إنَّ التصور الذي رسمته الدراسات ما بعد الكولونيالية للجسد في ضوء المنظور الاستعماري والتمثيل الكولونيالي واشتغالاتها في صياغة البناء النفسي والاجتماعي والسياسي للأجساد في العالم الثالث، أو العالم الذي يبعد عن المركز، مركز الحضارة الإنسانية كما رسمتها القوى المتباينة والمتفاوتة بين (الشرق الهامش/ والغرب المركز)، فان هذا البعد التمثيلي للجسد الشرقي أتى من خلال ما وضع للشرق من خارطة فيها الثنائيات المتقابلة مع الغرب في مجال البناء الثقافي، وهذا ما جعل مفهوم الجسد يأخذ وجوده المادي والمعنوي من وجود المكان الذي يمثله والزمان الذي يتغلغل في داخله الأفعال التي تحيل المتلقي/القارئ للفكر الغربي في هذه التباينات، التي وجدت في الذهنية الغربية ذات المخيال البعيد عن الواقع الفعلي، والحضاري للشرق وأبنائه، لذلك فقد استندت هذه التصورات على مفهوم التمثيل الذي تكون من “إعادة بناء الشرق بعيداً عن واقعه ووفق مسلمات ذهنية غريبة عن ذلك الواقع يراد لها أن تحتل موقع الحقيقة الواقعية مستبعدة الواقع التاريخي والنفسي للأمم الشرقية ومستبدلة إياه بصورة خيالية ابتكرتها مخيلة الإنسان الغربي ورسمتها ريشة قلمه معيداً بذلك ترتيب الوقائع والأحداث بالطريقة التي ترضي غروره وإحساسه بالفوقية، وبتعبير آخر إنها أسطرة للشرق من قبل الذهن الغربي، الأسطرة التي جعلت من كل شيء في الشرق وشعوبه يقع تحت الرسم الكولونيالي من حيث الأفعال والأقوال والسلوكيات وتصور الثقافة الشرقية الغارقة بالخرافات والبلادة والكسل، الذي لم ينتج سوى دكتاتوريات على مر التاريخ الإنساني ولذلك كان لا بد من أن يعاد رسم صورة الشرق وإعادة بناء سلوكيات أبنائه وصناعة أجسادهم بطريقة جديدة تتلاءم مع الفكر الغربي وتطلعاته في دمج هذه الأجساد بالحضارة العالمية، واعتماد على (الثبات) في إنتاج هذه الصور الكولونيالية في صناعة لشرق الجديد؛ إذ يمثل اعتماد الخطاب الكولونيالي على مفهوم (الثبات) في البناء الأيديولوجي للآخرية سمة هامة من سماته. والثبات بوصفه دالول الاختلاف الثقافي / التاريخي / العرقي في خطاب الكولونيالية هو نمط متناقض من أنماط التمثيل: فهو يتضمن معنى الصلابة والنظام الذي لا يتغير، كما يتضمن أيضاً معنى اختلال النظام والتفسخ والتكرار الشيطاني. ومثل الثبات، فإن الصورة النمطية التي تمثل استراتيجيته الخطابية الكبرى في شكل من المعرفة وتعيين الهوية يترجح بين ما هو (في مكانه) على الدوام معروفٌ مسبقاً، وبين تكراره على نحو قلق، هذا القلق الذي جعل من الرد قابلا للتطبيق على الثبات في تلك الصور النمطية للأجساد الشرقية المغايرة للبناء المفاهيمي في المخيال الغربي.
