القانون لا يعدو كونه وسيلة لتحقيق غاية معينة، ولذا فهو بمفهومه الإنساني والحضاري له دور أساسي في تنظيم العلاقات بين أطراف المجتمع، وتداول عبارات كـ “لا أحد فوق القانون” وذلك دليل على قدسية القانون كظاهرة اجتماعية إنسانية ودليلٌ أيضاً على غايته السامية في تعزيز مقومات العدل والمساواة. إلا أن هذا الدور المحوري الذي يلعبه القانون في المجتمعات الإنسانية يعطيه قوة تمكّنه من أن يصبح مصدر تهديد وخطرا على أمن المجتمع وكرامة الإنسان إذا انحرف هدفه واستخدم كوسيلة لتحقيق المصالح الفردية أو السياسية الضيقة، ذلك ما يطلق عليه تسمية “التوظيف السياسي للـ قانون”.
وفي دول الخليج حالات عديدة للتوظيف السياسي للقانون تهدف أغلبها إلى ضمان استمرار السلطة الحاكمة وتحقيق مصالح سياسية واقتصادية لفئة أو فئات معينة عبر تقويض القانون بطريقة تتماشى مع هذا الغرض، ونتيجة لذلك يتم إضعاف سلطة القانون بمفهومه السليم في مقابل تمكين سلطة الفرد أو السلطة الحاكمة على البشر. يصبح القانون في هذا النوع من الدول أداة من أدوات الحكم المختلفة كلٌ منها تستخدم في الظروف المناسبة التي اخترعت من أجلها.
تطرح هذه الظاهرة – التوظيف السياسي للقانون – تساؤلات شتى حول أسلوب الحكم في الدولة، فكيف أصدرت هذه القوانين؟ وكيف تطورت على مدى التاريخ؟ وما دور الظرف السياسي في طريقة تشريعها وتطبيقها؟
كل هذه الأسئلة تقودنا لسؤال محوري وهو: كيف نُحكم؟
لمحاولة الإجابة على هذه الأسئلة سنعتمد البحرين والكويت كنموذجين لظاهرة التوظيف السياسي للقانون وقوانين الإجراءات الجزائية المعمول بها في كل من الدولتين، وتحديداً فيما يتعلق بتنظيم إجراءات الحبس الاحتياطي، حيث تكشف لنا هذه القوانين والظروف السياسية والتاريخية المحيطة بها عن أساليب الحكم في كلا البلدين، اللذين تجمع بينهما بعض القواسم المشتركة بفضل الطبيعة المشابهة للنظام السياسي الحاكم، ويختلفان في أمور أخرى مرتبطة بالتطور التاريخي الخاص لكل منهما.
يعرف الحبس الاحتياطي في الأدبيات القانونية والحقوقية أنه إجراء احترازي يكمن في سلب حرية المتهم لمدة محدودة وفي حالات محددة وفقاً لمقتضيات التحقيق الجنائي لضمان، على سبيل المثال لا الحصر، عدم هروب المتهم أو عدم تأثيره على الشهود. وكما هو معمول به في عددٍ من البلدان فإنه يتم تعويض المتهم عن الحبس إذا تم تبرئته من التهمة – وعليه فالحبس الاحتياطي ليس عقوبة بحد ذاتها بل إنه إجراء قانوني يحاول الموازنة بين حماية أمن المجتمع وسلامة تطبيق القانون وحقوق المواطنين بوضع ضوابط محددة على إجراءات الحبس.
إذاً فإن استخدام قوانين الحبس الاحتياطي كمؤشر لقياس وتقييم مستوى الحريات والحقوق مُجْدٍ لمعرفة دور القانون كأداة للحكم لأنه كما بيّننا أنه من المفترض ألا تُنتهك حقوق المتهم في سبيل حماية الأمن العام ولا العكس أيضاً. ولكن من اللّافت أن ما يحدث في دول الخليج استغلال لهذا الإجراء القانوني “الحبس الاحتياطي” ليعاقب المتهمين بدلاً من أداء دوره كاجراء احترازي.
