بعد 73 عامًا على إنشاء جامعة الدول العربية، كأحد أقدم وأعرق المنظمات الإقليمية والدولية، يبدو أن “الحلم العربي” الذي ناضل من أجله العديد من أبناء لغة “الضاد” لا جدوى منه، فالمنظمة الإقليمية الأقدم تبدو “عاجزة” أمام التدخل في القضايا العربية الكبيرة الموجودة في المنطقة، وبدون تأثير على مجريات الأحداث التي تشهدها الساحة الإقليمية والدولية رغم تاريخها الطويل.
تعيش الجامعة العربية خلال الوقت الراهن أضعف لحظاتها، حيث تواجه بأنها أداة في أيدي الأنظمة الموجودة في المنطقة من أجل إصدار إدانات أو قرارات تهم الأنظمة الأقوى في المنطقة.
بدأ حلم إنشاء جامعة الدول العربية يراود القادة العرب والشعوب أيضًا قبل انطلاق الحرب العالمية الثانية، إلا أنها تحولت إلى واقع ملموس عقب انتهاء الحرب، وتحديدًا بعد الدعوة التي أطلقها وزير خارجية بريطانيا، أنتوني إيدن، حين قال في خطاب له في 29 مايو 1941: “إن العالم العربي قد خطا خطوات عظيمة منذ التسوية التي تمت عقب الحرب العالمية الماضية، ويرجو كثير من مفكري العرب للشعوب العربية درجة من درجات الوحدة أكبر مما تتمتع به الآن”.
تصريحات إيدن كانت بسبب عدم رغبة فرنسا وبريطانيا في زيادة الاضطرابات داخل مستعمراتها في البلاد العربية، فوعدت قادة الدول العربية بالاستقلال عقب انتهاء الحرب، وأعربت عن تشجيعها لأي اتجاه نحو الوحدة العربية، وألقى رئيس الوزراء المصري آنذاك مصطفى النحاس خطابًا في مجلس الشيوخ المصري عام 1942 أعلن فيه سعي مصر إلى عقد مؤتمر للقادة العرب لبحث هذا الأمر، وفي الأردن جاءت تصريحات الأمير عبد الله متوافقة مع ما دعا إليه النحاس باشا.
وبعد عامين أطلق إيدن تصريحات أخرى في مجلس العموم البريطاني في 24 فبراير 1943، قائلًا: “إن الحكومة البريطانية تنظر بعين (العطف) إلى كل حركة بين العرب ترمي إلى تحقيق وحدتهم الاقتصادية والثقافية والسياسية”، ورغم التصريحات التي أطلقها إيدن إلا أن الأمور تغيرت كثيرًا عقب انتهاء الحرب وانتصار الحلفاء، حيث بدا أن الاستعمار البريطاني كمن يطلق تصريحات فقط من أجل “رأب الصدع” وعدم توتر الأوضاع أكثر في ظل الحرب الكبرى التي كان يخوضها، ولكن الرأي العربي كان قد تهيأ فعليا للفكرة، وبدأ يضغط في هذا الاتجاه.
ودعا رئيس الوزراء المصري حينها مصطفى النحاس بعد حوالي عام كلا من رئيس الوزراء السوري (جميل مردم) ورئيس الكتلة الوطنية اللبنانية (بشارة الخورى) للتباحث معهما في القاهرة حول فكرة “إقامة جامعة عربية لتوثيق (العرى) بين البلدان العربية المنضمة لها، لتبدأ الإرهاصات الأولى لإنشاء “المنظمة”.
كما شهدت جولات مفاوضات إنشاء الجامعة محاولات لوضع الأطر الرئيسية التي ستعمل على أساسها، فبعد ثماني جلسات من النقاش استبعد القادة العرب فكرة الحكومة المركزية ومشروعي سوريا الكبرى والهلال الخصيب وانحصر النقاش في تكوين اتحاد كونفدرالي لا تنفذ قراراته إلا الدول التي توافق عليه.
وبالفعل تم الإعلان عن تأسيس المنظمة العربية في 22 مارس 1945، لتعد أقدم منظمة دولية بعد الحرب العالمية الثانية، وضمت سبع دول عربية كانت تتمتع بالاستقلال السياسي حينذاك، هي: “مصر وسوريا والمملكة العربية السعودية وشرق الأردن ولبنان والعراق واليمن”، وكان مقرها القاهرة.
ميثاق الجامعة
صاغت الوفود العربية التي اجتمعت في الإسكندرية عام 1944 بنودًا عامة كانت نواة أولى لميثاق جامعة الدول العربية، أكدوا فيها “احترام استقلال وسيادة كل دولة والاعتراف بحدودها القائمة والاعتراف لكل دولة بحق إبرام المعاهدات والاتفاقات بشرط ألا تتعارض مع أحكام الجامعة وميثاقها”.
