوجهات متباينة ومتقاطعة ومتضاربة أيضًا أنتجت كل واحدة منها بدورها “أصوليتها” الأيديولوجية الخاصة بها التي لا تشبه- ربما- الأصل الأول.
6- وماذا يعني هذا؟
يعني هذا أن الأصولية منغلقة على نفسها ومتعصبة للذات وكارهة للآخر المختلف، وهي بذلك متطرفة خِطابًا وسلوكًا وموقفًا وتتميز بالرجعية والتعنّت ومعاداة الحداثة والتقدّم، على اعتبار أنها تمتلك “الحقيقة المطلقة” وتعبّر عنها، من هنا، فإن الأصولية ممثلة بالتيار الديني ومن إليه في منطقتنا العربية الإسلامية- والخليج في عِدادها- لا يتعامل مع الحريات- وبخاصة حرية التعبير والضمير- إلاّ اتكالًا على ثنائية الكفر والإيمان الثابتة الزائفة، والتي هي في عموميتها السوداء ترفض مفهوم القراءة الحرة والمنفتحة على الأصوات والآراء الأخرى، فتنفي العقل الحر وتعظّم الانفعال وهي في كل ذلك تساوي جهلًا وانقفالًا بين الكفر والاختلاف في الرأي، بل تساوي بين الإيمان الحر الواعي، وبين “حَفنة من البشر” تُحدد معنى الكفر ومعنى الإيمان.
7- لكن هل من آثار لهذه الموجة من الاضطهاد الأصولي للفكر المتفتح القائم على الحرية؟
نعم فرفض ونبذ الأصولية للفكر أو الرأي الآخر المختلف يجعل من التناحر والاضطهاد والإقصاء وحتى القتل عنصرًا داخليًا في كل فكر يدّعي احتكار الحقيقة وتحديد الإيمان من غيره. وما دعوى “الردّة” أو الزندقة أو حتى الإساءة ومَسّ الفقه- الرأي الديني ورموزه وما يعقبه من مواقف انفعالية- ظلامية متشددة، إلا دعوة صريحة للعنف والتدمير، وتعدٍّ على التفكير البشري واستهتار بالقيم الإنسانية النبيلة، إن خطر الأصولية- بالمعنى الواسع للكلمة- يمكن أن يتلخص راهنًا في توجّه هذه الجماعة- وبمساعدة من السلطة السياسية- برَصد كل رأي نقدي حر تجاه الآراء الفقهية الدينية- التي تسمى “ثوابت”- للمباشرة في تحريك دعاوى قضائية واجتماعية ضد المفكرين والمثقفين والكتّاب الجادين، بهدف خلق خوف وارتباك لديهم من ناحية، وكسب سلطان ونفوذ ومواقع لهذه الأصولوية عند عامة الناس من ناحية أخرى. ولا يغيب عن القارئ الحصيف ما يبدو أنه “مكارثية” جديدة بصبغة دينية ضد الحريات في منطقتنا.
8- هل ترى أن دول الخليج واكبت الحراك الثقافي في العالم؟
لا يغيب عنك أن الرقابة – بمعناها الواسع- التي تفرضها دول الخليج على مناحي الحياة العقلية وفِي مقدمتها الثقافة قد وضعت المثقفين الخليجيين بما يشبه الصندوق المغلق الذي يزداد إحكامًا كل يوم من دون السماح بثغرة تتسرب منها أنفاس هواء تسمح بحياة ثقافية صحية أو نصف صحية. غير أن ذلك، لم يمنع- وَإِنْ أثقل الخطوات وآخَّرها- عددًا لافتًا من المثقفين الخليجيين الجادين- برغم محدودية عددهم وانتشارهم- من الاشتباك مع المعطيات الفكرية والأدبية والثقافية عمومًا والمجاهرة- بقدر المستطاع والمتاح- بـ”الحقيقة”- أو ما تبدو كذلك- لكي يدركها الناس، أو على الأقل الانتباه إلى لمحات منها.
