قبل 7 أعوام من الآن نطقت ملايين الحناجر في 20 دولة عربية بعد صمت تجاوز عقودا عدة، تحت وطأة الديكتاتورية والاستبداد بهتافات اختلفت في ألفاظها واجتمعت في مضمونها، مطالبة بالحرية والعيش والكرامة لهم ولأوطانهم، ولكن هيهات فرغم الموتى الذين ضحوا بأرواحهم لانتزاع العزة والدماء التي سالت في الطرقات، إلا أن الأيام التي مرت عقب “ثورات وانتفاضات الربيع العربي” قتلت الأحلام ونسفت الآمال وأحاطتها بوابل من الألم والإرهاب والفساد.
“الربيع العربي” لم يقتصر على البلدان الخمس التي حققت التظاهرات فيها نجاحًا بإسقاط الأنظمة أو تحولت إلى حرب كما في سوريا، فهناك شعوب دول عربية أخرى خرجت من أجل الغرض ذاته، في “البحرين والعراق وفلسطين وسلطنة عمان والسعودية والسودان ولبنان والأحواز” حاولوا الإطاحة بأنظمة قتلت أحلامهم من أجل غد، لكنها ما لبثت أن انتهت تحت طلقات الرصاص وحجرات الزنازين الضيقة أو الإغراءات المالية، لتبقى شاهدة على عقود “الظلم الديكتاتوري”.
“تونس ومصر وسوريا وليبيا واليمن” خرج مواطنوها من أجل إنهاء الحكم المستبد الذي استمر في بعضها لثلاثين عامًا، لكن البلاد الخمس الآن باتت محاطة بالأزمات الاقتصادية والعمليات الإرهابية وأذرع الأنظمة التي تحاول قتل إرهاصات الحلم الجديد تحت دعوى التقسيم والفوضى.
مجلة “مواطن” تبحر في أعماق شعوب أسقطت أنظمتها المستبدة التي قتلت أحلامها وسرقت قوتها وزيفت تاريخها وبدأت في بناء آمال لغد لا صوت يعلو فيه على هتاف “عيش.. حرية.. كرامة إنسانية.. عدالة اجتماعية”، لكنها ما لبثت حتى استفاقت على واقع “سُرق فيه الحلم وقُتل الأمل” وأنهى طموح المستقبل إلى محاولة “العيش” فقط بعيدًا عن يد السجان أو بطش زبانية “فلول” الماضي.
ثورة الياسمين
تعد “تونس الخضراء” باكورة البلاد التي انطلقت فيها أحداث الغضب ضد الانظمة الديكتاتورية، حيث اندلعت الثورة في 14 يناير عام 2011 بعد إحراق بائع الخضار والفاكهة محمد البوعزيزي، نفسه ونجحت في الإطاحة بالرئيس السابق، زين العابدين بن علي، الذي استمر في الحكم 23 عامًا كاملة، عانى خلالهم التوانسة من ويلات القبضة الحديدية والظلم والاستبداد، ليخرج الآلاف إلى الشوارع مرددين هتافات “شغل..حرية.. كرامة وطنية”.
وبدأ الشعب التونسي يحلمون بغد أفضل، لكن الأمور كان تسير من سيئ إلى أسوأ، فبعد سبع سنوات من الثورة مازالت “الخضراء” تعاني من ويلات الأزمات الاقتصادية، فوزير المالية التونسي بالنيابة، محمد الفاضل عبدالكافي، صرح قبل أيام بأن “كل محركات الاقتصاد التونسي (شبه معطلة)، نحن في حاجة إلى موارد مالية عاجلة خلال الأشهر المقبلة، تونس لم تعد قادرة على التصدي لالتزاماتها المتعددة إلا عن طريق الاقتراض”.
وبحسب الإحصائيات الأخيرة بالنسبة للاقتصاد التونسي، ارتفعت نسبة البطالة خلال عام 2017 لتصل 15.7%، كما بلغت نسبة الدين العام حوالي 52.7% من الناتج المحلي، وبلغ عجز الميزان التجاري 7.9%، وانخفض معدل النمو إلى ما يقرب من 2% لتصل نسبة الانخفاض إلى أكثر من 100% مقارنة بالأوضاع التي كانت قبل الثورة.
ويبدو أن سوء الأوضاع لم يكن فقط على المستوى الاقتصادي، فالحرية السياسية التي انتزعها التونسيون عقب “ثورة الياسمين” نزعت منهم رغمًا عنهم في الأعوام التالية، لينتهي المشهد السياسي إلى بزوغ نجم “أذيال” الأنظمة السابقة، لعل أبرزهم الرئيس التونسي الحالي، الباجي قائد السبسي، الذي يعد أحد رموز نظامي بورقيبة وزين العابدين، إضافة إلى رئيس البرلمان، محمد ناصر.
