بعد مرور أكثر من 7 سنوات على انطلاق ثورات الربيع العربي، وما تبعها من موجات متشددة، ضربت المنطقة العربية التي يتواجد فيها الإسلام كأكثرية من حيث التعداد السكاني، وما بين حروب هنا وهجمات إرهابية هناك على المسيحيين ، وجدت الطائفة المسيحية نفسها أمام مفترق طرق، تهدد وجودها وأمنها واستقرارها في المنطقة فضلًا عن حقهم في حرية العبادة الدينية، ما جعلهم يلجأون إلى هجرة أراضيهم ومنازلهم من أجل الفرار بحياتهم من بؤر الدمار والإرهاب وساحات الحروب الطاحنة.
وتعود النشأة الأصلية للمسيحيين إلى منطقة الشرق الأوسط، حيث مهد السيد المسيح، في “بيت لحم” جنوب الضفة الغربية بالأراضي الفلسطينية المحتلة، حيث اعتنق قوم هذه المنطقة الديانة المسيحية، لذلك فإن المسيحيين في المنطقة العربية يمثلون حاليًا خليطًا دينيًا وقوميًا، ويعتبرون امتدادًا عرقيًا للسكان الأصليين.
من جهتها تستعرض “مواطن” أهم تلك الأقليات في المنطقة العربية من ناحية العدد وهل يواجهون عمليات اضطهاد وتغريب واضطهاد عرقي أم لا؟
لا توجد إحصائية دقيقة توضح الأعداد الحقيقية للمسيحيين في العالم العربي، إلا أن بعض التقديرات تشير إلى أن المسيحيين العرب يترواح عددهم ما بين 12 و16 مليونًا، ففي دراسة نشرتها “جمعية الرعاية الكاثوليكية في الشرق الأدنى” (CNEWA) التابعة للكرسي الرسولي، بيّنت أن أعداد المسيحيين في الشرق الأوسط إجمالًا لسنة 2017، بلغت تقريبًا 14,525,880 شخص، من بينهم حوالي 13,275,880 شخص من العرب المسيحيين موزعين على النحو التالي:
مصر 9 ملايين و400 ألف، العراق 250 ألفًا، القدس 15,580 ألف، الضفة الغربية 59 ألفًا، قطاع غزة 1300، الأردن 350 ألفًا، سوريا مليون و200 ألف، لبنان مليونان، وعليه يشكل المسيحيون اليوم نسبة خمسة بالمئة من عدد السكان الكلي في منطقة الشرق الأوسط، بينما كانوا يشكلون نسبة 20 بالمئة في بداية القرن الماضي.
ومن أشهر الطوائف المسيحية: الكاثوليك والأرثوذكس والبروتستانت، وتتشعب عن كل طائفة مجموعة من الكنائس أو البطريركيات، ويكمن الخلاف بينهم في مجرد الطقوس التي ترتبط بصورة أساسية بثقافات وحضارات الشعوب، أكثر من كونها تتعلق بالعقائد.
وتحتل مصر المركز الأولى من حيث عدد المسيحيين في العالم العربي، في حين يقع لبنان في المرتبة الأولى من حيث نسبة المسيحيين في الدولة، ويتواجد المسيحيون في كل الدول العربية بنسب مختلفة، فقد ساهموا خلال عصر النهضة في نهايات القرن الـ 19، بشكل فاعل في كل مجالات النهضة بالدول العربية من أدب وصحافة وصناعة واقتصاد وغيرها.
التطرف والتطهير العرقي
كان لأحداث الربيع العربي أثر بالغ على أوضاع المسيحيين في المنطقة العربية، فإذا كان المسيحيون يتمتعون نوعًا ما بالأمن سواء على المستوى الشخصي أو العقائدي قبل الربيع العربي، إلا أنهم فقدوا حتى هذه الميزة بعد الثورات نتيجة لصعود تيارات متطرفة شنت هجمات فكرية بصورة فجة ضد المسيحيين، ما جعلهم يشعرون باضطهاد واسع، وتُرجمت هذه الأفكار إلى واقع فعلي من خلال عمليات إرهابية ممنهجة، أدت إلى ما يمكن تسميته بتطهير عرقي غير مسبوق شهدته هذه المنطقة التي يعيش فيها المسيحيون عبر قرون من الزمان بقومية عربية، وهو ما اضطرهم للجوء للهجرة إلى أماكن أخرى أكثر أمنًا.
