في 25 من تموز/ يولو 2017، نشر معهد البحوث الاستراتيجية التابع للأكاديمية العسكرية IRSEM تقريراً بعنوان عمان: التحديات الوطنية والقضايا الإقليمية في عصر ما بعد السلطان للباحثة المختصة بشأن الخليج والشرق الأوسط فتيحة دازي-هيني، والذي بدأته الباحثة بنبذة مختصرة عن محتوى التقرير أوضحت فيها أن هذا التقرير يتحدث بإيجاز عن المشاكل الدولية والإقليمية الرئيسية والهامة التي ستواجه الخلافة المحتملة للسلطان قابوس، والذي بدأت صحته في التدهور منذ عام 2014، موضحةً أن السلطان قابوس حاكم يصعب استبداله لدوره كأب للأمة بقيامه بتحديث الدولة، وإخراجها من الحقبة الإقطاعية، وإعطائها دوراً دبلوماسياً قيماً للغاية كدولة وسيطة في منطقة تتقاذفها دوماً التوترات والصراعات.
مؤكدةً أن خليفة قابوس سيواجه مهمة صعبة على المدى القصير بسبب تأثر الاقتصاد بانخفاض أسعار النفط. وسيكون التحدي الأهم على المدى المتوسط هو إحياء عقد اجتماعي أخذ في الاندثار. ورغم هذه الصعوبات إلا أن دور عمان الدبلوماسي كوسيط في المنطقة و كوسيط بين واشنطن وطهران علاوة على موقعها الاستراتيجي المميز على مفترق طريق الحرير سيلعب دوراً هاماً في صالح عمان إن هي أرادت الحصول على دعم لاعبين إقليميين وعالميين في مرحلة ما بعد السلطان قابوس.
واتبعت ذلك بمقدمة جاء فيها أنه يصعب التلميح علانية إلى انتهاء عهد السلطان قابوس في عمان، ومع ذلك يفكر الشعب في المستقبل بعد انتهاء حكمه. إذ تزداد الشكوك والتخوفات خاصة بعد الأزمة الاقتصادية التي تسبب فيها انخفاض أسعار النفط منذ النصف الثاني من عام 2014. كما تحيط بالخلافة مشاكل عدة أولها مشكلة استبدال السلطان، الذي جدد اقتصاد الدولة وجلب السلام بعد إنهاء تمرد ظفار. وتعرف سلطنة عمان في الغرب بشكل خاص بفضل ما يُكتب عن وساطتها الفريدة ودورها الدبلوماسي في المنطقة التي يسود فيها التوتر بين إيران والمملكة السعودية. مما جعل حكم السلطان الاستبدادي -والذي لا يُمس- يحظى بشهرة أقل. ورغم أن السلطان يريد أن يُرى على أنه الأب المطمئن للأمة. إلا أنه في الواقع يحتفظ بجميع السلطات التنفيذية تقريباً في قبضة يده. فهو رئيس الدولة، وقائد القوات المسلحة، ورئيس الوزراء، ووزير الدفاع، ووزير الخارجية، ووزير الاقتصاد.
وتنبأت أن معظم التحديات التي سيواجهها خليفة السلطان قابوس، في ضوء ما سبق، ستكون تحديات محلية. إذ لن يكون خليفته قادراً على استبدال نموذج السلطة المطلقة الخاص بالسلطان قابوس وسيحتاج لبسط سلطته معتمداً على أسلوب المشاركة بشكل أكبر معولاً على النخبة الأصغر سناً لتأسيس عقد اجتماعي جديد يمتد طويلاً. من غير المرجح أن يساعد الوضع الاقتصادي السيئ تلك الخلافة الصعبة. إلا أن السيادة المستقبلية بإمكانها الاعتماد على الإرث القوي الذي سيخلفه السلطان قابوس والمتمثل في أمة مسالمة وموحدة تلعب دور الوسيط بدون تدخلات منها والذي أصبح دوراً ضرورياً في منطقة تشوبها دوماً توترات القوية. علاوة على ذلك، يجب الحفاظ على دور عمان في التوازن الاستراتيجي في المنطقة الاقليمية الرئيسية (إيران، والمملكة العربية السعودية) وبين اللاعبين العالميين (الولايات المتحدة، والصين)، أما الأجزاء الأخرى من التقرير فقد جاءت كالتالي:
ترجمة: الزهراء عزازي
أسس خلافة السلطان في عمان
بدأ السلطان، كجميع الأسر الملكية في المنطقة، في إصلاح المؤسسات لتعزيز السلطة المركزية، عندما صدر النظام الأساسي للدولة عام 1996، وخاصة مسألة خلافته التي تعد أمراً حساساً جداً، بسبب اختلاف خلافة سلطنة عمان عن غيرها من الممالك الأخرى في المنطقة، إذ لا يوجد وريث مباشر للسلطان. فوفقاً للعادات الإباضية (المذهب الديني لغالبية الدولة، وهو المذهب الناتج عن حركة الخوارج، والتي هي ليست بإسلام سني ولا شيعي)، وهو المذهب الرسمي للدولة في الإمامة السابقة، فإن اختيار الخليفة يعتمد على الكفاءة بدلاً من الوراثة. ورغم أن سلالة آل سعيد، والتي ينحدر منها السلطان، تحكم البلاد منذ عام 1744، إلا أن المادة الخامسة من النظام الأساسي للدولة الصادر عام 1996 تنص على أن خليفة السلطان يجب أن يكون مسلماً، رشيداً، عاقلاً، وابناً شرعياً لأبوين مسلمين عمانيين، وأن ينحدر من ذرية السيد تركي بن سعيد بن سلطان من الذكور، والذي تولى حكم البلاد منذ عام 1871 وحتى عام 1888.