9- برأيك ألا ترى أن الغنى والثراء في كثير من دول الخليج مرتبط بضحالة في الفكر والثقافة بل والقراءة أيضا؟
من المهم أن أنبه ها هنا إلى وجوب الاحتراس من الصورة الذهنية النمطية المستهترة التي تظن بأن كل خليجي هو “برميل نفط” متحرك، وبأن مستوى الدخل العالي هو مصير لكل خليجي وهذا تصوّر غير صحيح تمامًا، ومن يراقب الإنتاج الثقافي الجاد في الخليج فسوف يجد من دون عناء كبير، تلك الأصوات المحترمة الداعية- الواعية إلى مقاومة القوة العدوانية والإرادة المستبدة والسلطة المتعجرفة، كما دعواتها إلى الدفاع عن الخطوط “المنحنية” التي تناهض الخطوط “المستقيمة”، وهو ما يعني، ضمن ما يعنيه، أن المثقف الخليجي الجاد هو الذي لا يفكر- انطلاقًا من وعيه الثقافي المنفتح- لحسابه الخاص، وإنما لحسابه ضمن الآخرين القريبين والبعيدين على حد سواء.
10- هذا يعني أن هناك عودة للاهتمام بالفلسفة وإعمال العقل لدى الجموع العربية؟
على الرغم من أن الفلسفة حاجة من حاجات الدول، لا يستغني عنها شعب يريد أن يثبت كفايته للحياة العقلية وعنايته بالمطالب العالية، لأنها قوة تكتسح كل حين جانبًا من مجاهل الجهالة وتعمّرها بمادة الوعي الصحيح، لكن أهلنا في المنطقة العربية- والخليج من ضمنها- عادَت مبكرًا الفلسفة ليس بالإضافة إلى نفسها، وإنما بالإحالة إلى موقعها عند المؤسسة الدينية والسياسية في معيتها، واللتان كرهتا في الفلسفة تحديها لهما وعدم استجابتها إليهما، بل إنها- أي الفلسفة- تواجههما ولا تتملقهما، وإنما تصارحهما بالحقيقة ولا تداهنهما لأنها لا تخاف منهما، بل تجرؤ عليهما إلى الحد الذي يجعلها تكاد أن تصفعهما أحيانًا حتى يفيقا من خداعهما واستغلالهما للناس، كل ذلك وأكثر أثار الناس المذعنين أصلًا للفكر غير الفلسفي، أي الديني والسياسي وما إليهما، وجعلهم ينبذونها ولا يعيرونها أي اهتمام.
11- هل لك أن تحدثنا عن أنماط الكتابة الأدبية والتناولات الفكرية السائدة في المنطقة العربية؟
يبدو لي أن نهج “التهميش” للأفكار الجادة وللمفكرين الجادين الذي تستخدمه السلطات الحاكمة في منطقتنا العربية بدهاء شديد، جعل كثيرًا جدًا ممن هم يمارسون الكتابة الأدبية والمسائل الفكرية يقلبون للأعمال النقدية الحرة ظهورهم ويتنازلون عن شرف المساهمة في دعم التطلعات العقلية والفكرية النافعة والسديدة للإنسان العربي المعاصر، حول وجوده ومشكلاته وحياته وأسئلته، وأرجو أن لا تبدو إجاباتي متشائمة، ولكن الواقع كذلك، مع التأكيد أن هناك مساهمات رائعة ونافعة جديرة بالاحترام والتقدير لأصحابها، ولكنها محدودة.
12- وما تبعات الانصراف عن دعم الفكر والفلسفة والاستسلام للوضع القائم؟
لعل أفضل مثال على ما ذكرت هو الكاتب المصري، المعروف عباس محمود العقاد، الذي كتب كثيرًا من الكتب حول الفلسفة وعدد من الفلاسفة، غير أنها لم تشتهر كما هو الحال مع الكتب الدينية و”العبقريات” التي كتبها! إن من يقرأ أو يهتم بالفلسفة هو ذاك الإنسان الذي لا يقنع بالنقل والتقليد بل يمضي في البحث والتفكير، لأنه يأبى أن لا يشعر بوعيه، أو أن لا يكون له في ممارسة العقل حظّ أو نصيب.