وتشير تقديرات بعض المنظمات المعنية بالهجرة- نظرًا لغياب إحصائيات رسمية في هذا الصدد- إلى أن هناك تراجعًا ملحوظًا في أعداد المسيحيين في دول الشرق العربي كالعراق وسوريا ومصر، ويعود ذلك لعدة أسباب البعض منها اقتصادية واجتماعية والغالبية منها للتهجير القسري من قبل منظمات وجماعات وميليشيات متطرفة، ولعل أبرز مظاهر هذا الاضطهاد هو قتل المسيحيين الأبرياء من المواطنين ورجال الكنيسة، وعمليات تفجير للكنائس.
مسيحيو مصر.. الكتلة الأكبر بالمنطقة
تضم مصر أكبر كتلة عددية من المسيحيين في الشرق الأوسط كافة، إذ يشكلون حوالي 10% من إجمالي السكان، البالغ عددهم أكثر من أكثر من 100 مليون نسمة، وتعتبر الطائفة الأرثوذكسية هي الأكبر بين الأقباط المصريين الذين بينهم أيضًا الكاثوليك.
ويتمتع المجتمع المصري بنسيج مترابط يجمع المسلمين والمسيحيين بصورة معقدة للغاية يصعب تفكيكها نظرًا للتداخل والترابط بينهما على المستوى العملي والمعيشي، وتتسم مصر دائمًا بشعار الوحدة الوطنية بين جميع أبنائها سواء المسلمين أو المسيحيين، فلا يتواجد مثلًا أحياء أو مناطق يقطنها أقباط فقط، بل على العكس من ذلك، ومثلهم مثل المسلمين نجد منهم العمال العاديين الفقراء وهناك كذلك الأثرياء ورجال الأعمال.
وطالما كان يشتكي المسيحيون من ضعف تمثيلهم في الحكومات المتعاقبة وكذلك في البرلمان، إلى جانب شكواهم من استبعادهم من المناصب القيادية في القضاء والشرطة والجيش، إلا أن بابا الأقباط تواضروس الثاني برر ذلك- في تصريحات صحفية سابقة- قائلًا إن تمثيل الأقباط في الوزارات أمر يحكمه الكفاءة وحدها دون غيرها، نافيًا أن يكون ذلك عن قصد أو تم بصورة طائفية.
كما أشاد البابا تواضروس الثاني بقانون تنظيم وبناء الكنائس الجديد الذي أُقر قبل نحو عامين، حيث سمح القانون بمنح تراخيص لبناء الكنائس، إلى جانب تقنين أوضاع أي كنيسة ثبت إقامة الشعائر بها لمدة 3 سنوات قبل صدوره.
الإرهاب الأسود يستهدف مسيحيي مصر
وشهدت مصر العديد من العمليات الإرهابية التي استهدفت المسيحيين بعينهم، والمقصود هنا جرائم تستهدف الكنائس ورجال الدين المسيحي، فكان الإرهاب يقصد الكنائس، لا سيما خلال العقود الثلاثة الأخيرة، بالإضافة إلى بعض المناوشات والاشتباكات التي وقعت بين مسلمين ومسيحيين في مدن مختلفة، وبالرغم مما كان يشعر به المسيحيون من اضطهاد في السابق، لا سيما على مستوى الإرهاب، أصبح اليوم لا يفرق بين مسلم ومسيحي في مصر، وهو ما ظهر جليًا في تفجير الكنائس والمساجد على السواء.
ونستعرض فيما يلي أبرز الهجمات الإرهابية التي استهدفت المسيحيين خلال العقد الأخير:
– يناير 2011، قبل أيام من انطلاق ثورة 25 يناير، وقع انفجار أمام كنيسة القديسين في مدينة الإسكندرية، خلال خروج المصلين وقت احتفالهم بالعام الميلادي الجديد، ما أسفر عن مقتل ما لا يقل عن 23 شخصًا.
– أغسطس 2014، وبعد فض اعتصام أنصار الرئيس المعزول محمد مرسي، قامت مجموعات من الأشخاص بعمليات تخريبية ضد عشرات الكنائس والمؤسسات الدينية المسيحية في عدة محافظات من صعيد مصر.