يبدو أن عملية الخلافة شبه مؤكدة حالياً نظراً إلى اقترابها الوشيك منذ تدهور صحة السلطان في عام 2014. إذ ينص النظام الأساسي على أنه يجب على مجلس العائلة الحاكمة تحديد الخلفية في غضون ثلاثة أيام من موت السلطان. فإذا لم يتفق مجلس العائلة على اختيار سلطان للبلاد، قام مجلس الدفاع بتثبيت الشخص الذي أشار به السلطان في رسائله إلى مجلس العائلة والموضوعة في أماكن مختلفة في البلاد. ويهدف هذا الإجراء إلى تفادي أي صراع داخل العائلة الحاكمة. ويتكون مجلس الدفاع في سلطنة عمان من وزير الدفاع ورئيس جهاز الأمن الداخلي، ووزير ديوان البلاط السلطاني، و نائب رئيس الوزراء لمجلس الوزراء، ورئيس مجلس الدولة.
وقد تداول العمانيون لعدة سنوات أسماء أربعة مرشحين للخلافة، من بينهم ثلاثة من أول أبناء عمومة السلطان قابوس. ويعد أسعد بن طارق هو المرشح الأوفر حظاً بينهم بعد تعيينه نائباً لرئيس الوزراء لشئون العلاقات والتعاون الدولي في مارس عام 2017. وقد كان الممثل الشخصي للسلطان منذ عام 2002 بعد توليه قيادة سلاح المدرعات الخاص بالسلطان. يبدو أن خطوة تعيينه الأخيرة تعني أكثر بكثير مما تبدو عليه إذ بها أرسلت عمان رسالة للمجتمع الدولي وخاصة إلى جيرانها السعوديين والإمارتيين، ممن تنظر إليهم السلطنة على أنهم من الدول كثيرة التدخل في المنطقة. وبفعل ذلك، أظهرت عمان أنها تسيطر على أوضاعها الداخلية وأنها تخطط للمستقبل. أما المرشحان الآخران فهما أخوا أسعد من والدة أخرى: هيثم، ويشغل منصب وزير التراث والثقافة، وشهاب والذي تقاعد من منصبه كقائد للبحرية عام 2004 ليصبح مستشاراً شخصياً للسلطان في مجال البحث. وثلاثتهم في العقد السادس من العمر، ويقال إن أسعد يرتبط بعلاقة وثيقة طويلة الأمد مع زعماء القبائل في البلاد وابنه الأكبر تيمور البالغ من العمر 37 عاماً والمتزوج من أميرة ظفارية هو المرشح الرابع المحتمل.
إن كان الاتجاه هو استبدال النخبة الحاكمة، فإن تيمور الشاب يمكن أن يكون خطوة واضحة بعيدة عن عصر السلطان قابوس، الذي سيكون من الصعب استبداله، بغض النظر عمن سيكون خليفته، لكن النظرية الأكثر احتمالاً وهي الحفاظ على الاستمرارية، تجعل من أسعد المرشح المفضل. ومع ذلك فإن الوريث الجديد للمملكة السعودية المجاورة، الأمير محمد بن سلمان والبالغ من العمر 32 عاماً، والذي تم تعيينه ولياً للعهد بدلاً من ابن عمه ولي العهد السابق محمد بن نايف البالغ من العمر 57 عاماً، والذي كان وزير داخلية مخضرم يحظى بالاحترام بعد ترأسه معركة مكافحة الارهاب في المملكة. يعبر عن تجديد سلالة آل سعود. ويبدو أن الشباب العماني ممن قمنا بمقابلتهم قد أعجبوا بهذا التقدم السعودي الجديد، في نظام ملكي عُرِف غالباً بأنه قديم الطراز. إلا أن القيادة العمانية غير مطمئنة لابن سلمان، إذ يُعتقد أنه لا يمكن التنبؤ بأفعاله ويقع تحت تأثير مستشاره المتشدد محمد بن زايد آل نهيان ولي عهد أبوظبي، والذي لا تحظى مواقفه المتعصبة والعدائية في منطقتي الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وإيران بشعبية في السلطنة.
تنبأ بعض الأشخاص في عمان أن مجلس العائلة الحاكمة سيتبع مباشرة وصية السلطان دون انتظار فترة الثلاثة أيام. ومن شأن هذا السيناريو أن يُجنب السلطنة مشكلة إضعاف شرعية وريث السلطان إن فشل المجلس في التوصل إلى اتفاق خلال المدة المحددة. ورغم ذلك فإن المادة الخامسة من النظام الأساسي للدولة لا تتضمن أحكاماً في حالة عدم قدرة السلطان على الحكم لأسباب صحية. ففي هذه الحالة يلتزم مجلس الدفاع بالقيام بدور انتقال فعلي في انتظار عملية التعيين المنصوص عليها في النظام الأساسي للدولة.
يجب أن يؤدي تحديد هوية السلطنة الحديثة بوجود السلطان المطلق الحالي، في نهاية المطاف، إلى جعل نظام الحكم الجماعي والمؤسسي نظام حكم لا رجعة فيه. فوفقاً للعديد من كبار المسئولين السابقين، فإن هذا الإجراء من شأنه أن يحمي إرث السلطان بشكل أفضل، كما يتوقع الجزء الأكبر ممن أجرينا مقابلات معهم انتقالاً سلساً للسلطة رغم كثرة الشكوك المحيطة بفترة ما بعد قابوس. وذلك من شأنه أن يعكس صورة مجتمع مرن يمتد صلابته من الأصول التاريخية والثقافية للأمة العمانية. كما يسمح هذا الواقع للمجتمع العماني والدولة بالتحلي بالثقة وبناء علاقات قوية في ظروف صعبة، حتى عند تغير الأنظمة، كما كانت الحال في إيران في عهد الشاه وآية الله. وهذه الخاصية مفقودة بشكل كبير في مجتمعات وممالك البلدان المجاورة.