الكويت: العملية التشريعية كساحة للصراع السياسي
ما يميز الكويت في هذا السياق هو الدور المركزي الذي يلعبه مجلس الأمة (البرلمان الكويتي) في العملية السياسية وذلك بالنسبة للسلطة والشعب في آن واحد. إذ إن الأطراف السياسية المتصارعة على المجلس تحاول السيطرة على العملية التشريعية من خلال تمرير كل منها لبرامجها وسياساتها باستخدام الآلية القانونية الرسمية، فتدخل المعارضة للمجلس وتحاول تعديل القوانين وتشريع قوانين جديدة وتقوم الحكومة من طرفها بصد هذه المحاولات وتمرير برامجها المناوئة والعكس كذلك. وقد يأخذ الصراع السياسي أشكالاً أخرى مثل تعديل الحكومة للنظام الانتخابي أو حل المجلس لمنع المعارضة من الحصول على أغلبية المقاعد أو النجاح في طرح الثقة في وزيرٍ ما.
هذا ما يعطي مجلس الأمة دورا سياسيا مهم، ليس بسبب صلاحياته بالضرورة، بل لمكانته الرمزية للصراع السياسي حول السلطة والثروة.
بالنسبة إلى الحبس الاحتياطي تحكم شروطه وآلياته بقانون الإجراءات والمحاكمات الجزائية لسنة 1960[1]، وهو قانون أصدرته الحكومة قبل الاستقلال في ظل التحركات لتأسيس دستور للدولة، وقد تم تعديل المواد المتعلقة بالحبس الاحتياطي مرتين منذ ذلك الوقت، الأولى في 2012 التي قلصت صلاحيات الشرطة والسلطة القضائية والأخرى في 2016 التي أرجعته إلى حالة قريبة من الصيغة الأصلية.
وكان ينص القانون في صيغته الأصلية على صلاحية الشرطة لحجز المتهم دون أمر كتابي من جهة التحقيق لمدة لا تزيد عن أربعة أيام، ويحق للمحقق حبس المتهم احتياطياً في المرة الأولى مدة لا تزيد عن 3 أسابيع، وهي فترة قابلة للتجديد لمدة 15 يوم في كل مرة بعد النظر في الأمر من قبل المحكمة المختصة وسماع أقوال المتهم، وذلك على ألا تزيد مدة الحبس الاحتياطي عن ستة أشهر. ولكن في حال تطلبت مجريات التحقيق استمرار حبس المتهم أكثر من ستة أشهر، يمكن، بعد طلب المحقق واطلاع المحكمة على ما تم في التحقيق وسماع أقوال المتهم، تجديد الحبس 30 يوماً في كل مرة، ولكن دون تحديد سقف لأقصى مدة زمنية يمكن حبس المتهم فيها، كما لا يحق له التظلم من قرار الحبس.
وقام نواب المعارضة، الذين حظوا بالفوز بأغلبية المقاعد في مجلس الأمة في فبراير 2012 لأول مرة في تاريخ الكويت، ولقبوا لاحقاً بـ “كتلة الأغلبية”، بتعديل القانون[2] وتقليص المدة المسموحة للحجز والحبس الاحتياطي، حيث تم تقليص مدة الحجز دون أمر كتابي من 4 أيام إلى يومين فقط والحبس الاحتياطي من 3 أسابيع إلى 10 أيام، كما أنه نص على أن تجديد المحكمة للحبس الاحتياطي لا يزيد عن 10 أيام في كل مرة على ألا تزيد فترة الحبس عن 40 يوماً منذ تاريخ القبض.
ودفع التعديل إلى زيادة الضمانات للمتهم حيث إنه في حال تطلبت مجريات التحقيق استمرار حبس المتهم بعد انقضاء 40 يوم الأولية يحق للمحكمة تجديد الحبس كل 30 يوم لمدة أقصاها 3 أشهر وهو تطور ملحوظ على القانون الأصلي حيث إن الأخير لم ينص على مدة زمنية محددة وبالتالي سمح بتجديد حبس المتهم لفترة غير محددة. بالإضافة إلى ذلك فإن التعديل ميّز بين الجريمة الجنائية والجنحة حيث إنه ذكر عدم جواز استخدام الحبس الاحتياطي في حال كانت الواقعة جنحة عقوبتها الغرامة المالية أو الحبس لمدة لا تزيد عن 3 أشهر، كما أعطى المتهم الحق في التظلم من قرار الحبس وعلى القاضي الفض في الطلب خلال مدة لا تتجاوز 48 ساعة وفي حال الرفض ينبغي أن يكون القرار مسبباً.