– فبراير 2015، شهد واحدة من أروع العمليات الإرهابية التي شهدتها مصر عبر التاريخ، وأكثرها قسوة، حيث بث تنظيم “داعش” الإرهابي تسجيلًا مصورًا يظهر إعدام 21 مسيحيًا مصريًا نحرًا على أحد الشواطئ، كانوا يعملون في ليبيا.
– ديسمبر 2016، فجر انتحاري تابع لتنظيم داعش الإرهابي نفسه في الكنيسة البطرسية الملحقة بكاتدرائية الأرثوذكس في القاهرة موقعًا 29 قتيلًا وعشرات المصابين.
– فبراير 2017 أعلن تنظيم “داعش” في فيديو بثه أنه يستهدف المسيحيين المصريين في سيناء، ووزع التنظيم منشورات تضمنت قوائم بمسيحيين مستهدفين ما لم يغادروا المدينة، ونتج عن ذلك فرار نحو 145 أسرة مسيحية من شمال سيناء إلى محافظات أخرى بعضها ساحلية كالإسماعيلية والسويس.
– أبريل 2017، يوم أحد السعف، فجر انتحاري آخر نفسه في كنيسة مار جرجس بمدينة طنطا بدلتا النيل، خلف 27 قتيلًا و78 مصابًا.
وبعدها بساعات فجر انتحاري نفسه أمام الكاتدرائية المرقسية في الإسكندرية، حيث كان البابا تواضروس الثاني يرأس الصلوات في الكاتدرائية، وأسفر الهجوم عن 16 قتيلًا بينهم أفراد من قوة الشرطة، كما أصيب 41 شخصًا نتيجة الهجوم.
مسيحيو لبنان.. الأكثر تجانسًا
ويعتبر لبنان من أفضل النماذج للتعايش السلمي المشترك بين طوائفه المتعددة، خاصةً في ظل مشاعر الود والاختلاط التي تجمع المسلمين والمسيحيين، ويمكن الاعتراف بأن أوضاع المسيحيين في لبنان هي الأفضل بين مسيحيي الشرق كافة، الذين لجأوا للهجرة من بلدانهم بعد انتشار موجات التشدد والعنف وصعود الحركات المتطرفة لا سيما في مصر وسوريا والعراق، بحثًا عن ملاذات آمنة.
ويتجنب المسؤولون في لبنان الحديث عن إحصائيات سكانية توضح أعداد المسيحيين الحقيقية، أو معرفة حجم الطوائف في البلاد، في البلد المتواجد به أكثر من 18 طائفة، وذلك حتى لا تُفتح أبواب الفتن والطائفية.
بالرغم من ذلك أشار موقع “ستاتيستيكس ليبانون” في دراسة مستقلة أجريت عام 2016، إلى أن عدد سكان لبنان من المسلمين يبلغ 57.6%، ينقسمون ما بين سنة وشيعة، وأن 36.8% من السكان هم من المسيحيين، غالبهم من الطائفة المارونية وهي الأكبر من بين الطوائف المتعددة في لبنان.
وينص الدستور في لبنان على أن يكون رئيس الجمهورية من الطائفة المسيحية، وعلى مستوى مجلس النواب يتقاسم المسلمين والمسيحيين التمثيل النيابي مناصفة.
وقد أشاد أمين لجنة التواصل لـ”مجلس الأساقفة والبطاركة الكاثوليك” في لبنان الأب يوسف مؤنس في تصريحات سابقة، بأوضاع المسيحيين في لبنان والتعايش السلمي من قبل المسلمين تجاههم، حتى أصبح لبنان وطنًا للرسالة، ووطنًا للجميع.
مسيحيو سوريا.. الهجرة ملاذ آمن
بعد 7 سنوات من اشتعال شرارة الحرب في سوريا، لا يزال البلد العربي يئن من آلام القتل والدمار التي لحقت بمئات الآلاف من الضحايا، ما اضطر ملايين السوريين إلى الهجرة من البلد الذي يشكل المسيحيون فيه حوالي 10% من إجمالي السكان، وذلك وفقًا لتقديرات أميركية، إلا أن المصادر الرسمية تقول إن 8%، هي نسبة المسيحيين في سوريا.