التحديات المجتمعية: نموذج قبلي قائم على الأمن يتحداه الشباب في البحث عن التحرير
يعود تاريخ الأمة العمانية يعود إلى ما يقارب ألفي عام وتتشكل من مجموعة من المؤثرات الثقافية (فهي متأثرة بزنجبار التي كانت تقع سابقاً تحت الحكم العماني) وعدد كبير من المهاجرين من شبه القارة الهندية ممن أضافوا الكثير إلى مزيجها الثقافي في السنوات الأخيرة. تتعايش العديد من المذاهب الاسلامية العمانية معاً في هذا البلد متعدد الثقافات، رغم أن المسئولين العمانيين يتبعون المذهب الأباضي باعتباره مذهب غالبية الشعب، والذي يدين به 75% من السكان، رغم أن وكالة المخابرات المركزية تشير في بياناتها إلى أن نسبتهم أكثر من الـ 50% بقليل. ويشكل الشيعة 5% فقط من السكان (من قبائل اللواتيا وقبيلة عرب العجم الشيعية واللذان استقرا في مسقط قبل وصول البرتغاليين في القرن السابع عشر).
يتبع باقي السكان المذهب السني، ويتواجدون بشكل أساسي في ظفار. وكانت الإباضية هي مركز الدين السياسي للإمامة حتى تم إسقاطها عام 1959 على يد والد السلطان. ويمكن مقارنة هذا المذهب بالبروتستانتية الميثودية إذ يتم التركيز على السيطرة الأخلاقية والسلوكية. وقد رفض والد السلطان أيضاً أي شكل من أشكال الطائفية، سامحاً للمذاهب الأخرى بممارسة شعائرها بحرية. وشكل هذا العناصر الأساسية وراء فكرة السلطان قابوس في التأكيد على هذا المذهب كشكل عام ومشترك للإسلام بجميع طوائفه إذ تجمع المؤسسات التدريبية والمساجد بين جميع المذاهب الإسلامية. و لتجنب أي تفسيرات متضاربة، عين السلطان نفسه حامياً لجميع الطوائف والأديان، جاعلاً من ذلك أحد أسس العقد الاجتماعي في عمان.
السمة الأخرى المميزة لهذا المجتمع المتنوع والمعقد هي النظام الاجتماعي السياسي العمودي الذي تم تنظيمه بشكل يضمن قوة العلاقة القبلية والإذعان للسلطان قابوس. لتحقيق ذلك أضفى السلطان الطابع المؤسسي على القبيلة باعتبارها القوة الناقلة للمعلومات بين الدولة والمجتمع، وجعل قادة القبائل هم الضابطين المنظمين لمجتمعاتهم. إلا أن الدولة حريصة على عدم جعل قادة القبائل أكثر قوة، فتشجع على تفكيك القبائل في حال ازدادت قوتها السكانية و/أو الاقتصادية لإضعافها والحفاظ على السيطرة عليها. يعتمد تنفيذ هذه الاستراتيجية على القبلية الجديدة بدلاً من العلاقة القبلية المبنية على النسب فقط، أو الهوية المتعددة والعوامل الاقتصادية الأخرى ذات الصلة. إذ تشكل الأصول القبلية (العربية في الجنوب (قبيلة القحطاني) أو الشمال (النزاري)، والبلوش، والهنود (البانيانس من ولاية غوجارات))، أو الانتماءات الدينية، والمصالح التجارية التي تمثلها تلك القبائل العوامل الأساسية الهامة للدولة، فهذه القبائل لها أهمية سياسية كبيرة، بسبب قيام زعماء القبائل بدور الوسيط الأساسي بين الدولة والمجتمع. مما يجعل من القبائل مفتاح الشرعية الأهم للنظام السلطاني العماني. وتعتبر العلاقة بين الدولة والقبائل علاقة اعتمادية متبادلة، إذ تتلقى القبائل أنواع مختلفة من التمويل والمساعدات، ومقابل ذلك يراقب قادتها مجتمعاتهم ويسيطرون عليها بالتعاون مع قوات أمن القصر.
ظهرت فائدة هذا النظام التنظيمي/ الانتقائي أثناء التعامل مع أي توترات سياسية نادرة أو حركات احتجاجية ظهرت منذ تمرد ظفار. فقد تمكنت الحكومة بفضل تحرك زعماء القبائل من منع تحول حركة الإخوان المسلمين إلى انتفاضة شعبية في عام 1994. إذ أقنع زعماء القبائل بعضاً من أفرادهم، ممن كان بعضهم من الناشطين الرئيسيين في الحركة، بالتخلي عن التمرد أو المخاطرة بوجود قبيلة كاملة تتهمها السلطات بأنها معادية للدولة. وفي 2004 دعا مركز القوة الدينية والمتمركز حول مجموعة من علماء الدين في مدينة نزوى، معقل وعاصمة الأباضية، علناً إلى العودة إلى الإمامة. ومع ذلك أسفرت مفاوضاتهم مع زعماء القبائل إلى وأد الحركة في مهدها.
لم تكن عمان بمنأى عن سلسلة الاحتجاجات التي حدثت في مطلع عام 2011 والمعروفة باسم الربيع العربي. إذ شهدت المعاقل الاقتصادية والصناعية في مسقط في (17 يناير 2011) وصحار الواقعة شمال العاصمة في (25 فبراير) للمرة الأولى الآف الشباب يسيرون في الشوارع احتجاجاً على البطالة وانخفاض الأجور، ورفعهم لشعارات مناهضة للفساد والامتيازات الواسعة الانتشار التي يحظى بها أفراد الحكومة والعائلات التجارية القوية التي تهيمن على القطاعات الأكثر ربحاً في اقتصاد البلاد بعد إضفاء الصفة السياسية على المطالب. انتشرت الاحتجاجات عبر الساحل إلى صور، ثم إلى صلالة عاصمة ظفار، ورغم ذلك لم تصل إلى نزوى في داخل البلاد.
تفاجأ وارتبك جهاز الأمن العماني بسبب التنظيم العفوي للحركة على الرغم من تواجده الدائم بسبب الدور الوسيط الذي تلعبه القبائل. حاولت القوى المركزية قمع الاضطرابات مستخدمةً استراتيجيتها المعتادة في استخدام الولاءات وإرسال زعماء القبائل لإقناع الشباب بالعدول عن احتجاجاتهم. إلا أن المحتجين الشباب استهزؤوا بزعماء القبائل فما كان من السلطات سوى إرسال برلمانيين من مجلس الشورى لمحاولة إجراء وساطة سياسية بديلة أكثر حداثة والتي كانت دون جدوى هي الأخرى.