ثم تم تعديل القانون مجدداً في 2016 من خلال مجلس الأمة[3]، تقدم به نواب آخرون أثناء دورة مجلس 2013-2016 (الذي قاطعته المعارضة) وتضمن التعديل رفع المدة المسموحة للحجز في مراكز الشرطة دون أمر من النيابة العامة في قضايا الجنايات إلى 4 أيام وفي الجنح إلى 48 ساعة، فيما عادت مدة الحبس الاحتياطي إلى 3 أسابيع للقضايا الجنائية قابلة للتجديد كل 15 يوم على ألا تزيد المدة عن 80 يوم، والحبس 10 أيام قابلة للتجديد لمدة أقصاها 40 يوم للقضايا الجنح. وإذا تطلبت مقتضيات التحقيق استمرار حبس المتهم أكثر من ذلك يمكن تجديد الحبس للقضايا الجنائية إلى مدة أقصاها 6 أشهر وللجنح لمدة أقصاها 3 أشهر.
من الملاحظ أن تعديل 2016 ضاعف المدة المسموحة للحبس الاحتياطي وأرجعها إلى صيغة شبيهة بالصيغة الأصلية للقانون، ولكنه حافظ على تعديل 2012 في تفريقه بين الجناية والجنحة وعلى حق المتهم في التظلم من قرار الحبس، وعلل النواب المقدمين لتعديل 2016 بأن التعديلات التي أدخلتها المعارضة كانت تعيق “رجال الأمن والمحقق من بعدهم عن إتمام أعمالهم على أكمل وجه” مما يسمح للمجرمين بالإفلات من العقاب لكون المدد المقررة لا تتناسب مع بعض الجرائم مثل القتل والسرقة وأمن الدولة[4]، فيما ذهب نواب المعارضة إلى أن تعديلهم أتى تصحيحاً لتقييد القانون للحريات الفردية[5] وخصوصاً أنه استخدم سابقاً لاستهداف بعض النواب أنفسهم بتهم تتعلق بأمن الدولة دون دليل واضح بدليل صدور أحكام ببراءتهم من التهم لاحقًا[6]. وأشار نواب المعارضة أن قانون الإجراءات والمحاكمات الجزائية لسنة 1960 في الأصل يعود مصدره إلى قانون العقوبات المصري لسنة 1937 الذي أصدر في عهد الملك فاروق[7] وطبّق في الكويت بهدف قمع الآراء المخالفة لرؤى النظام، مما يجعله – في وجهة نظر المعارضة – غير صالح للتطبيق في بلد ديمقراطي مثل الكويت.
كان للظروف السياسية التي تزامنت معها هذه التطورات التشريعية دور مهم في تحديد المسار الذي ستأخذه القوانين. إذ لم يكتب لمجلس فبراير 2012 الاستمرارية وتم إبطاله بعد أقل من أربعة أشهر من بدء أعماله، إلا أن حل المجلس لم يأتِ عن طريق مرسوم صادر عن أمير الكويت الشيخ صباح الأحمد الصباح كما هو المعتاد، وإنما أتى عن طريق حكم قضت فيه المحكمة الدستورية ببطلان حل المجلس السابق وبطلان الانتخابات التي جرت في فبراير 2012، وبذلك أُرجع المجلس السابق “وكأن الحل لم يكن” بحجة عدم تشكيل الحكومة تشكيلاً صحيحاً.