13- لكن لمصلحة من محاصرة المواطن العربي فكريا؟
بقولٍ واضح لا مواربة فيه ولا نفاق، لمصلحة بقاء الأنظمة الحاكمة حاليًا وحاشيتها، ولاستمرار تدفّق المنافع الشخصية وعدم تعطلها، وفِي هذا السبيل لن تتردّد هذه الأنظمة، التي يعاني قسم واسع منها من “شرعية” بقائه واستمراره، في أن تستخدم الأدوات والوسائل كافة في تنفيذ ما تريده، فإن استبداد وتعسّف الحكومات العربية لا يحتاج إلى تطويل في شرح قمعها وإرهابها تجاه المواطن العربي المغلوب على ضعفه وقلة حيلته، بل إن المثقفين الجادين في العالم العربي والإسلامي، تلك المجموعة النبيلة، هي فئة مضطهدة لم يلتفت إلى معاناتها أحد؟!. فهم يعانون الأمرّين من نظمهم السياسية ويعيشون في ظل “قوانين” ظالمة ومهينة للإنسان، حيث يتحكم النظام السياسي في حق حرية التعبير والضمير والحريات الفكرية والإبداعية الجادة كلها، وحيث يتعرضون للإذلال في أروقة النيابة وقاعات المحاكم وتوقع عليهم الغرامات المادية الثقيلة وأحكام السجن بسبب ما يُبدونه من آراء ومواقف، كما تتدخل الأنظمة في السماح أو منع الكتب أو الأفلام السينمائية وحتى اللوحات التشكيلية! ومن ثم، تقمع المثقف الجاد ومن يصدقه ويتبعه من القيام بأي جسارة منتظرة أو متوقعة منه.
14- كيف ترى دور الإعلام الخاص في دول الخليج العربي، في مقابل هيمنة الإعلام الرسمي أو الحكومي؟
في ظني أن كثيرًا من الإعلام “الخاص” وفي عداده الإعلام الجديد كمواقع التواصل، ظاهرُه أنه إعلام مفتوح وتعدّدي، ولكنه في جوهره إعلام رسمي أو حكومي يملكه أو يدعمه أو وراءه شخصيات متحالفة وعلى استعداد للتحالف مع السلطة السياسية وتجمعهم مصالح ومنافع خاصة، ولذا فإن هذا الإعلام الخاص لا يسمح لرأي هذا المثقف الجاد أن يظهر ويتحدث، أو ذاك الكاتب الملتزم من التعبير عن رأيه وموقفه، برغم أنها كلها تدعي “الرأي والرأي الآخر” باختصار شديد إن كثيرًا من الإعلام الخاص بشكل عام، هو فخ يظن أكثرية الناس وبعض المثقفين أنه طوق النجاة، وهذا في تقديري غير صحيح، إنما هي سلطة رسمية مُقنّعة لا تقبل إلا ما يتطابق مع مواقفها وآرائها ويدرّ لها منافعًا لا منتهية.
15- لو تحدثنا عن إيران ودورها في المنطقة ما الخطر الذي يمثله نظام طهران على دول الخليج العربي؟
لا أتصور بأن النظام في إيران يمثل خطرًا على أحد بقدر ما تمثّل عدد من الأنظمة العربية حالة الخطر نفسها، فلا يغيب عنكم أن الأنظمة في شرقنا تتصف بالاستبداد والطغيان السياسي والديني، وما يحدث الآن من صراع ‘‘فارسي- عربي‘‘ إذا صح التعبير هو صراع نفوذ ومقدّرات وقوى تريد أن تسيطر وتستقطب وتنال السطوة ليس على الجغرافيا ربما ولكن على إنسان الجغرافيا وموارده في باطن الأرض وفوقها! علمًا بأن هناك عناصر في هذا الصراع قوية جدًا ولكنها غير متاحة الآن، وهي لربما التي تكمن وراء العلاقات الظاهرة والغاطسة بين بعض الدول العربية وإيران.
16- لو تحدثنا عن المملكة ما تقييمك للمتغيرات السياسية والفكرية التي تقبل عليها في ظل تحركات ولي العهد الأمير محمد بن سلمان والاتجاه لعلمنة الدولة ؟
قد لا أكون الشخص المناسب للتحدث بدقة حول هذا الموضوع الذي أعتقد أنني أمتلك له إجابتين؛ فهناك ظاهرٌ لهذه التحولات والتغييرات التي تشهدها السعودية الآن وهي سريعة جدًا على أي تحليل أو قراءة واعية أن تقطع برأي واضح فيها لا سيما وأن “النرد” ما يزال دوّارًا. الإجابة الأخرى تنبري للتساؤل حول مكانة المثقف الجاد في السعودية الآن، الذي يعتبر “مختلفًا” مع السلطة ويشكل “خطرًا” على الدولة وذلك في مخيلة السياسيين الطموحين، أو الذين يتمتعون بأي درجة من الاستبداد. إنني أخشى ما أخشاه أن تكون النزعة إلى “العلمنة” في السعودية حاليًا هي أقرب ما تكون إلى (خضراء الدمن) وفقًا للحديث المنسوب للنبي محمد. إن جُلّ ما أتمناه أن تكون تجربة التحوّل في السعودية الآن تستمد كيانها الموضوعي من قضية الإنسان السعودي نفسه، سواءً في إطاره الاجتماعي الخاص أم في إطاره الاجتماعي العام، وسواءً المؤيد صراحة أم المختلف ضمنًا مع السلطة.