لم تتوقف الاحتجاجات والاعتصامات في الشوارع من فبراير إلى مايو 2011، وبعدها رفض المحتجون الحوار مع أي شخص سوى السلطان نفسه. فأقامت السلطات مجالس عامة في المدن التي حدثت فيها التظاهرات لسماع شكاوى المحتجين المنتظرين لإجابات واضحة من السلطان. أسفرت تلك الاحتجاجات عن إقالة العديد من الوزراء والكثير من البرلمانيين، وتوفير 50000 فرصة عمل في القطاع العام، وارتفاع الحد الأدنى للأجور ليصل إلى 325 ريال (اقل من 800 يورو بقليل) وقُدمت الاستثمارات لتقليل البطالة. وقد هدفت هذه الحلول، كما في العديد من الممالك المجاورة، إلى شراء السلام الاجتماعي وتهدئة القلق دون حل المشاكل الهيكلية بشكل فعلي.
كشفت الانتفاضة عن مدى تقادم آليات الضبط العشائرية والتنظيم السلطوي وتوحيد السلطنة. إذ يهتم الشباب العماني ممن تقل أعمارهم عن 35 عاماً، والذين يشكلون 70% من السكان، بتغيير حياتهم اليومية، وإيجاد الوظائف، ومواجهة العقبات التي تقف في طريق إنجازاتهم الذاتية. اليوم، هدأت البلاد بالفعل لكن المشاكل الهيكلية تزداد مع وجود نموذج قائم على القبلية والأمن والذي عُرفت حدوده، وهو النموذج الذي يُرجح أن يستمر في التآكل تحت ضغط شباب انتفاضة 2011 الباحثين عن عقد اجتماعي جديد.
الإصلاح الاقتصادي تحت راية برنامج “تنفيذ” في سياق تنفيذي مجمد
استمر الوضع الاقتصادي والمالي لسلطنة عمان في التدهور منذ انخفاض أسعار النفط في سبتمبر 2014، ورغم دخول 40.000 عماني لسوق العمل سنوياً إلا أن وظائف قليلة جداً تم إنشاؤها منذ عام 2014. ويعد القطاع الخاص مفلسا عملياً لقلة العقود والعائدات الجديدة. كما يعتقد الكثير من الباحثين أن “الربيع العماني” كان فرصة ضائعة للإصلاح نظراً لضخامة الإنفاق الذي أجرته الدولة لخلق 50.000 وظيفة جديدة في القطاع العام وتعزيز الأمن.
اشترت عمان السلام المجتمعي، كما فعلت غيرها من الممالك المجاورة، والذي جلب الهدوء للسلطنة في وقت تجاوزت فيه أسعار النفط 100 دولار للبرميل الواحد. إلا أن أسعار النفط تراوحت في السنوات الثلاث الماضية بين 40 و50 دولار للبرميل، رغم أن السلطنة تحتاج إلى أن يكون سعر البرميل، وفقاً لتقديرات صندوق النقد الدولي، 60 دولار على الأقل لتدفع السلطنة رواتب موظفي القطاع العام، وإلى أن يكون 79 دولار لموازنة الميزانية. تعتبر عمان دولة صغيرة مصدرة للبترول ومنتجات البترول ويبلغ متوسط انتاجها 750 ألف برميل يومياً، وتصدر للسوق الآسيوي في المقام الأول (الصين، واليابان، وكوريا الجنوبية)، وللولايات المتحدة وتصدر حصة صغيرة لفرنسا بإجمالي إنتاج يبلغ 860 مليون برميل يومياً.
سيستمر، إن ظلت أسعار النفط منخفضة، تدهور الوضع الاقتصادي والمالي في عمان مع ارتفاع البطالة. ضف إلى ذلك احتكار عدد من التكتلات العائلية للقطاع الخاص وهم يفضلون عدم توظيف الشباب العماني ( الذين يمثلون 12% فقط من القوى العاملة في القطاع الخاص) إذ يعتبرونهم أقل كفاءة وأعلى تكلفة من العمال الأجانب (88% من القوى العاملة) الوافدين من الهند وبنغلاديش بشكل رئيسي. ويعتبر هؤلاء العمال أكثر إنتاجية وأقل تكلفة من نظرائهم العمانيين مما يجعل من الصعب استبدالهم.
يتقلد الهنود بشكل أساسي الأدوار الاستراتيجية في الأعمال التجارية، كمدراء ماليين. كما يطورون من شبكاتهم الخاصة لكسب المزيد من فرص العمل للمواطنين الهنود في مجتمعاتهم، فضلاً عن تكريس أنفسهم للعمل الجاد لدى أصحاب العمل العمانيين. وفي الوقت نفسه يستثمرون في بلادهم ويضغطون على النخبة من رجال الأعمال الهنود للاستثمار وخلق مشاريع مشتركة في عمان.
لا يمكن للعمالة العمانية مضاهاتهم لافتقارهم إلى نفس الشبكات، والدوافع والمميزات لدى رجال الأعمال العمانيين. ويغذي هذا الواقع التوترات الواضحة بين الشباب العماني والوافدين الهنود مما يضع التكتلات العائلية من رجال الأعمال النافذين تحت ضغط كبير، إذ تدفعهم مصالحهم إلى حماية وظائف الوافدين حتى وإن التزموا بالإصلاح بعد انضمامهم للبرنامج الوطني لتعزيز التنويع الاقتصادي “تنفيذ” والذي أطلقته الحكومة لتشجيع العمانيين على العمل في القطاع الخاص والبدء بتنفيذ أعمالهم الخاصة.
يقترن أيضاً هذا التحدي الاقتصادي الهيكلي، والذي لا يقتصر على سلطنة عمان فقط، بمشكلة الوضع السياسي الراهن، والذي من الممكن أن تستمر لبعض الوقت بوجود السلطان المعتل والإجراءات المجمدة. وإن حدث ذلك، فلن يزداد الوضع الاقتصادي والاجتماعي المتوتر أصلاً منذ ثلاث سنوات إلا سوءاً.