وعليه، تثبت هذه الأحداث والطريقة التي أدخلت التغييرات على القانون مركزية مجلس الأمة في الساحة الكويتية وخصوصاً أن الوزراء يعتبرون أعضاء بالمجلس بحكم مناصبهم مما يجعله محطة مهمة للحوار السياسي، الأمر الذي يدفع السلطة إلى الاهتمام به بشكل خاص والحفاظ على دور المؤسسات الدستورية في العملية التشريعية وإن كانت شكلية. فكان بالإمكان مثلًا إصدار قانون الجزاء وتعديلاته على هيئة مراسيم ضرورية خلال الإجازة البرلمانية كما حصل بالنسبة إلى تغيير النظام الانتخابي والسماح لمجلس لا تسيطر عليه المعارضة بالنظر فيه، إلا أن السلطة قررت تشجيع بعض النواب على تعديل القانون من داخل المجلس وهذا يدل على حرصها على السيطرة على مخرجات المجلس. وهذا مجرد مثال واحد على الأساليب التي تستخدمها السلطة لحكم البلد فبيدها أيضاً تغيير النظام الانتخابي (عدّل أربع مرات آخرها كان في 2012 بعد حل مجلس فبراير 2012) أو عقد الصفقات والتفاوض مع النواب أو تزوير الانتخابات كما حصل في سنة 1967 أو ترك الأمر للمؤسسات القضائية للمحافظة بهدف المحافظة على الشكل الديمقراطي المؤسساتي للدولة.
ولكن هذا الاهتمام بالمحافظة على الشكل الديمقراطي المؤسساتي له حدود إذ شهدت الكويت تجاوز السلطة لمجلس الأمة بالمجمل كلما تطلب الأمر ذلك وحل المجلس وتعليق الدستور في كل من 1976 و 1986 خير مثال على ذلك.
حالة البحرين: ازدواجية المرجعية القانونية والعقلية الأمنية
يمكن تشخيص حالة البحرين في اتكائها، منذ منتصف القرن المنصرم، على مرجعيتين قانونيتين مختلفتين فيما يتعلق بالإجراءات الجزائية، هما المرجعية المدنية والعسكرية أو الأمنية وتستمر وتتطور الصيغ القانونية لها بالتزامن مع التطورات السياسية في البلد.
بدأت هذه الظاهرة تتشكل بوضوح في حقبة الستينيات حينما كانت تتعامل السلطات مع المتهمين إما من خلال قانون أصول المحاكمات الجزائية لسنة 1966 المدني، وإما قانون الأمن العام لسنة 1965 الأمني، فالأول أصدرته الحكومة لسد فراغ تشريعي بينما الثاني أصدرته كردة فعل لانتفاضة مارس الشعبية التي اندلعت سنة 1965. وشهدت حقبة السبعينيات بروز مرحلة ثانية باستبدال قانون الأمن العام لسنة 1965 بالمرسوم بقانون تدابير أمن الدولة لسنة 1974 الذي أصدرته السلطة كمرسوم أميري للضرورة أثناء العطلة البرلمانية على الرغم من احتجاجات نواب المجلس الوطني (البرلمان البحريني آنذاك) انتهت في نهاية المطاف بحل المجلس وتعليق الدستور للـ 25 سنة القادمة. واستمر القانون في قيد التنفيذ بالتوازي مع قانون أصول المحاكمات حتى العام 2002 حين ألغي القانونان وعملت البحرين بقانون واحد مدني يطبق على الجميع (المرسوم بقانون رقم 46 لسنة 2002 بإصدار قانون الإجراءات الجنائية)[8]، إلى أن تم إصدار القانون رقم 58 لسنة 2006 بشأن حماية المجتمع من الأعمال الإرهابية[9] لتعود البحرين إلى ازدواجية المرجعية القانونية.
أما بالنسبة إلى مضمون هذه القوانين فكان ينص قانون أصول المحاكمات، على سبيل المثال، على حق المتهم في التظلم من قرار الحبس الاحتياطي[10]، فيما خلا في المقابل قانون الأمن العام لسنة 1965 من مواد توضيحية للإجراءات الإدارية سوى منح الحاكم صلاحية وضع الأنظمة “التي يراها ضرورية أو مناسبة لحفظ النظام العام”[11]، هذا بالإضافة إلى نصه على صلاحية تنفيذها حتى وإن خالفت مواد في قوانين أخرى.
