بلباس أسـود وضفائـر ولحى طـويلة وقبعات ساكنة على الرؤوس، يطل من قلب “القدس” يهودٌ عرفوا أن فلسطين عربية، تاريخهم بدأ قبل عقد كامل من وجود الكيان الصهيوني بالمنطقة، ليدافعوا عن الأرض المقدسة ويدحضون ادعاء الاحتلال بحقه في الأرض المقدسة، ويؤكدون أن الصهيونية الإسرائيلية ليس لها أساس، إنها جماعة “ناطوري كارتا”.
تعد جماعة “ناطوري كارتا” إحدى الجماعات اليهودية التي تعادي الكيان الصهيوني، وتدعم القضية الفلسطينية وحق الشعب العربي، وخلال السطور التالية ستغوص “مواطن” في تاريخ الجماعة المتدنية، وإلى ما تدعو، وسبب الصرعات بينها وبين الصهيونية، وما أهم اعتقاداتهم وهل يختلفون عن اليهود المحتلين للأرض الفلسطينية.
“تاريخ الجماعة”
تعني لفظة “ناطوري كارتا” في اللغة الآرامية “حراس المدينة”، وهي جماعة يهودية أرثوذكسية ترفض الحركة الصهيونية ووجود دولة إسرائيل بكل أشكالها، تأسست قبل عشر أعوام من احتلال الكيان الصهيوني لفلسطين عام 1948، لمناهضة الصهيونية ولا زالت تعادي دولة إسرائيل.
ويقيم أتباع الجماعة اليهودية في الوقت الحالي مدينة القدس خاصة في حي “ميا شياريم” (مائة باب) الذي يعتبر معقلهم الرئيسي، كما يوجد أتباع للحركة في مدينة نيويورك بالولايات المتحدة الأمريكية، وأيضًا في مدينة لندن بالمملكة المتحدة، وتختلف التقديرات النهائية لأتباع الحركة، فتشير مصادر إلى أن عدد المنتمين للحركة داخل القدس والأراضي المحتلة يصل إلى 5 آلاف عضو، وتذكر مصادر أخرى إلى أن تعدادهم يبلغ حوالي 6 آلاف يهودي، بينهم أكثر من ألفي شخص في فلسطين المحتلة.
ينحدر أتباع طائفة “ناطوري كارتا” من أصول مجرية، واستقروا بمدينة القدس القديمة منذ بداية القرن التاسع، ويخالف أتباع الجماعة السياسات الصهيونية منذ ظهورها خلال فترة الحكم العثماني.
وخلال الثمانين عامًا التي مرت على تاريخ الحركة، هاجر العديد من نشطاء “ناطوري كارتا” من مدينة القدس إلى عدة مدن وخاصة لندن ونيويورك وموسكو، بسبب رفضهم التعامل مع حكومة الكيان الصهيوني ودفع الضرائب، ووصل شدة رفضهم لإسرائيل إلى أنهم لا يقبلون لمس أي عملة ورقية أو نقدية تحمل صور وشعارات للصهيونية، فضلاً عن المضايقات الأمنية الذي يتعرض له أتباع الحركة من قبل جنود الاحتلال الإسرائيلي.
هجرة النشطاء اليهود المتدينين أدت إلى انتشار الحركة في لندن ونيويورك وإنشاء المؤسسات التثقيفية ودور النشر والمنظمات التابعة للحركة ومن أشهرها منظمة “أصدقاء القدس” في نيويورك، علاوة على إطلاق موقع إلكتروني للتعريف بالحركة ونشاطها وأماكن تواجدها.
“معتقداتهم”
ويعتمد أتباع “ناطوري كارتا” على نقاشات تلمودية بخصوص مقاطع في الإنجيل والتي تتعلق باتفاقية ما بين إلههم والشعب اليهودي وأمم العالم والتي حدثت عندما تم نفي اليهود.
وبحسب معتقداتهم ينص الاتفاق على أن اليهود يجب ألا يقوموا بالثورة على الشعوب غير اليهودية التي منحتهم مأمنا ومأوى، وأنهم لا يجب أن يقوموا بهجرات جماعية إلى فلسطين، وأن الأمم غير اليهودية تعد بأن لا تضطهد اليهود بشكل قاسٍ.
يؤمن أبناء “ناطوري كارتا” بأن كلمة “يهودي” كلمة على كل من يطبق قوانين “التوراة”، وأن الشعب اليهودي عاش كشعب عندما كانت له دولة خاصة قبل ألفي سنة، وأنه يعيش كشعب بعد تشتيته من خلال تمسكه بـ”التوراة” وتعاليمها، وأن الأرض المقدسة (القدس) أعطيت لليهود حينما كانوا يطبقون شعائر “التوراة”، وأن الله سحبها منهم وشتتهم عندما أخلوا بتعاليمه الدينية.
وعلى عكس الصهيونية، يرى أبناء الجماعة اليهودية، أن الأرض المقدسة منعت منهم بموجب مانع توراتي شديد، وأنه لا يجب أن يقيموا مملكة “يهودية” بالأرض المقدسة أو غيرها، وأن التعاليم التوارتية تحتم عليهم أن يكونوا موالين للممالك التي يعيشون تحت سلطتهم.