كان لتراجع أسعار النفط تأثير كبير على الاقتصاد العماني، إذ سجل إجمالي الناتج المحلي عجزاً نسبتة 20% في عامي 2015 و2016، ليصل إجمالي الناتج المحلي إلى 65 مليار دولار مقارنة بـ80 مليار دولار في عام 2014 (الناتج المحلي الإجمالي لقطر مستقر عند 200 مليار دولار). يترافق هذا العجز مع عجز ميزان المدفوعات بسبب تدني الواردات واستمرار الصادرات. إلا أن الدين العام لا يزال معقولاً إذ تبلغ نسبته حوالي 25% ولكنه يرتفع بسرعة، الأمر الذي قد يهدد تداول الريال العماني في نهاية المطاف.
أطلقت السلطنة برنامج “تنفيذ” في إطار خطتها الخمسية التاسعة، استجابة للأزمة الاقتصادية، كمؤتمر مدته ستة أسابيع عُقد بين شهري أكتوبر ونوفمبر عام 2016، لجعله نموذج نمو محوري ينبثق من الخطط الخمسية الثماني السابقة. وقد استوحي هذا البرنامج من خطة التنمية الوطنية الماليزية المسماة “بيرموندو” التي نفذها رئيس الوزراء الماليزي السابق د.مهاتير محمد، وهي الخطة التي استلهمها من شركة الاستشارات الأميركية، ماكينزي آند كومباني، والتي طورت رؤى عام 2030 للإمارات، وقطر، والسعودية. وقد عملت الحكومة العمانية جاهدة لضمان إدراج العديد من العمانيين من القطاعين العام والخاص في البرنامج، لإشعارهم بالمشاركة الكاملة وجعلهم أكثر من مجرد مستفيدين من الإصلاحات التي يحث عليها نموذج أجنبي.
يهدف هذا البرنامج إلى تنفيذ العديد من الإصلاحات الاقتصادية بحلول عام 2020 لتنويع الاقتصاد وتقليل الاعتماد على النفط، الذي يمثل حالياً 83% من عائدات البلاد مقارنة بـ 99% في عام 1970. يستهدف البرنامج خمس قطاعات استراتيجية، “لوجيستية (البنية التحتية ومراكز الشحن)، والصناعات التحويلية، والسياحة، وتطوير التعدين، والثروة السمكية، كما يهدف إلى تحفيز العمالة وجذب الاستثمارات الأجنبية عبر تشجيع المشاريع المشتركة عن طريق الشراكة بين القطاعين العام والخاص. علاوة على ذلك، سيتم وضع مؤشرات أداء رئيسية لقياس الأداء في كل مرحلة من مراحل خطة “تنفيذ”، وقد عينت الحكومة موظفين مدنيين ليكونوا مسؤولين عن تنفيذ الإصلاحات وجعلتهم عرضة للمحاسبة. تقف المخاطر الموجودة في طريقة الإدارة الجديدة هذه، والتي تنطوي على قرارات صعبة وبها مخاطرة، كحجر عثرة في طريق الإصلاحات الجاري تنفيذها وقد تجعلها غير فعالة. وتشعر هذه الفئة من المستشارين المسؤولين عن قيادة إصلاحات “تنفيذ” بأنهم معرضون للخطر أكثر من أي وقت مضى كما يساورهم القلق بشأن مستقبلهم.
يعاني نهج تنفيذ هذه الخطة أيضاً من الفجوة الكبيرة بين الدعاية المبالغ فيها لبرنامج “تنفيذ” والمشاكل التي تواجه المسئولين في تنفيذه. إذ قُدم هذا المشروع للسلطان على أنه الملاذ الأخير لإنقاذ البلاد من الركود الاقتصادي. ولن يتمكن مستشارو السلطان من الانسحاب الآن بعد المبالغة في الترويج لمنافع الخطة خوفاً من إزعاج السلطان والتأثير سلباً على صحته، مما يفسر حالة التقاعس الحالية. يسري الآن بين الشعب شعور بالتفاوت الكبير بين الدعاية المبذولة للبرنامج ونقص الإجراءات الفعلية الملموسة، وبالتالي فإن الرأي العام يشكك في المشروع برمته. إذ يتخوف الشعب غالباً من مبادرات الحكومة بعد النتائج السيئة التي حققتها استراتيجية التنويع الاقتصادي التي بدأت عام 1995.
شملت الخطة، شأنها شأن خطط دول الجوار الأخرى، تدابير تقشفية، بما في ذلك خفض الأسعار المدعومة الممنوحة للمجموعات الصناعية، وزيادة ضريبة دخل الشركات من 12 إلى 15%، وزيادة ضرائب الضمان الاجتماعي للقطاع الخاص (ارتفعت من 100 ريال إلى 250 ريال على كل موظف). أما بالنسبة لعامة الشعب فقد ارتفعت الضرائب على كل الإجراءات الإدارية كما ارتفعت أسعار البنزين فضلاً عن فرض غرامات مالية على كل المخالفات المرورية على الطرق. كما تتوقع جميع الدول الست في مجلس التعاون الخليجي الإعلان عن ضريبة القيمة المضافة بنسبة 5٪ في عام 2018. ونتيجة لذلك، اتسعت الفجوة بين الخط الرسمي الإيجابي الذي يُثني على منافع “تنفيذ” والإجراءات التقشفية المفروضة على الشعب الكاره لها.
يبدو أن المملكة المتحدة، وهي اللاعب الخارجي الوحيد القادر على التأثير على القصر بسبب أثرها التاريخي المميز على كل من الجهازين الأمني والإداري، قد حاولت إقناع السلطان بأن يشجع حكومته على بث رسائل أكثر واقعية بخصوص إصلاحات مشروع “تنفيذ”، والتي تتطلب أن يقدم الشعب العماني التضحيات لإنجاحه. إذ أن الرسالة الوحيدة التي يقدمها مستشارو الحكومة هي القول بأن السلطان لن يسمح لمستوى العمانيين المعيشي ومكاسبهم الاجتماعية بالتغير رغم استمرار تنفيذ التدابير التقشفية لمدة عام.