وهذا الأمر تكرر في نصوص قانون تدابير أمن الدولة لسنة 1974 حيث كان يسمح لحبس المتهم احتياطياً بأمر من وزير الداخلية لمدة 3 سنوات دون محاكمة، ولا يحق له أن يتظلم من قرار الحبس إلا بعد مرور 3 أشهر من تاريخ القبض عليه وفي حال الرفض لا يستطيع التظلم مجدداً إلا بعد 6 أشهر إضافية، وهو ما قد يشير إلى تأكيد فرضية هذا المقال وهي أن الحبس الاحتياطي يستخدم في دول الخليج كأداة عقابية.
وجود مرجعيتين قانونيتين أنتج تناقضاً حاداً في النظام القانوني بشكل عام، وخصوصاً أن قانون أمن الدولة وقانون الأمن العام قبله كانا ينصان على تجاهل القانون المدني والضمانات التي حددها لحرف أداة الحبس الاحتياطي عن غايتها الأصلية.
وفي العام 2014 دخلت البحرين في مرحلة رابعة من الازدواجية القانونية، ولكن بشكلٍ أكثر وضوحاً في تناقضاته، بإنشاء نيابة تحقيق خاصة بـ “الجرائم الإرهابية”[12] وإدخال تعديل دستوري قدمه جلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة فتح الباب لمحاكمة المدنيين في المحاكم العسكرية[13]، وهذا بطبيعة الحال لا يسهم إلا في زيادة التناقضات، وخصوصاً في ظل منظومة تشريعية مزدوجة في الأساس بوجود قانون الإجراءات الجنائية لسنة 2002[14] وقانون حماية المجتمع من الأعمال الإرهابية لسنة 2006[15].
قرر قانون الإجراءات مدة الحبس الاحتياطي 7 أيام قابلة للتمديد إلى 45 يوم (تم تقليصها إلى 30 يوم في تعديل بسنة 2014)[16] وفي حال تطلب إبقاء المتهم محبوساً فيمكن تمديد الفترة مجدداً بعد عرضه على المحكمة والنائب العام في فترات محددة لمدة أقصاها 6 أشهر ما لم يُحَل إلى المحاكمة بعد، وفي حال كانت الواقعة جناية يمكن للمحقق أن يطلب تمديد الحبس أكثر من 6 أشهر عدة مرات لمدة 45 يوم (30 يوم في تعديل 2014) في كل مرة، دون تحديد سقف أعلى لتلك المدة الكلية. في المقابل قرر قانون حماية المجتمع من الأعمال الإرهابية مدة الحبس الاحتياطي الأولية 60 يوم (مقارنة بـ 45 يوم في القانون المدني) ولم يحدد سقف للمدة الأقصى التي يمكن إبقاء المتهم محبوساً احتياطياً.
وبالنسبة إلى حق التظلم من قرار الحبس الاحتياطي وفر قانون أصول المحاكمات لسنة 1966 ضمانة للمتهم بالتأكيد على حقه في التظلم من قرار الحبس، ولكن سحبت منه تلك الضمانة في قانون الإجراءات الجنائية لسنة 2002 وأعطاها إلى النيابة العامة في حال تم الإفراج عنه، إلا أن تعديل 2014 جاء ليرجعها إلى المتهم[17].