وحرصت الدول العربية خلال تحديد مبادئ المنظمة الجديدة على التأكيد على أنه ليس من اللازم اتباع سياسية خارجية موحدة، وعدم اللجوء إلى القوة في فض المنازعات بين الدول الأعضاء، وفي حالة الخلاف يفض بالوساطة بناءً على طلب المتخاصمين.
وكانت مهمة مجلس الجامعة مراعاة تنفيذ ما تبرمه الدول الأعضاء فيما بينها من اتفاقيات وعقد اجتماعات دورية لتوثيق الصلات بينها والتنسيق بين خططها السياسية تحقيقات للتعاون فيما بينها وصيانة استقلالها وسيادتها من كل اعتداء بالوسائل السياسية الممكنة، والنظر بصفة عامة في شؤون البلاد العربية.
وألزمت الوثيقة التي تألفت من ديباجة و20 مادة وثلاثة ملاحق، الدول الأعضاء بقرارات مجلس الجامعة لمن يقبلها فيما عدا الأحوال التي يقع فيها خلاف بين دولتين من أعضاء الجامعة ويلجأ الطرفان إلى المجلس لفض النزاع بينهما. ففي هذه الأحوال تكون قرارات المجلس ملزمة ونافذة.
اللا موقف
مواقف جامعة الدول العربية على مدار 73 عامًا من تأسيسها، أثبتت أن المنظمة الأقليمية ليست إلا منتدى يجتمع فيه الأعضاء كل عام، في إطار ما يسمى “اجتماع القمة العربية”، فلم يشهد لها المواطن العربي في أي دولة تعاني من أزمة سياسية أو دبلوماسية موقفًا واحدًا لخدمة أبناء الرقعة الجغرافية التي تأسست من أجلهم، أو حتى الدول التي بحاجة إلى مساندة لدفع اعتداء.
فالمشهد العام لأداء الجامعة العربية، يشير إلى العجز عن القيام بأي دور فعال في الأزمات التي تلحق بالدول العربية، فمع “العدوان الثلاثي” عام 1956، بدا أن النشاط العسكري لجامعة الدول العربية “مشلول”، وخلال فترة ما قبل حرب 1973 لم يكن للجامعة العربية، دور في مجال التخطيط للعمليات الحربية وقيادتها، لافتقارها إلى الإدارة الرئيسية لهذا الواجب ـالقيادة العربية المشتركة- وتولت هذه المهمة القيادة المشتركة، التي أنشئت بين مصر وسوريا، ليقتصر الأمر على الدعوة لاجتماعات فقط.
وخلال سنوات الاحتلال الإسرائيلي السبعين للأراضي الفلسطينية لم يكن للجامعة العربية دور حقيقي سوى بيانات الشجب والندب والدعوات المستمرة للمجتمع الدولي من أجل الدفاع عن حقوق الفلسطينين، أو التأثير على الدول وإلزامها بالموافقة على القرارات التي تصدرها الأغلبية خلال الاجتماعات المستمرة.
ويبدو المشهد أكثر وضوحًا مع اندلاع حرب أهلية في لبنان أبريل عام 1975، حيث أعلنت الجامعة بعد أكثر من عام وتحديدًا في يونيو 1976 عن عقد اجتماع طارئ، لاتخاذ قرار تشكيل قوات أمن عربية رمزية تحت إشراف الأمين العام لجامعة الدول العربية، للحفاظ على الأمن والاستقرار في لبنان، على أن يتم تحريك هذه القوات لمباشرة عملها، “وتنتهي مهمة قوات الأمن العربية بناء على طلب رئيس الجمهورية اللبنانية المنتخب”.
وكان تشكيل هذه القوات “رمزيا” في ظل قرار آخر، اتخذه المجلس، وهو “طلب جميع الأطراف وقف القتال فورًا، وتثبيت هذا الوقف، ويعني هذا أن المجلس مفترضًا سلفًا قبول جميع الأطراف اللبنانية بوقف القتال، ولذلك جعل القوات (رمزية)، ولم يكلفها مهمة الرد بالسلاح على الطرف الذي يخرق وقف القتال.
ووجه الأمين العام للجامعة في 30 أكتوبر 1976، رسائل إلى الحكومات المشتركة في قوات الردع، طالبًا الإسراع في إرسال وحداتها. غير أن الوضع الأمني العام في لبنان لم يهدأ، بل ازداد اشتعالًا وانهيارًا، وفي مواجهة هذا الوضع لم تنجح القوات بعد تشكيلها في وقف إطلاق النيران والحفاظ على الأمن والاستقرار في لبنان.