تروج الحكومة بشكل أكبر لرؤية خطة عام 2040، والقائم على تنفيذها نفس اللجنة الرئيسية القائمة على تنفيذ برنامج “تنفيذ”، للتشديد على جدوى الإصلاحات الاقتصادية الهيكلية على المدى الطويل والتي يصعُب تنفيذها على المدى القصير، ولكن هناك أملاً خفياً بارتفاع أسعار النفط ليصل سعر البرميل إلى 80 دولار. يرى البعض في ذلك فرصة لتأخذ الحكومة وقتها في تنفيذ القوانين الجديدة الأكثر شفافية وتعقيداً، بينما يرى آخرون أنه مشروع آخر غير مدروس صُمم لشراء الوقت واشغال الشعب وصرف انتباهه بعيداً عن برنامج “تنفيذ” المتعثر، والذي من غير الممكن أن يؤتي ثماره بحلول عام 2020.
تعد رؤية 2040 خطة هيكلية أنشأها أحد أبناء عمومة السلطان، هيثم، وزير التراث والثقافة، وأحد المتنافسين على الخلافة. كما تعد أيضاً وسيلة لتأجيل مسئولية الاهتمام بالقضايا الاقتصادية والبنيوية التي يتعين التعامل معها عند انتهاء عهد السلطان قابوس. وأياً كان من سيخلفه، فإنه سيعاني بشدة من العمل على إيجاد الحلول للمشاكل التي سيرثها بعد انتهاء حكم السلطان قابوس، إذ سيتعين عليه مواجهة اقتصاد فقير ونموذج اجتماعي غير مستدام.
دور السلطنة الدبلوماسي كوسيط يجعل منها لاعباً أساسياً في المنطقة
تعتمد السياسة الخارجية للسلطنة بصورة حاسمة على الوساطة وعدم التدخل وتعد هذه السياسة هي الأرث الأعظم والأهم الذي سيرثه خليفة السلطان قابوس من حكم الأخير. وبالتالي، يمكن للحاكم المستقبلي موازنة المشاكل الاقتصادية والاجتماعية التي تؤثر في عمان، والتي ستشكل تحديات رئيسية بالنسبة له، بالدور الذي سيؤديه في الحفاظ على توازن القوى في منطقة تعاني بشدة من التوترات بين المملكة السعودية وإيران.
لن يعود انهيار عمان الاقتصادي بأي نفع على اللاعبين الإقليميين أو حتى العالميين (الولايات المتحدة، والمملكة المتحدة، والصين)، نظراً لسياستها الدبلوماسية كوسيط وموقعها الديموغرافي الاستراتيجي، إذ تقع عمان على مفترق طريق الحرير المتجه للصين، كما أصبحت عمان الحليف الأول للولايات المتحدة بعد سماحها، كأول مملكة في الخليج، للولايات المتحدة بإقامة المنشآت العسكرية على أراضيها عبر اتفاقية وُقعت في 21 إبريل/ نيسان عام 1980. ولإظهار تقديرها، وقعت الولايات المتحدة اتفاقية تجارة حرة مع مسقط والتي بدأت منذ عام 2009. كان لهذه الاتفاقية دلالة أكبر من كونها مجرد اتفاقية تجارية تهدف لزيادة المصالح الأمريكية في عمان، والتي لا تزال محدودة، إذ جاءت لإظهار دعم الولايات المتحدة السياسي لأفعال السلطنة الإقليمية. كما حافظت السلطنة أيضاً على علاقة وثيقة مع بريطانيا، حليفها التاريخي، لتكون الدولة الأجنبية الوحيدة التي تمارس نفوذاً سياسياً مباشراً في القصر.
كانت الفترة من 1980-1981 أيضاً فترة بالغة الأهمية لعمان، إذ رسخت فيها أسس سياستها الإقليمية برفضها عرض المملكة السعودية والكويت بإشراك القوة العسكرية المشتركة لمجلس دول التعاون الخليجي، قوة درع الجزيرة، والموجودة في الكويت، في دعم قوات صدام حسين عندما أعلن الحرب على إيران. رفضت عمان، عالمةً بأن مثل هذا الإجراء يعتبر بمثابة إعلان حرب على إيران. ودافعت مسقط، منذ ذلك الوقت، باستمرار عن فكرة الحفاظ على مجلس دول التعاون الخليجي، ووجوب اتخاذ كل الخطوات الضرورية لدفع التنمية الاقتصادية لدول الخليج وحماية الكيان الإقليمي عن طريق تجنب الحرب في المنطقة بأي ثمن. وأصبح هذا الموقف الثابت علامة مميزة لسياسة عمان الخارجية، إذ فضلت دوماً الحفاظ على علاقات سليمة مع إيران واليمن، حتى ولو أغضب هذا الأمر جيرانها المباشرين في دول مجلس التعاون الخليجي. هيمن على الثمانينات الشقاق مع المملكة السعودية والكويت، برغم ميل قطر والإمارات إلى اتباع المواقف العمانية. أما اليوم فإن قطر والكويت تتفقان أكثر مع النهج غير التدخلي الذي دافعت عنه عمان. يأتي ذلك في مواجهة التدخل السعودي والإماراتي في اليمن والمدعوم من البحرين، وازدياد حدة نهج الحوار المعادي للغاية لإيران.
يمكن أن يكون الاختلاف في التعامل مع التهديدات الملموسة والأساليب الدبلوماسية تجاه الأزمات الاقليمية لنزع فتيل الصراع مصدراً للتكامل، ولكنه أيضاً مصدر للفرقة، خاصة عندما تختلف الأفكار السياسية بشكل ملحوظ. ورغم أن جميع أعضاء مجلس دول التعاون الخليجي (ومن بينهم عمان) يرون إيران، بشكل عام، على أنها دولة مهيمنة، إلا أن كل مملكة تستقبل التهديد الإيراني بشكل مختلف. إذ لا تدعم جميع دول مجلس التعاون رؤية المنافس الإيراني الإقليمي أو الأفعال التي تتمنى الرياض فرضها لكبح التهديد الإيراني مما يُقسَم مجلس التعاون الخليجي إلى كتلتين منفصلتين.