وما يجعل المنظومة التشريعية أكثر تعقيداً هي أن تعديلات 2014 جعلته من الصعب تقييم الوضع إذا كان تطوراً إيجابياً أم سلبياً، فبينما حددت التعديلات في قانون الإرهاب سقفا أعلى للحبس الاحتياطي بـ 6 أشهر ليكون أقرب للقانون المدني، قام أيضاً بزيادة فترة الحجز في مراكز الشرطة دون أمر بالحبس من 5 أيام (قد ترفع إلى 15 يوم بعد تقديم طلب تمديد إلى النيابة العامة) إلى 28 يوم، وهو مثال واضح على الازدواجية المتناقضة في المنظومة التشريعية حيث إن المتهم في هذه الحالة يقع في حيرة من أمره، هل سيحاكم بالقانون المدني أو الأمني؟
نماذج لاستغلال الحبس الاحتياطي في قضايا الرأي السياسي
من النماذج البارزة لاستغلال الحبس الاحتياطي قضية الناشط الحقوقي البحريني نبيل رجب الذي اعتقل بتاريخ 13 يونيو 2016 حيث إنه قدم إلى المحاكمة بعد حوالي شهر في قضية تغريدات انتقدت حرب السعودية في اليمن ومشاركة حكومة البحرين فيها وسياسة التعذيب في السجون البحرينية بالإضافة الى قضية إدلاء بتصريحات “كاذبة” لوسائل إعلام أجنبية، ورفضت النيابة العامة الإفراج عنه طوال هذه المدة رغم قرار المحكمة بإطلاق سراحه في ديسمبر 2016 في القضية الأولى، فقامت النيابة بتجديد حبسه “للتحقيق” معه في القضية الثانية[18] وتم تأجيل جلسات المحاكمة واحدة تلو الأخرى على مدى أكثر من عام ونصف إلى أن حكم عليه أخيراً في 23 فبراير 2018 بالسجن خمس سنوات في القضية الأولى فيما لا تزال محاكمة القضية الثانية جارية.[19]
وفي الكويت تبرز قضية المغرد وليد فارس، صاحب حساب “جبريت سياسي”، اعتقلته الإدارة العامة لمباحث أمن الدولة بتاريخ 5 سبتمبر 2015 ووجهت له تهمة أمن دولة بنشر أخبار كاذبة من شأنها الإضرار بالمصالح القومية للدولة وإعابة الذات الأميرية وتم إحالته إلى محكمة الجنايات خلال أسبوع[20]، إلا أنه تم إبقاء المتهم في التوقيف لأكثر من سبعة أشهر حتى تم الحكم عليه بالحبس 10 سنوات في مايو 2016، ليباشر درجات التقاضي في محكمة الاستئناف التي أمرت بوقف تنفيذ حكم الحبس في أكتوبر 2016 للنظر في دعوى الاستئناف[21]، وأخيراً حكمت الاستئناف والتمييز بتأييد الحكم في كل من ديسمبر 2016 و يوليو 2017 [22]، وهو الآن يقضي عقوبته في السجن المركزي.
كما وضحنا سابقاً، فإن الحبس الاحتياطي أو “التوقيف”، في هذه الحالات، عبارة عن إجراء احترازي هدفه تحقيق مصلحة التحقيق ولكن لأنه يمس حرية المتهم الشخصية وجب تحديد ضوابط محددة تنظم هذا الإجراء، إلا أنه في دول الخليج تعتبر قضايا الرأي جرائم جنائية ماسة بأمن الدولة فيعامل المتهم على ذلك الأساس وتكون إجراءات الحبس الاحتياطي مشددة للغاية.
كيف نحكم؟
طريقة تطبيق القانون في كل دولة طريقة تعكس أنماط الحكم المختلفة في كل منها وإن تشابهتا في الوسيلة. ففي الكويت تهدف السلطة الحاكمة إلى إضفاء الشكل الديمقراطي المؤسسي على نفسها، ولكن سرعان ما يسقط عنها هذا القناع كلما تفرز العملية الديمقراطية نتائج غير مرضية بالنسبة لها وتقدم السلطة على تعليق الدستور وحل مجلس الأمة وتغيير النظام الانتخابي لتعيد هندسة الساحة السياسية على أمل إفراز حالة تتكيف معا، بل وتصب بشكل مباشر في صالحها، وخير مثال على ذلك الأحداث التي صاحبت تعديلات قانون الإجراءات الجزائية حيث إن المعارضة في مجلس الأمة لسنة 2012 أقدمت على تعديله لإعطاء المتهم حقوقه وإنصافه، إلا أن الحكومة حلّت ذلك المجلس بعد أقل من ثلاثة أشهر من بدء عمله وأقدمت من خلال بعض النواب بتعديل القانون مجدداً وإرجاعه إلى حالة مشابهة لحالته الأصلية بحجة عرقلة سير التحقيق وأداء الأجهزة الأمنية.