وبحسب معتقداتهم، فاستخدام القوة لاستعادة الأرض المقدسة قبل عودة المسيح مخالف لإرادة الرب بناءً على التلمود البابلي، وأنه محرم عليهم أن يثوروا على الدول غير اليهودية وأن يبقوا مواطنين أوفياء في فترة المنفى التي كتبها الله عليهم، ويرفضون ممارسات الكيان الصهيوني بحق الفلسطينيين لاعتقادهم أنه محرم على اليهود أن يسودوا أو يقتلوا أو يؤذوا أو يذلوا أقوامًا آخرين.
تؤمن حركة “ناطوري كارتا” بحقيقة الهولوكست، إلّا أنها ترفض استغلال الواقعة من أجل تبرير تشكيل دولة إسرائيل، ودفعها معتقدها الإيماني إلى المشاركة في المؤتمر الدولي لمراجعة الرؤيا العالمية للهولوكوست والذي جذب عددًا من المنكرين للهولوكوست في إيران عام 2006.
“معاداة إسرائيل”
الجماعة اليهودية منذ نشأتها ترفض الكيان الصهيوني، وأصدرت عام 2001 بيانًا من 17 نقطة يوضحون فيه معتقداتهم، ورفضهم للكيان الصهيوني، مشيرين إلى أن الصهاينة تحرشوا بالأمم، وطلبوا سلطة سياسية على الأرض المقدسة بالرغم من رفض العرب الفلسطينيين سكان الأرض القدماء، وأن زعماء اليهود “الأورثوذكس” المحافظين عارضوا هذه الفكرة بكل قوة.
وأكدوا أن العلاقات بين الشعبين العربي واليهودي كانت دائمًا علاقات محبة وسلام وصداقة، وأن آلاف اليهود عاشوا في كل الدول العربية لمئات السنين من خلال احترام وتقدير متبادل، مشددين على أن المسلمين استقبلوا اليهود وتقبلوهم بصدر رحب في الوقت الذي قامت دول وأمم بمهاجمتهم وقتلهم.
وتابعت: اليهود المتدينون لم يعترفوا أبد بالدولة الصهيونية، واستمروا بالإعلان الدائم أنها لا تمثل الشعب اليهودي، وأن اسم (إسرائيل) الذي يستخدمونه مزيف، لأنه بحسب التوراة يمنع على اليهود التمرد على أي شعب، أو استخدام أي سلطة”، لافتين إلى أن إيمانهم يخبرهم بأن “ينتظروا اعتراف العالم بمملكة الخالف، ويقوم هدف النبي “يشعياهو”.
وأشارت الحركة إلى أن أتباعها يمتنعون عن الحصول على أي مخصصات من السلطات الصهيونية، ومؤسساتها، وأنهم لا يشاركون في انتخابات الكنيست الإسرائيلي أو البلدية، لافتين إلى أنهم لا يتحدثون اللغة العبرية، وأنهم يعارضون إسرائيل من خلال التعاليم الدينية اليهودية، وأيضًا التعاليم الإنسانية.
“دعم فلسطين”
وعلى مدار سنوات الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية كانت الجماعة اليهودية المتدنية تقف إلى جانب “أبناء الأرض” معلنين عن دعمهم باستمرار، فضلاً عن تنظيم تظاهرات للتنديد بالاحتلال، حتى بعد رحيل الكثيرين من أبناء الطائفة إلى مدن أخرى في العديد من دول العالم حافظوا على عهدهم بتنظيم وقفات احتجاجية أمام المؤسسات الدولية الكبرى، وفي شتى المحافل، والتي كان أخرها في 16 ديسمبر 2017، في بوسطن.
فيديو من إحدى مظاهرات الحركة في مدينة مونتريال بكندا عام 2014 بعد استشهاد الطفل الفلسطيني محمد أبو خضيرة:
وتنظم “ناطوري كارتا” ندوات ومؤتمرات للتنديد بدولة الاحتلال ودعم القضية الفلسطينية، كما تصدر خطابات مفتوحة موجهة للأمم المتحدة وبعض المنظمات والحكومات، إضافة إلى نشر المؤسسات التابعة لها كتبًا بعدة لغات عن حقيقة اليهودية والصهيونية، والمؤسسات التعليمية المختلفة والموجودة في عدة مدن.
فيديو من مظاهرة للحركة خلال كلمة رئيس الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في الأمم المتحدة عام 2015:
وتعتبر “ناطوري كارتا”، السلطة الفلسطينية حاكمًا لجميع سكان أرض فلسطين، وبدأت العلاقات بين الحركة والسلطة الفلسطينية في ثمانينات القرن الماضي، وتحديدًا بين مسؤول الشؤون الخارجية للحركة الحاخام، موشيه هيرش والرئيس الفلسطيني الراحل، ياسر عرفات، خلال فترة نفيه إلى تونس.