فمن جهة تفضل السعودية، والإمارات، مع أبوظبي، والبحرين تبني موقف صارم ضد تدخل إيران المتنامي في الشرق الأوسط خاصة في العراق، وسوريا، ولبنان، واليمن، وحتى البحرين، والكويت منذ بداية العقد الحالي. ومن جهة أخرى هناك نهج أكثر انتفاحاً يعتمد على الوساطة يتبع أجندة سياسية تدافع عنها عمان والكويت، إذ يعارضون التدخل العسكري الذي تشجع عليه الرياض وأبوظبي. أما بالنسبة لقطر والأمير تميم، الذي خلف والده الأمير حمد في الحكم في 25 يونيو 2013، فقد تبنى دبلوماسية أقل انقساماً وأكثر توافقاً مع جيرانه في مجلس دول التعاون الخليجي عبر تطوير علاقات أوثق مع الرياض.
أما فيما يتعلق بالمسألة الإيرانية، فحتى لو كانت الدوحة تخشى جارتها الفارسية القوية أكثر من أي شيء آخر إلا أنها تبنت نهجاً برغماتياً بانضمامها إلى المعسكر الداعم للتهدئة بين جانبي الخليج. وبذلك يبدو المظهر المزدوج لمجلس التعاون الخليجي فيما يتعلق بالسياسة الإقليمية مصدراً للتكامل أكثر منه إلى الانقسام.
كانت الأزمة الأخيرة التي قضت بعزل قطر في الخامس من يونيو عام 2017 هي الأسوأ في تاريخ مجلس دول التعاون الخليجي، والتي جاءت نتيجة الأزمة الدبلوماسية التي اندلعت بين مارس ونوفمبر عام 2014، عندما سحبت الرياض والإمارات والبحرين سفراءهم من الدوحة احتجاجاً على موقف قطر العدائي تجاه نظام الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، والذي جاء نتيجة قمعه العنيف لجماعة الإخوان المسلمين. وصلت الأزمة الحالية (ناهيك عن قطع العلاقات الدبلوماسية، وفرض الحظر الجوي والبري والبحري على الدوحة) إلى درجة عالية من الشدة لأن القادة الإمارتيين والسعوديين يشعرون أن قطر لم تلتزم بالتحذير الصادر في 2014، ومن هنا جاءت هذه المواجهة غير المسبوقة لإعادة قطر إلى رشدها. تعمل إمارة الكويت، بدعم من سلطنة عمان، جاهدة للتوسط لدى دول مجلس التعاون الخليجي لتهدئة الوضع. إلا أن هذه الأزمة ضربت جوهر التضامن وأساس القوة بين الأسر الحاكمة في هذا التحالف الإقليمي. ستترك هذه الأزمة، وعلى خلاف الأزمات السابقة، أثرها الواضح على دول مجلس التعاون وستضعف هذا المجلس الإقليمي على المدى الطويل خاصة مع قلة تواجد السلطان قابوس على الساحة الإقليمية.
دافعت السلطنة عن موقف شديد الشرعية داخل مجلس دول التعاون الخليجي، بصرف النظر عن ثورة غضب الوزير المسئول عن الشؤون الخارجية، يوسف بن علوي، الذي هدد، خلال مؤتمر المنامة في ديسمبر 2013، بالانسحاب من مجلس دول التعاون الخليجي إن تمت الموافقة على خطة تحويل هذا التعاون الإقليمي إلى اتحاد. إذ أجرت عمان هذه المناورة لسحب البساط من تحت الرياض، وسعت عمان إلى منع الإعلان الرسمي للاتحاد في القمة الرابعة والثلاثين لقادة دول مجلس التعاون الخليجي التي أقيمت في الكويت مباشرة بعد قمة الأمن الإقليمي في المنامة. وقد وافقت غالبية الدول الاعضاء ضمنياً على موقف عمان إذ رأوا خطة الاتحاد كمحاولة من السعودية لفرض أجندتها الإقليمية على الجميع.
يُنظر إلى مسقط داخل مجلس دول التعاون الخليجي باعتبارها لاعباً أساسياً يحافظ على توازن القوى والاستقرار في المنطقة حتى فى نظر بعض الدبلوماسيين السعوديين رغم الخلافات التي تؤلبها عمان ضد التدخل السعودي والإماراتي. وينعكس هذا الاهتمام في استثمارات دول مجلس التعاون المكثفة في عمان والتي تقدمها الممالك المجاورة مثل الكويت، وقطر والإمارات المتحدة بقيادة دبي، والتي ضخت 600 مليون دولار من أصل 6 مليارات تُستثمر سنوياً في السلطنة. كما تعد السعودية أيضاً شريكا تجاريا هاما، بينما لا تستثمر إيران شيئاً رغم أنها غالباً ما تُقدم على أنها شريك قوي وأساسي لعمان. إذ إن علاقتهما القوية سياسياً أتت في الأساس بسبب قوة السلطنة الرمزية وحقيقة أن السلطنة تقف في طريق المواجهة المباشرة بين طرفي الخليج.
عمان تدعم الأسلحة والضمانات الأمنية مثل جيرانها من دول مجلس التعاون الخليجي
عززت السلطنة من قواتها العسكرية والأمنية، الأمر الذي يعد من صميم وجود الدولة، رغم دورها كوسيط يحافظ على الاستقرار، متشبهةً في ذلك بالإمارات العربية وخاصة أبوظبي، والمملكة العربية السعودية.