وكحال المنطقة العربية بأسرها، أحاط تونس الإرهاب خلال السنوات التي تلت الثورة، لعل أبرز تلك الفترات خلال الأعوام الثلاثة الماضية، فالبلد المعروفة بشواطئها الساحرة عاشت كابوسًا خلال السنوات الست، حيث بلغ عدد العمليات الإرهابية بها حتى بداية عام 2017 حوالي 54 عملية، أسفرت عن مقتل وإصابة المئات من المدنيين ورجال الجيش والشرطة.
ولم يقتصر الإرهاب في تونس على العمليات الإرهابية، حيث إنها تعد من أكثر الدول التي صدرت مجاهدين إسلاميين إلى الدول المجاورة، ووفقًا لإحصائية صادرة عن مجموعة صوفان “SoufanGroup” المتخصصة في مجال استشارات الأمن الاستخباراتي. وصدّرت تونس نحو 6 إلى 7 آلاف شخص إلى سوريا والعراق للجهاد، ليمثلوا أزمة كبيرة بعد عودتهم إثر القضاء على بعض الجماعات الإرهابية التي انضموا إليها من قبل التحالف الدولي لمكافحة الإرهاب والأنظمة المحلية في دمشق وبغداد.
“ثورة اللوتس”
ومن تونس الخضراء إلى “ثورة اللوتس” في مصر، والتي خرج العشرات من شبابها في مظاهرات 25 يناير 2011 ضد وزير الداخلية المصري الأسبق، حبيب العادلي، بسبب عمليات القبض على المعارضين وقمع الحريات، قبل أن تتحول المظاهرة الصغيرة إلى انتفاضة شعبية عارمة غطت وجه مصر رافعة شعارات “عيش..حرية.. كرامة إنسانية.. عدالة اجتماعية”.
المشهد في مصر استمر 18 يومًا، ارتفعت خلاله سقف التوقعات والمطالب للمحتجين، فبعد البداية ضد وزير الداخلية- آنذاك- وارتفاع وتيرة العنف من قبل قوات الشرطة طالب المتظاهرون برحيل رأس النظام، محمد حسني مبارك، والذي استمر في الحكم حوالي 30 عامًا، لتنتصر القوة الشعبية على الاستبدادية والرأسمالية لتنهي حقبة، توقع المصريون أن يليها سطوع شمس الحرية والحصول على المقومات الإنسانية في حياتهم.
ومع وصول الرئيس الإخواني الأسبق، محمد مرسي العياط، ازدادت الأوضاع سوءًا، لينتهي حكمه بعد عام بانتفاضة شعبية قوية في 30 يونيو 2013 تحولت في غضون 3 أيام إلى انقلاب عسكري مغلف بديكور ديمقراطي، ليتولى وزير الدفاع المصري السابق، المشير عبد الفتاح السيسي، رئاسة الجمهورية في 30 يونيو 2014.
وبعد 7 سنوات من الثورة بدأت الأوضاع في بلد الـ100 مليون مواطن أكثر بؤسًا وأشد تنكيلاً، حيث تمتلئ السجون المصرية بحوالي 60 ألف شخص، أغلبهم بتهم غير دستورية وملفقة، فالقيادة السياسية المصرية الحالية سعت إلى زيادة القبضة الأمنية من خلال إقرار قانون منع التظاهر، إضافةً إلى إعلان حالة الطوارئ، بدعوى العمليات الإرهابية.
ورغم احتلال الجيش المصري المرتبة العاشرة في الترتيب العالمي إلا أنه ومعه قوات الشرطة فشلا في مواجهة العمليات الإرهابية خصوصًا في محافظة شمال سيناء، لتؤكد الأرقام كل عام أن الأوضاع الأمنية تسير في الاتجاه الخاطئ، حيث وقعت أكبر عملية إرهابية في تاريخ مصر الحديث خلال الشهر الماضي وأسفرت عن مقتل 300 شخص وإصابة ما يزيد عن 100 آخرين داخل أحد مساجد مدينة العريش.
واتخذت السلطات في مصر ذريعة الإرهاب وسيلة إلى الحد من الحقوق السياسية، والتي بدأتها بإقصاء كل المعارضين السياسيين، فأصدرت قوانين بحظر جماعة الإخوان التي كانت تتولى الحكم قبل 3 أعوام، تلتها حظر الحركات السياسية التي كانت سببًا في سقوط نظامي مبارك ومرسي، أبرزهم حركة 6 أبريل، والتي يقبع أغلب أعضائها في السجون لصدور أحكام قضائية ضدهم بتهم تتعلق بانضمامهم لجماعات محظورة والتظاهر بدون تصريح أمني، وغيرها.