إنَّ المخيال الغربي بمفاهيمه الكولونيالية عمل على بناء الأجساد الشرقية وفق عملية تهجين وترويض لها حتى تتماشى مع البنى الفكرية الجديدة التي يجب أن يسير عليها العالم وثقافته المتعالية، والتي ترجع في تصوراتها ومعاييرها ومقاييس للذاكرة القديمة المتجددة بأفعال التحيز الكولونيالي التي ملأت على وفقها صورا نمطية تستعرض الاختلاف الثقافي والإنساني بين الطرفين، فالتهجين يأخذ مداه من خلال سلب الذاكرة التي قامت عليها حضارات الشعوب وثقافاتها بأخرى قائمة على بناء شخصية المستعمَر بأسلوب يجعلها شخصية تعاني من التهجين والغموض والتذبذب والخوف والطاعة، أي انتاج وإعادة وإنتاج المستعمر (التكرار حسب لغة هومي بابا)، إذن فالتهميش جزء لا يتجزأ من هيكل الاستعمار ذاك علماً إنه بافتراض غيابه ورحيله، فإن هذا المستعمر وهذا الهامش سيصبح بمثابة مكون فاعل في بناء واقعه الاجتماعي الذي صيغ بشكل جديد من قبل القوة الثقافية ذات الهيمنة العالمية التي لا تسمح بالعودة إلى التراث والأثر الثقافي المحلي، بل يكون هذا الإرث المحلي من ثقافة وسلوكيات تحدد هوية الانتماء الى الأصل بعيداً عن واقعه بسبب التهجين والاندماج والانزياح الثقافي، فهو ثقافة جديدة تمتلك السيطرة والوسائل الحديثة القادرة والقاهرة لمفهوم العودة الى الأصل، لذلك فإن على أبناء الحضارة الأصلانية العمل والبحث بأساليب جديدة تقوم على تقويض المفاهيم الاستعمارية وبنياتها الكولونيالية، هذه البنيات التي ركزت على القطب الواحد في الحضارة وحولت العالم الى قيادة وتبعية، وهذه التبعية تجعل من الأجساد التابعة دائماً تقع في مراتب أدنى، ومهما حاولت النهوض أو العمل على تعديل المراتب فستواجه بمعوقات أكبر في التعديل الثقافي على المستوى العالم، وذلك لأن المركزية أحادية السياسة والثقافة بالنسبة للمشروع الكولونيالي الذي يقوم بطرق معقدة على تلك الافتراضات، وقد أسفر ذلك في المقام الأول عن إنتاج ممارسات الخضوع الثقافية التي اعتبرها أحد نقاد ما بعد الكولونيالية (انكماشاً ثقافياً) وابتعاداً عن قلب المركز وممارساته الإقصائية للآخر ثقافياً حسب الممارسات التمييزية القائمة على عدة أمور منها: الثنائيات بين الشرق والغرب، أي بين الجسد الشرقي ذات الألوان الأقل مستوى من الجسد الغربي ذي اللون الأبيض المتميز بقوته العقلية والجسدية عن الآخر الشرقي، وحتى إذا أردنا أن نراجع في الذاكرة الغربية وثقافتها وآدابها نجد أمثلة عديدة حول التمايز اللوني والفكري والفلسفي وحتى الديني وكما في التصنيف الفلسفي الذي يجعل من الشرق وخصوصاً الإسلامي هو مجرد ناقل للفلسفة الإغريقية وليس ذا عقل فلسفي قادر على إنتاج الفلسفة والفكر، وفي التصنيف الديني نجد أن الحروب الصليبية قامت على التمييز الديني بين الشرق الإسلامي الذي عد الشرق كافرا ومغتصبا وقاتلا للحجاج في بيت المقدس، وفي التصنيف الأدبي نجد في مسرحيات (شكسبير) ومنها مسرحية (عطيل) ذلك التمييز اللوني بين عطيل العربي المغربي وصفاته التي لا تتلاءم مع أخلاقيات العالم الغربي والتي أدت به في النهاية للوقوع في الغيرة، وتعامل بوحشية مع الزوجة البريئة ذات الأخلاقيات الغربية.
وكذلك فان الممارسات الإقصائية قائمة على استخدام القوة العسكرية في السيطرة والتغيير الديمغرافي وبناء الخارطة السياسية ورسم الحدود الجديدة من أجل التجزئة وحتى تسهل عملية السيطرة، فكلما كانت الشعوب متفرقة وضعيفة أسهمت في الخضوع للمستعمر الذي يبادر لفرض ثقافته وأخلاقياته على الشعوب؛ ومنها إعادة رسم سلوكياتهم وأفعالهم الجديدة التي تتلاءم مع ثقافته المرسومة سلفاً في مجال الإخضاع وهذه السياسة في الإخضاع العسكري هي سياسة قديم استخدمها أسلافهم الرومان في إخضاع الشعوب الأخرى وكما ينقل ذلك (مونتسكيو) في كتابه (تأملات في تاريخ الرومان)؛ إذ يقول: طريقتهم نوع من الغزو التدريجي بعد فوزهم على عدو يكتفون بإضعافه يملون عليه شروطاً توهنه من دون أن يشعر بالأمر وأن انتعش عادوا وأهانوه أهانة أكبر حتى يصبح خانعاً خاضعاً وهو لا يعلم متى حدث ذلك بالضبط وهناك عدة طرائق يحاول المستعمر أن يخضع فيها الشعوب التي تقع تحت سيطرته ومنها المعاهدات، بحجة الحماية والسيطرة الاقتصادية من خلال معاهدات طويلة الأمد يخسر من خلالها الموطن الأصلي العديد من مقدراته لصالح المستعمر وسياسات ثقافية، لتحويل الثقافة المحلية عن إطارها الفعلي وربطها بثقافات عالمية أكثر تطوراً وأكثر انتشاراً، وكذلك العمل على إبعاده عن مقومات الحضارة الأصلانية ومنها اللغة والدين وغيرها، وكل هذه الطرائق تسهم في تحقيق الأهداف الحقيقية، وكل هذه الطرائق تنعكس سلباً على سلوكيات وأفعال الشعوب التي تقع تحت الاستعمار والسيطرة والخضوع لها.