17- وما تقييمك للدور الذي تلعبه الكويت في إنهاء الأزمة بين قطر ودول الرباعي العربي (السعودية ومصر والإمارات والبحرين)؟
أعتقد بأن الكويت تخشى من أن تكون “الأزمة الخليجية” هي بداية النهاية لتجربة مجلس التعاون الخليجي الذي شكّل عمقًا خاصًا ونافعًا ليس للكويت فقط، وإنما لدول الخليج الأخرى، ومن هنا كانت الكويت ولا تزال ترجو أن تفلح مساعيها الرسمية المعلنة والسرية في وقف النزيف المستمر في العلاقات الخليجية والذي أعلن -أو كاد- وفاة هذه التجربة المهمة في المنطقة العربية، والتي ستكشف ظهور دول الخليج لرياح عاتية تلوح بأفق الأزمات التي تعصف بالمنطقة منذ أمد غير قصير، وللأسف الشديد، فأنا غير متفائل بحلٍ ناجع للأزمة وبخاصة مع دخول أطراف إقليمية ودولية ذات مصالح على خط هذا الحل الذي يبدو أن لا نجاح له مع تعقُّد الأزمة التي طالت جوانب ذاتية وعلائقية لكل من أطراف الخلاف لا يمكن أن تحل بسهولة، أو لن تعود كما كانت على أقل تقدير.
18- أزمة تهويد القدس.. كيف تلقي بظلالها القاتمة على المستقبل؟
أبرز ما في هذه الأزمة الحالية التي قامت بعد إعلان الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب القدس عاصمة لإسرائيل هي أن المشروع الأمريكي – الإسرائيلي الذي كان يُدار في الخفاء أصبح الآن جهارًا نهارًا، وبأن الدول التي كانت تغازل تل أبيب على استحياء قد أعلنت عن حبها الصريح لها، وهو ما يعني ضمن ما يعنيه أن المنطقة العربية تتهيأ لتغيير سحنتها، إذ لن تكون في وقت قريب ما كانت عليه إلى وقت قريب وأن كل ما كان من تضحيات كبيرة ومواقف عظيمة وأعمال شجاعة.. قد ذهبت إلى الأبد ولن تعود وبخاصة في ظل غطرسة القوة الحمقاء التي تتعامل بها الإدارة الأمريكية الحالية من ناحية، والانصياع العربي لها من ناحية أخرى.
19- في الختام.. لو أعطيتنا توصيفا للحالة التي تمر بها المنطقة العربية حاليا وهل من حل؟
يمكن القول إن ما يجري في منطقتنا من أزمات يشبه برج الحمام؛ حمامة تذهب وأخرى تأتي، ونحن كذلك لا نفيق من أزمة حتى ننام على أخرى، وليس ذلك بمستغرب في هذا الوقت الطافح بالوحشية والآلام والهوان والمعاناة والبشاعات والنقائص والأحزان والتشوّهات، أو الشر عمومًا.
وفِي ظني أن سبل مواجهة هذه الاضطرابات هو أن ندرك بأن مواجع أوطاننا لابد أن تواجه بما هو أنجع من المسكّنات الدينية وعقاقير السياسة والاقتصاد، فـالغضب هو الانفعال الذي يجب أن تتحمل مسؤليته الشعوب والأمم، إن كل أزمة أو اضطراب هو صرخة لبعث الغضب عند الناس الذين يعيشون كل أسبابه، إن وجود الأزمات واستمرارها مع تكرارها ناتج في وهمي، من انعدام الغضب الشعبي على ما يقع ويجري، فبدون وجود الغضب لن تجد من يهتم بك أو يلتفت إليك، والحالة هذه.
إن الحرية، التي أبعدت من المَتن إلى الهامش في عالمنا العربي، ينبغي لها أن تستعيد مكانتها السامية في حياة المنطقة على غرار كل الدول الحرة حول العالم، ولن نتحصّل عليها من دون غضبٍ يحتج عَلى كل ما لا يرضاه ويتساءل عن كل ما لا يفهمه.