أما في البحرين فوجود مرجعيات قانونية متعددة لتحديد كيفية التعامل مع المتهمين يعكس الشكل المشوه للدولة البحرينية حيث إن شرعية الحكم فيها قائم على الأمر الواقع بسيطرة أسرة آل خليفة على البحرين في أواخر القرن الثامن عشر الميلادي والدعم البريطاني لهم.
وعلى الرغم من إدخال نمط الشرعية الدستورية على نظام الحكم مؤخراً، لا زالت بقايا شرعية الأمر الواقع فاعلة في إطار القوانين القمعية. فمن جهة، تريد السلطة أن تضفي الطابع الليبرالي والديمقراطي على نفسها، وخصوصاً أمام المجتمع الدولي، ومن جهة أخرى تعالج أزماتها السياسية بالعقلية الأمنية التي تتضارب مع الغاية الأولى، وتستغل قوانين مكافحة “الإرهاب” في مواجهة جميع أشكال التعبير السياسي المعارض.
ومقارنة بالكويت فإن التشريعات البحرينية أصدرت أغلبها على هيئة مراسيم بقانون أثناء العطلة البرلمانية أو في ظل عدم وجود مؤسسة تشريعية مستقلة من الأساس. واختلاف طريقة الإقرار يدل على اختلاف في نهج الحكم حيث إن الكويت تهتم بتشريع القوانين وفق الآلية القانونية الدستورية وإن كان ذلك في بعض الأوقات يهدف للحفاظ على الشكل الديمقراطي الدستوري دون تطبيق مضمونه، غير أن البحرين لا تعطي اعتباراً للمؤسسة التشريعية الدستورية في الأساس لأنها ليست بحاجة لتفعيلها لتضفي الشرعية على السلطة الحاكمة وإنما تكتفي بوجود القوانين المدنية لصرف الأنظار المحلية والعالمية عن المنظومة الأمنية الموازية.
ولكن في كلا الحالتين تلعب المبررات الأمنية دوراً طاغياً في رسم المنظومة التشريعية ومخرجاتها وتستخدم القوانين في غير محلها وتحرّف عن غايتها بحيث يوضع حامل السلاح والنائب البرلماني والمحلل السياسي جميعهم في الخانة نفسها: الإرهاب.
الهوامش:
-
البحرين.. نبيل رجب يبقى في السجن رغم قرار بإطلاق سراحه. (2016, ديسمبر 28). Retrieved from الحرة: https://www.alhurra.com/a/bahrain-nabeel-rajab/341257.html
-
السفارة البحرينية في لندن تقول إن نبيل رجب لم يحاكم بسبب “آراء سياسية أو تعبير سياسي“. (2018, فبراير 23). Retrieved from مرآة البحرين: http://bahrainmirror.com/news/44889.html
-
الكويت: إطلاق سراح المغرد «وليد فارس» المتهم بقضية أمن دولة. (2016, أكتوبر 20). Retrieved from الخليج الجديد: http://thenewkhalij.news/ar/node/48929
-
الكويت: محكمة التمييز تؤيد حبس المغرد «چبريت سياسي» 10 سنوات. (2017, يوليو 9). Retrieved from http://www.alweeam.com.sa/472707/%D8%A7%D9%84%D9%83%D9%88%D9%8A%D8%AA-%D9%85%D8%AD%D9%83%D9%85%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%85%D9%8A%D9%8A%D8%B2-%D8%AA%D8%A4%D9%8A%D8%AF-%D8%AD%D8%A8%D8%B3-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%BA%D8%B1%D8%AF/
-
المذكرة الإيضاحية لمشروع قانون رقم 35 لسنة 2016 بتعديل بعض أحكام قانون الإجراءات والمحاكمات الجزائية. (2016). Retrieved from موقع راقب 50: https://raqib50.s3.amazonaws.com/uploads/report/file/1386/78.pdf
-
صحيفة الوسط. (2015, يوليو 7). القاضي الزايد: تحديد مدة لـ «الحبس الاحتياطي» يؤثر على «المحاكمة العادلة»… وننظر للأدلة ومدى خطورة الجريمة. Retrieved from صحيفة الوسط: http://www.alwasatnews.com/news/1006460.html