الفشل المصري لم يكن في الجانب الأمني والسياسي فقط، لكنه امتد إلى النواحي الاقتصادية، حيث يعاني الجنيه المصري من انخفاض حاد في قيمته بنسبة تقترب من 200% عن قيمته أبان ثورة 25 يناير، خصوصًا بعد قرار البنك المركزي المصري خلال شهر نوفمبر من العام الماضي بتحرير سعر الجنيه مقابل الدولار، فضلاً عن ارتفاع عجز الموازنة إلى 323.74 مليار جنيه بنسبة وصلت إلى أكثر من 110% خلال عام 2011.
وشملت الإخفاقات الاقتصادية في مصر، هبوط أسهم السياحة والتي كانت تدر دخلاً يبلغ نحو 14 مليار دولار خلال عام 2010، بإجمالي أكثر من 11% من الناتج المحلي الإجمالي في مصر، لتسجل خلال 7 أشهر من العام الحالي حوالي 3.5 مليار دولار.
“ثورة اليمن”
ومع سقوط نظام الرئيس المصري المخلوع، محمد حسني مبارك، انطلقت ثورة الشباب اليمني منادية بتغيير نظام الرئيس السابق، علي عبدالله صالح، الذي حكم البلاد 33 عامًا، واستمرت المناورات بين شباب التغيير والمعارضة من جهة وبين صالح من الجهة الأخرى، وحصلت بعض الاشتباكات المسلحة بين موالين للنظام ومسلحين قبليين، وغادر صالح إلى السعودية بعد سقوط قنبلة على القصر الرئاسي في يونيو 2011.
وخلال فترة وجود صالح في السعودية وقع في 23 نوفمبر من العام ذاته، على مبادرة خليجية تقضي بتفويض صلاحياته إلى نائبه، عبدربه هادي منصور، وفي 26 نوفمبر أعلن هادي، عن عقد الانتخابات في 21 فبراير، وتم انتخابه رئيسًا للبلاد، وغادر صالح اليمن في 23 يناير 2012 إلى سلطنة عمان.
وبعد عامين من تلك الفترة نشأ تحالف بين صالح والحوثيين، واستمرت المناوشات مع هادي حتى أصدر الحوثيون إعلانًا دستوريًا نص على عزل الرئيس هادي، وتعطيل الدستور في السادس من فبراير عام 2015، وقام الحوثيون بانقلاب، حُل فيه مجلس النواب وتولت السلطة اللجنة الثورية بقيادة محمد علي الحوثي، ابن عم زعيم الحوثيين، عبد الملك الحوثي.
وبدأت اليمن في الدخول إلى معترك جديد، حيث بدأت قوات التحالف العربي بقيادة السعودية في مارس من العام ذاته، في مواجهة الحوثيين، لتدخل “ثورة الشباب اليمني” في معترك “قاتم” لا يسمع فيه سوى أصوات الرصاص والقنابل والطائرات، والتي أدت إلى مقتل الآلاف وإصابة وتدمير حياة الملايين.
وفي ظل تلك الحالة لا يمكن النظر أو الحديث عن الحقوق السياسية والاجتماعية لليمنين، لأن البنادق لا تسمع سوى صوتها، ولا تعرف غير الموت بديلا، ليعيش اليمنيون “أزمة حياة”، فبحسب الإحصائيات الدولية، فإن ٦,٩ مليون طفل يمني ٨٠٪ من إجمالي عدد الأطفال بحاجة إلى مساعدات إنسانية للبقاء على قيد الحياة، لتكون هذه الإحصائية هي التعبير الأفضل عن حقيقة الأوضاع السياسية والاقتصادية في اليمن.
“ليبيا”
المشهد الليبي ظهر أسوأ بكثير بعد ثورة 17 فبراير ضد العقيد معمر القذافي، الذي استمر في الحكم حوالي 42 عامًا، والذي وصفه السياسيون والمعارضون بالمستبد والغوغائي، ورغم أن التظاهرات في البداية كانت عبارة عن احتجاجات سلمية، لكن مع تطور الأحداث وقيام الكتائب التابعة للقذافي باستخدام الأسلحة النارية الثقيلة والقصف الجوي لقمع المتظاهرين العزّل، تحولت إلى ثورة مسلحة.