الدستور السوري منح المسيحيين حقوقهم كافة منذ الاستقلال، وقد برزت أسماء مسيحية سابقًا في مناصب قيادية مثل فارس الحوري الذي تولى رئاسة مجلس النواب وكذلك رئاسة الحكومة مرات عدة، بالإضافة إلى وزراء وقيادات بالجيش مناصب سياسية أخرى.
ويتمتع المسحيون بسوريا بالحرية في بناء الكنائس والمعابد واستقلالية في إدارتها، وينص قانون الأحوال الشخصية في سوريا بموافقة الكنيسة إلزاميًا على حالات الزواج والطلاق، وفيما عدا ذلك تعامل المسيحيات في القانون كالمسلمات.
إلا أنه خلال العقود الثلاثة الأخيرة تقلصت أدوار المسيحيين في سوريا إثر محاولات النظام للهيمنة على الدولة، وارتفاع طلبات الهجرة خارج سوريا سواءً قبل الحرب أو بعدها لظروف مختلفة من بينها الاقتصادية والاجتماعية وكذلك الدينية.
مسيحيو العراق.. تراجع ملحوظ
وشهد العراق تراجعًا ملحوظًا في أعداد المسيحيين، إذ كان عددهم قبل الاحتلال ما يعني قبل 15 عامًا، يقترب من مليون ونصف المليون مسيحي، أما الآن فلا يتجاوز عددهم أكثر من 450 ألف مسيحي فقط، وذلك وفقًا لما أعلنه “مجلس الطائفة المسيحية العراقية في الأردن”، حيث غادر نحو مليون مسيحي عراقي البلاد إلى دول الجوار كالأردن ولبنان وتركيا.
وعلى صعيد الحريات في العراق انتقد رئيس مجلس الطائفة المسيحية العراقية في الأردن، غازي رحو، الفقرة 26 من الهوية الوطنية التي وضعها البرلمان العراقي وصادق عليها، والتي بموجبها يصبح الطفل العراقي بعمر يوم واحد مسلمًا في حال كان أحد والديه مسلمًا أو أعلن إسلامه، فهناك من يختار الإسلام من أجل الانفصال أو الطلاق، وهو ما يعني أن أبناءه سيصبحون مسلمين دون إرداتهم.
المسيحيون في الخليج العربي.. الوافدون في الكنائس
وفي دول الخليج العربي يعيش ملايين المسيحيين في هذه المنطقة، ولكن غالبيتهم من العمّال الوافدين، باستثناء الكويت والبحرين حيث تضمان مواطنين مسيحيين، وتعد الطائفة الكاثوليكية هي الأكثر انتشارًا تليها الإنجيلية، ثم الكنائس الأنجليكانية والأرثوذوكسية.
وقد سمحت سلطنة عُمان بممارسة الشعائر الدينية المسيحية، ولكن بالرغم من ذلك فالقوانين العُمانية تمنع تغيير الديانة من الإسلامية إلى المسيحية، ويظل الدين الإسلامي هو الدين المقرر في المناهج الدراسية.
أما المملكة العربية السعودية فتعتبر الدولة الخليجية الوحيدة التي تمنع تواجد كنائس على أراضيها، وذلك بالرغم من استضافتها لأكبر عدد من العمال الوافدين المسيحيين.
وتضم دولة الإمارات أكبر عدد من الكنائس بين الدول الخليجية كافة، فتضم ما يزيد عن 40 كنيسة، يتعبد فيها المسيحيين الذين أتوا من الهند والفلبين، فضلًا عن آخرين من لبنان والأردن ومصر وسوريا والعراق.
وبالرغم من أن غالبية المسيحيين في الكويت ليسوا من أبناء البلد وهم من المغتربين، إلا أن هناك أقلية كويتية مسيحية، ولا تمنع الكويت ممارسة الدين بحرية، بشرط ألا يتعارض ذلك مع السياسة العامة أو الأخلاق، ولعل إنشاء مجلس العلاقات المسيحية الإسلامية في الكويت عام 2009، كان بمثابة خطوة إيجابية على طريق تعزيز العلاقات والروابط بين المسلمين والمسيحيين.