تعد عمان الدولة الأعلى عالمياً من حيث الإنفاق العسكري على التسليح بالنسبة للفرد، بمعدل انفاق بلغ حوالي 17% من إجمالي ناتجها المحلي عام 2015، مقارنة بمعدل إنفاق السعودية العسكري الذي بلغ 10% من إجمالي ناتجها المحلي (تحتل السعودية المرتبة الثالثة بعد الولايات المتحدة والصين ولكن قبل روسيا بحجم إنفاق يبلغ 87 مليار دولار). وتعد ميزانية الدفاع العمانية ثاني أعلى ميزانية في دول مجلس التعاون الخليجي بعد المملكة السعودية وقبل الإمارات المتحدة. إلا أن عمان قللت من ميزانية الإنفاق العسكري في 2017. وتعتبر الولايات المتحدة المورّد العسكري الرئيسي لعمان، شأنها شأن جيرانها من دول الخليج، كما أصبحت الولايات المتحدة قوة حماية بسبب قواتها المتمركزة في القواعد الجوية العسكرية في مسقط، وثمريت، وجزيرة مصيرة، وموسنة (والتي تُجدد اتفاقياتها كل 10 سنوات).
تعد المملكة المتحدة المورّد الثاني للمعدات العسكرية في عمان، بعد أن عززت لندن من وجودها العسكري في جميع أنحاء منطقة الخليج منذ بداية العقد الحالي. فيما تعد المملكة المتحدة أيضاً المستثمر الأجنبي الأهم في السلطنة بحجم استثمارات تبلغ نسبته 50% من إجمالي الاستثمارات الاجنبية المباشرة في السلطنة. كما أن مرحلة ما بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي والتي من المقرر أن تبدأ في أبريل 2019، ستفتح أيضاً الباب لاتفاقية التجارة الحرة بين لندن ومسقط.
كان هذا جزءاً من هدف المملكة لزيادة العلاقات التجارية وتسريع عملية التنويع الاقتصادي العمانية والتي يروج لها برنامج “تنفيذ”. ووقعت لندن أيضاً مذكرة اتفاق مع مسقط في مطلع أبريل 2016 لبناء قاعدة بحرية دائمة بالقرب من ميناء الدقم مقابل 110 مليون دولار (بعد توقيعها اتفاقية مماثلة مع البحرين قبل ذلك بعامين). ومن ثم فإن ميناء الدقم يمثل أهمية استراتيجية وعسكرية للمملكة المتحدة أكثر من كونه ذا أهمية اقتصادية بحتة. وتستثمر الولايات المتحدة، بنفس المنطق، في البنية التحتية للمركز الرئيسي لمطار هذا الميناء حتى تتمكن السفن العسكرية التابعة للأسطول الخامس الأمريكي، المتمركز في المنامة، من استخدامه كميناء اتصال.
أما فرنسا فتعتبر مورّد الأسلحة الثالث الأهم للسلطنة، كما تحافظ على علاقات متينة من التعاون العسكري مع عمان، والتي ازدادت مؤخراً بسبب الحرب ضد الإرهاب. كما كانت هناك علاقة ثنائية تاريخية بين البلدين تعود لعام 1660، حتى قبل قيام فرنسا بعمل علاقات ثنائية مع إيران في عام 1715 تقريباً. إذ تضمنت هذه العلاقة التاريخية أيضاً بُعداً ثقافياً هاماً بوجود المتحف العماني الفرنسي، وهو المؤسسة الوحيدة في عمان التي تكرس جهودها لعرض علاقات السلطنة مع بلد أجنبي. ومع ذلك، فبالإضافة للجانب العسكري والأمني، فإن العلاقات التجارية بين البلدين تقتصر بشكل أساسي على قطاع الطاقة (توتال، وانجي، وفيوليا، والسويس) وتظل علاقات تجارية متواضعة (حوالي 450 مليون دولار سنوياً)، بل ازدادت تواضعاً منذ 2016 بعد التراجع الاقتصادي في عمان.
الاستنتاج
ختاماً، تحتاج الشكوك التي تواجهها سلطنة عمان فيما يتعلق بخلافة السلطان قابوس إلى أن تتم موازنتها. إذ ستتعقد، في المستقبل القريب، مهمة الخلف إن استمر سعر النفط في الانخفاض وهو الأمر المتسبب في التوتر الاقتصادي الحالي في عمان والذي بدأ منذ عام 2014. ولن يتمكن الحاكم المستقبلي من الحكم بسلطة مطلقة مثل السلطان الحالي، الذي يحيط بحكمه هالة من القداسة تقريباً لإخراجه البلاد من الحالة الإقطاعية. كما يحتاج خليفته إلى العمل أكثر على ضم نخبة جديدة من الأعمال التجارية لتنويع اقتصاد السلطنة بشكل فعلي. وسيتعين عليه، على المدى المتوسط، أن يُنشئ عقدا إجتماعيا جديدا، إذ يقوم العقد الحالي على الطاعة المطلقة للسلطان الحاكم ونموذجٍ قائم على الأمن القبلي، لذا من غير المرجح أن يصمد هذا النظام، والذي طوره السلطان قابوس، مع السلطان الجديد لمدة طويلة، ويمكن للحاكم الجديد التغلب على هذا التحدي تدريجياً عن طريق الحكم بشكل يتم فيه إشراك النخبة الأصغر سناً بشكل أكبر.
يجب أن تستمر السلطنة في سياستها الإقليمية القائمة على الوساطة، والتي رسخها السلطان قابوس في أواخر سبعينيات القرن الماضي، والتي تعد الإرث الأهم من عهد السلطان قابوس في منطقة مليئة بالتوترات. إذ ستتمكن السلطنة من الإفادة من هذه الاستمرارية والاعتماد على دعم القوى الإقليمية والعالمية التي من صالحها جميعاً دعم عمان إقتصادياً وسياسياً، لأن دورها الإقليمي كوسيط وموقعها الاستراتيجي على مفترق طرق شبه القارة الهندية والافريقية يحفز اللاعبين الخارجيين على الحفاظ على مكانة عمان في ميزان القوى حالياً وفي فترة ما بعد قابوس.
تظهر الأزمة الحالية المثارة حول قطر أنه بالرغم من غياب السلطان قابوس العلني، إلا أن الوساطة الدبلوماسية لعمان لازالت مستمرة. إذ أيدت السلطنة تصرفات أمير الكويت، العضو الأكبر سناً في مجلس دول التعاون الخليجي، والذي بدأ، بسبب علاقته الوثيقة بالملك سلمان حاكم السعودية، بالتحكيم بين السعودية وقطر.