ومع مقتل القذافي في 20 أكتوبر 2011، بدأ ظهور الجماعات الليبية في شتى أرجاء البلاد، لتتحول الثورة الليبية التي كانت ترمي إلى تحسين الأوضاع إلى “حرب أهلية”، لتتحول ليبيا إلى أرض خصبة للجماعات المسلحة والتكفيرية وملاذًا للإرهابيين الفارين من وقع الغارات الجوية في سوريا والعراق.
وفي ظل انتشار الجماعات التكفيرية من جماعة أنصار الشرعية وفجر ليبيا وداعش وغيرهم، مرورًا بالجيش الليبي بقيادة خليفة حفتر، وصولاً إلى المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق برئاسة فايز السراج ومجلس النواب، اختفى المواطن الليبي ومطالبه، وبدأ التخوف الكبير بين الجميع من محاولات انقسام ليبيا والتي كان يؤكد متظاهروها أن ليبيا أرض واحدة وقبيلة واحدة.
الاقتصاد الليبي الذي بلغ نحو 80 مليار دولار عام 2010، عانى خلال السنوات السبع من أزمات متكررة، فوفقًا للبنك المركزي الليبي تراجعت إيرادات النفط والذي يطلق عليها “أم الأزمات” بنسبة وصلت إلى 90% خلال الـ5 سنوات الماضية، وبلغ إجمالي الخسائر حوالي 160 مليار دولار.
وارتفعت معدلات الفقر في الدولة الغنية بالنفط إلى أكثر من 2.5 مليون ليبي على حافة خط الفقر، إضافةً إلى نحو 435 ألف مشرد داخل البلاد، ورغم بلوغ نسبة النمو في 2012 إلى 100%، إلا أنه وصل إلى مرحلة سيئة فالتوقعات الإيجابية بالنسبة لصندوق النقد الدولي، تشير إلى أن مرحلة النمو قد تصل إلى 12%.
“ثورة أحرار سوريا”
في يوم الجمعة 18 مارس 2011، خرج الآلاف من شباب سوريا إلى الميادين والشوارع ضد نظام الرئيس بشار حافظ الأسد، رافضين الظلم والاستبداد وقمع الحريات الذي تولى الحكم في عام 2000 بعد وفاة والده إثر تعديل استثنائي في الدستور، وانطلقت انتفاضة الشباب لتواجه كنظيراتها في تونس ومصر واليمن وليبيا بالرصاص، ولكن ما لبثت إلا أن تحولت إلى ثورة مسلحة في ظل القمع الدامي من قوات الأمن السورية.
وسرعان ما تحولت الأحداث إلى مشاهد دامية، فتم تشكيل الجيش السوري الحر، الذي أخذ على عاتقه مواجهة النظام السوري والذي بقي متمسكًا ومتماسكًا بمكانه بدعم إيراني وسوري، لتبدأ الجماعات المسلحة في الدخول إلى أراضيها في ظل حالة الفوضى العارمة، وبدأت الأنظمة العربية في تزويد الجيش السوري الحر بالسلاح.
الحرب السورية أخذت منحى جديدا فتحول الصراع بين أبناء الوطن الواحد إلى أطراف خارجية، فأصبحت مسرحًا للجماعات الإرهابية، وصراعات الدول الكبرى، أمريكا تارة وروسيا تارة أخرى، إضافةً إلى إيران من ناحية والسعودية والإمارات من ناحية أخرى، ليتوه الشعب السوري بينهم جميعًا، حيث شهدت سوريا خلال الحرب جميع الأسلحة تقريبًا فمن الأسلحة الثقيلة مرورًا بقصف الطائرات وصولاً إلى الأسلحة الكيماوية.
وعلى مدار السنوات السبع الماضية، وحسب الإحصائيات الأممية، بلغت حصيلة أحداث الحرب السورية، أكثر من 320 ألف قتيل ومليون جريح، لكن منظمات غير أهلية تقدر عدد ضحايا الحرب بـ465 ألف قتيل على الأقل، كما أصبح أغلب أبناء الشعب لاجئين في كافة دول العالم بإجمالي أعداد وصل إلى 5 ملايين مواطن سوري، أغلبهم في تركيا.
لتبقى آمال شعوب الدول الخمس التي أريقت دماؤهم في شوارع بلادهم من أجل مستقبل غير الذي وضعته الأنظمة الديكتاتورية والعسكرية منتظرة انتفاضة جديدة تستكمل بها ما بدأته، وتقطع كل الأيادي والأنظمة العربية والعالمية التي سعت إلى إفشال ثوراتهم لتبدأ شمس الشعوب في كتابة سطور جديدة من إرادته.