وادّعت مصادر إسرائيلية، أن الرئيس الفلسطيني الراحل عين موشيه هيرش خلال عام 1993 مستشارًا لشؤون اليهود، ولكن لم تصرح الحركة بذلك، ولكن أشارت إلى زيارة واحدة رسمية من الحاخام لمقر الرئيس ياسر عرفات، في رام الله عام 2001.
وشارك 4 أعضاء من حركة “ناطوري كارتا” في قافلة “تحيا فلسطين” الثانية في منتصف عام 2009، وقابلوا القيادي بحركة حماس، إسماعيل هنية، والذي صرح عقب الاجتماع بأن حركة حماس ليست ضد اليهود ولكن ضد الاحتلال الإسرائيلي القائم على الصهيونية، مثنيًا على حركة “ناطوري كارتا” لمعارضتهم الاحتلال.
وخلال الأزمة الأخيرة التي تعيشها فلسطين بعد قرار الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، بنقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس واعتبار المدينة المقدسة عاصمة لدولة الاحتلال الإسرائيلي، أرسلت الحركة خطابًا إلى الرئيس الفلسطيني، محمود عباس أبو مازن، مؤكدة على دعمها للموقف الفلسطيني ومساندتها للقضية بأكملها، ورفضها للقرار الأمريكي.
وتحدثت وسائل الإعلام الإسرائيلية عن تهديد أعضاء الحركة بمغادرة الأراضي الفلسطينية المحتلة، احتجاجًا على القرار الأمريكي، وذكر عضو الحركة، يوئيل كراوس، قائلاً: “بمجرد أن نشعر أنه من المستحيل أن نعيش هنا كيهود متدينين، يجب أن نفر من هنا، ولطالما قال اليهود المتدينون إن الوضع لم يصل إلى نقطة الانهيار، لكن إذا وصلنا إلى إعلان القدس عاصمة لإسرائيل، نكون قد وصلنا إلى هذه النقطة، وليس هناك ما هو أسوأ من ذلك”، مضيفًا: “هذا ليس إعلانًا فحسب، بل سيكون له الكثير من التداعيات”.
“انتهاكات إسرائيل”
عانت حركة “ناطوري كارتا” من انتهاكات مستمرة من قبل سلطات وجنود الاحتلال الإسرائيلي عبر تاريخها، لكن الاعتداءات الصهيونية تزايدت خلال السنوات القليلة الماضية، حيث انتهكت سلطات الاحتلال حقوق اليهود المتدينين الذين يرفضون الخدمة في جيشها، وأصدرت في مارس 2014 قانونا يلزم اليهود الأرثوذكس لأداء الخدمة العسكرية، وإجبارهم على انتهاك المعتقدات الدينية.
ومع إعلان غالبية الحركة رفضها، استخدمت الحكومة الإسرائيلية وحشيتها المعتادة ضدهم، حيث تم اعتقال العشرات من الشباب المناهض للصهيونية لرفضه الانضمام إلى الجيش، واقتحام منازلهم والتعرض لأسرهم في منتصف الليل، وإلقاء الشباب في السجون لشهور وسنوات.
ويتعرض أتباع الطائفة المتدنية لانتهاكات عدة من قبل قوات الاحتلال، فبخلاف حملات الاعتقال التي تقودها الشرطة الإسرائيلية، يواجه أبناء الحركة أحكامًا بالسجن لسنوات عدة، فضلاً عن التعذيب وانتهاك إنسانيتهم داخل مقرات الحبس الرسمية، علاوة على نفي العديد منهم إلى دول أخرى.
وعن المضايقات التي يتعرض لها أتباع “ناطوري كارتا”، قال الحاخام دوفيد فيلدمان، في تصريحات لوسائل الإعلام خلال مظاهرة أمام القنصلية الإسرائيلية بنيويورك: “لدينا مجتمعات في الأراضي المقدسة يعتدي الإسرائيليون عليهم، ويقومون بمضايقتهم بطريقة رهيبة، والعالم لا يعرفون هذا لأنه لم يعرض”، مضيفًا: “هناك قصص كثيرة؛ فحدث لكثير من زملائنا بعد القبض عليه من الصهاينة أن وضعوه في زنزانة لمدة 48 بدون طعام أو شراب، ووضعت آخر في زنزانة لمدة 24 في الظلام، من أجل كسر مبادئهم”.
ورغم كل محاولات المضايقات والانتهاكات التي تمارس ضد الحركة وعدم ارتفاع مستوى حياتهم داخل القدس، إلا أنهم ما زالوا محافظين على عهدهم بالقضية الفلسطينية منذ احتلال الأرض المقدس عام 1948، ولم يتراجعوا مرة عن موقفهم، فضلاً عن أنهم لم يقوموا بالحصول على خدمات أو مخصصات من سلطة الاحتلال.
الرابط التالي يحتوي على بعض الصورة من وقفات قديمة للحركة في فترة الثمانينيات أمام الأمم المتحدة:
http://www.nkusa.org/activities/demonstrations/unitednations.cfm