طرح الغزو العراقي للكويت في 2 أغسطس 1990، وإلغاء كيانها، كدولة مستقلة ذات سيادة، تحديًا غير مسبوق، أمام المجتمع العربي والدولي، لكن موقف جامعة الدول العربية ظهر “مبهمًا” خصوصًا في ظل تأييد بعض الدول للغزو وتحديدًا الأردن واليمن فيما تحفظت الجزائر وتونس ومنظمة التحرير الفلسطينية وموريتانيا والسودان وليبيا الإعلان عن موقفها، ليبدو أن وثيقة تأسيس المنظمة الإقليمية بحاجة إلى تعديل من أجل أن يكون لها موقف حاسم ورادع لأي نظام يخرج عن الشريعة بالنسبة للجيران.
ضبابية مستمرة
واستمر المشهد “ضبابيا” بالنسبة لسبب وجود كيان الجامعة العربية مع الغزو الأمريكي للعراق، وأيضًا مع اندلاع ثورات الربيع العربي في “تونس ومصر”، حيث لم يكن لمجلس الجامعة مواقف واضح من الاحتجاجات الشعبية، خاصةً وأن النظام الدبلوماسي العربي حافظ على نهجه التقليدي المعتاد المحكوم بالاعتبارات القانونية السياسية التي نص عليها ميثاق تأسيس الجامعة العربية.
وواجهت الجامعة بخصوص موقفها بشأن الأزمة الليبية اتهامات بأنها كانت السبب المباشر للتدخل الأجنبي، بعد إعلانها تعليق عضوية نظام الرئيس الليبي الأسبق، معمر القذافي ومطالبة المجتمع الدولي بفرض الحظر الجوي على طرابلس، والتدخل العسكري ضد نظام القذافي، والذي جاء مبنيًا على الاضطراب السياسي بالنسبة لبعض الدول العربية مع “القذافي”.
وفي الأزمة السورية لعبت جامعة الدول العربية دورًا يمكن وصفه بـ”بروباجندا” منذ عام 2011، بسبب أن المجتمع الدولي أراد أن تكون جامعة الدول العربية فعّالة، بطريقة أو بأخرى، فأجّل تدخّله ليفسح لها المجال، إلا أن هذا التدخل لم يكن بالمستوى المطلوب لدفع الدم عن الأرض السورية.
وأعلنت جامعة الدول العربية عن فشلها في التعامل مع الأزمة السورية، بعد مطالبتها المجتمع الدولي بالتحرك من أجل حل الأزمة، ورغم أن الجامعة اجتمعت على مدار السنوات السبع الماضية أكثر من مرة، إلا أن اجتماعاتها خرجت بقرارات “شكلية”، أو تشوبها المناورة السياسية لأنظمة عربية لم تطلها رياح الربيع العربي؛ من أجل جعل هذه الدماء درسًا لشعوبها التي كانت تفكر بتغيير سلمي للسلطة، والنهضة نحو التقدم الديمقراطي للمجتمع الإنساني.
واتخذت جامعة الدول العربية موقفًا غريبًا بشأن الأزمة السورية، فمع إعلانها بعدم شرعية النظام السوري بقيادة بشار الأسد، ومنحها الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية صفة الممثل الشرعي والوحيد للشعب السوري إلا أنها علقت الموقف بشأن سوريا بشكل “مثير للضحك”، حيث أبقت مقعد سوريا في الجامعة “فارغًا” من التمثيل.
ولم تتدخل جامعة الدول العربية في الأزمة اليمنية على الإطلاق، وتركت المجال لمجلس التعاون الخليجي لعلاج الأزمة وتفسير ذلك يكمن في رؤية دول مجلس التعاون الخليجي وعلى رأسها “السعودية” للأزمة اليمنية بوصفها شأنًا خليجيًا لا ينبغي التدخل فيه عربيًا من بوابة الجامعة.
في الأزمة الخليجية القطرية التزمت جامعة الدول العربية “الحياد”، وأعلن الأمين العام، أحمد أبو الغيط، أن موقف الجامعة غير مؤيد أو معارض لأطراف الأزمة الدبلوماسية في الخليج، مضيفًا أن قطر لا تزال عضوًا في الجامعة العربية ولها مسؤولياتها وواجباتها وحقوقها كاملة، مؤكدًا دعم الجامعة لجهود أمير الكويت، الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح، من أجل التوسط بين قطر والرباعية المقاطعة، أي (السعودية والإمارات والبحرين ومصر).
وأظهرت تصريحات أبو الغيط، أن جامعة الدول العربية ليست كيانًا يمكن الاعتماد عليه من أجل إيجاد حلول ومواقف قوية بالنسبة لأي قضية في المنطقة، وأنها لا يمكن أن تلعب دورًا محوريًا من أجل حل أزمة بين الأشقاء أو تكون قراراتها ملزمة للدول، مما يؤكد أن ميثاق الجامعة بحاجة إلى ثورة إصلاحية يجعل المنظمة الإقليمية صاحبة دور فعال، لا أداة في يد الأنظمة الأقوى في المنطقة.