-
عبيد الوسمي – تعديل المادة 15 من قانون الجزاء. (2012, يونيو 10). Retrieved from YouTube: https://www.youtube.com/watch?v=RPcd20tgLMM&t=14s
-
فيصل اليحيى – تعديل المادة 15 من قانون الجزاء. (2012, يونيو 10). Retrieved from YouTube: https://www.youtube.com/watch?v=3VXNo7OZ_PE
-
قانون الإجراءات والمحاكمات الجزائية. (1960). Retrieved from موقع الحكومة الإلكترونية – الكويت: https://www.e.gov.kw/sites/kgoArabic/Forms/QanoonAlIjraat.pdf
-
قانون الأمن العام (1965, أبريل). Retrieved from هيئة التشريع والإفتاء القانوني: http://www.legalaffairs.gov.bh/AdvancedSearchDetails.aspx?id=525#.WogTjK6WbIV
-
قانون رقم (12) لسنة 2017 بتعديل بعض أحكام قانون القضاء العسكري الصادر بالمرسوم بقانون رقم (34) لسنة (n.d.). Retrieved فبراير 24, 2018, from هيئة التشريع والإفتاء القانوني: http://www.legalaffairs.gov.bh/LegislationSearchDetails.aspx?id=145083#.WpDykK6WbIU
-
قانون رقم (3) لسنة 2012 بتعديل بعض أحكام القانون رقم (17) لسنة 1960 بإصدار قانون الإجراءات والمحاكمات الجزائية. (2012). Retrieved from http://www.gcc-legal.org/LawAsPDF.aspx?opt&country=1&LawID=4147
-
قانون رقم (39) لسنة 2014 بتعديل بعض أحكام قانون الإجراءات الجنائية الصادر بالمرسوم بقانون رقم (46) لسنة (n.d.). Retrieved فبراير 24, 2018, from هيئة التشريع والإفتاء القانوني: http://www.legalaffairs.gov.bh/LegislationSearchDetails.aspx?id=71331#.WpDx0K6WbIU
-
قانون رقم (58) لسنة 2006 بشأن حماية المجتمع من الأعمال الإرهابية. (n.d.). Retrieved فبراير 24, 2018, from هيئة التشريع والإفتاء القانوني: http://www.legalaffairs.gov.bh/LegislationSearchDetails.aspx?id=2125
-
قانون رقم 35 لسنة 2016 بتعديل بعض أحكام قانون الإجراءات والمحاكمات الجزائية. (2016). Retrieved from الكويت اليوم: https://raqib50.s3.amazonaws.com/uploads/legislation/file/74/0035.pdf
-
قصة اعتقال ” وليد فارس نواف هايص ” صاحب تغريدات جبريت سياسي. (2015, أكتوبر 2). Retrieved from https://www.almrsal.com/post/276954
-
مرسوم بقانون بشأن تدابير أمن الدولة. (1974, أكتوبر). Retrieved from هيئة التشريع والإتفاء القانوني: http://www.legalaffairs.gov.bh/LegislationSearchDetails.aspx?id=5682#.WogTjK6WbIV
-
مرسوم بقانون رقم (46) لسنة 2002 بإصدار قانون الإجراءات الجنائية. (2002, أكتوبر). Retrieved from هيئة التشريع والإفتاء القانوني: http://www.legalaffairs.gov.bh/LegislationSearchDetails.aspx?id=5651#.Woiy0K6WbIU
-
مرسوم بقانون رقم (68) لسنة 2014 بتعديل بعض أحكام القانون رقم (58) لسنة 2006 بشأن حماية المجتمع من الأعمال الإرهابية. (n.d.). Retrieved فبراير 24, 2018, from هيئة التشريع والإفتاء القانوني: http://www.legalaffairs.gov.bh/LegislationSearchDetails.aspx?id=72085#.WpDznq6WbIU
-
مصر. (n.d.). قانون العقوبات رقم 58 لسنة Retrieved فبراير 24, 2018, from منشورات قانونية: https://manshurat.org/node/14677