ينطلق من حدسه الشعري الأول بالعالم المحيط، كما لو أنَّه يعيدُ تشكيله المرَّة تلو المرَّة، وينطلق من قصيدةٍ إلى أخرى وكأنَّه يتقمَّص أدوارًا قد تنجيهِ من ظلمِ الأسقف الواطئة، والنوافذ المغلقة، والتاريخ المتراكم عند كلِّ العتبات.
يؤمن بأهمية الفلسفة والحرية كطاقة نور تسهم في الخروج من عتمة الماضي وظلم الإنسان لأخيه الإنسان والسعي لتغليب المصالح وسيادة المكاسب فوق رقاب وحقوق الآخرين، كما يبكي في كلماته على أحوال حريات الرأي والتعبير والكتابة كمتنفس حقيقي إذا ما قورنت بنظيراتها في الغرب الأوروبي في ظل مناخ عربي سياسي لا يسمح بالرأي الآخر ولا يؤمن إلا برأي واحد والباقي قطيع يسمع فيطيع وإلا كان خائنًا.
إنه الكاتب والشاعر السعودي زكي الصدير، الذي تحدث في حوار خاص إلى مجلة “مواطن” عن قيمة الجوائز العربية ودورها الهام في إثراء مناخ الإبداع والثقافة، والمعوقات التي تقف أمام حركتي الطباعة والنشر، وأعماله الأدبية المقبلة، وتقييمه لمناخ الحريات بشكل عام في المنطقة العربية وشروط نجاح العمل الشعري جماهيريًا ونقديًا والعوامل التي تقف وراء تشكل ووجود المبدع الحقيقي، وأهم العقبات والتحديات التي تعترض حركتي الثقافة والأدب، كل هذا وأكثر في السطور التالية.
حوار : عبدالرحمن سعد
- المنطقة العربية بلا حريات، ومقارنتها بنظيراتها في الغرب أمر كاريكاتوري
- الفلسفة ولدت ميتةً في ظل أنساق دينية وسياسية عربية متتالية صادرت الحق بالتفكير
- العرب يستبدلون عقلية مستبدة بأخرى أكثر استبدادًا منذ الإطاحة بالعثمانيين إبان الحرب العالمية الأولى
- بعد ثورات الربيع.. الإنسان العربي يعيش رعب التعبير عن الرأي مخافة الرقيب
- معظم دور الطباعة تسوّق كتّابها وفق الهوى.. والأمن يكمن في الإيمان بأن رأسك لن تقطعه كلمة
- التجارب الكبيرة والتنوع الثقافي بالإضافة للموهبة عوامل تخلق المبدع الحقيقي
- محتاجون لمراجعات ثقافية شجاعة تقدّر قيمة السؤال لتجسّر الهوة بين مناهجنا والحياة العملية
- الديكتاتوريات الجديدة أتت مع حمل ثقافي مؤسس على وعي ومباركة مجموعة من المثقفين الثوريين
- إلا قليلًا.. الشاعر لم يعد قادرًا بأدواته اللغوية المحضة الوصول إلى القارئ غير النخبوي
- “الفكر يناقش بالفكر” مجرد شعار فضفاض.. وأي ثورة تأكل أبناءها للأسف
- البرامج والمسابقات والفعاليات العربية لم تبصر المواطن العادي بأهمية الثقافة والشعر والرواية والسينما
فإلى نص الحوار:
1- في البداية.. كيف تقيم حرية الرأي والتعبير والكتابة عربيًا؟
لا يوجد حرية للرأي أو التعبير أو الكتابة في جنبات الوطن العربي، وهذا الحكم التعميمي لا يشتغل في منطقة الموقف السياسي من الحرية فحسب، بل يمكن اعتباره موقفًا أعم لأن الحرية مرتبطة بالأمن لدى الإنسان وأن رأسك لن تقطعه كلمة، كما عبرت عنه الكاتبة بدرية البدري في روايتها “ظل هيرمافروديتوس”. حيث يدخل فيه الموقف الاجتماعي والديني والنسقي بوجه عام. الأمر الذي يجعل من الحديث عن الحريات -كما هو معمول بها في الغرب- أمرًا كاريكاتوريًا وأشبة باليوتوبيا غير الموجودة، لأنها تعيش على الهامش يسمح به في وقت وتنزع في وقت.
2- برأيك كيف ترى تعامل الأنظمة العربية مع أصحاب الفكر ؟
منذ الثورة العربية الكبرى إبان الحرب العالمية الأولى، والأنظمة العربية تستبدل عقلية مستبدة بعقلية أكثر استبداداً، صحيح، استطاعت الثورة أن تطرد المستعمر العثماني لكنها جلبت سلطات مركزية دكتاتورية مختلفة ومتنوعة أكثر دموية من المستعمر نفسه. والأدهى أن الديكتاتوريات الجديدة أتت مع حمل ثقافي مؤسس على وعي مجموعة من المثقفين الثوريين الذي باركوا للعصر الحديث ورفعوه جماهيريًا بدون مساءلات حقيقية تجعل من الفكر المعارض وقيمته منطقة للمماحكات الثقافية المثمرة، وفي النهاية الثورة تأكل أبناءها، وهذا ما حصل ويحصل وسيحصل على الدوام.
3- الاهتمام بالفلسفة وإعمال العقل.. من يهتم بهما في الوطن العربي؟
هذا تساؤل يعود بنا إلى البدايات، حين كان العقل يشكّل قيمة إنسانية مستقلة في منظومة المعرفة، ويجعلنا نتساءل بحرقة: هل كانت لدينا – حقًا- فلسفة حية؟ أوَلَم تولد الفلسفة ميتةً – أصلًا- في ظل أنساق دينية وسياسية عربية متتالية صادرت الحق في التفكير، وفي صناعة الأسئلة تحت ذرائع واهية، كان لها الدور الأكبر في تخلّفنا عن ركب الحضارة؟!.
هذا التساؤل ليس جديدًا في الحقيقة، لكنه يتجدد على الدوام بالمعطيات التكنولوجية التي استطاعت أن تقدّم أجوبة لا تحتمل المعالجات الميتافيزيقية الجاهزة مثل تلك المعالجات الكنسيّة/ الجاليليويّة المغيِّبة للعقل لقرون طويلة عن دوره الأساسي في إيجاد فهم شامل للكون وأسئلته اليومية الملحة!.
لا يمكن أن تعيش الفلسفة في بيئة ثقافية طاردة لها، فنحن محتاجون –فعلًا- لمراجعات ثقافية شجاعة تقدّر قيمة السؤال، لا قيمة الإجابة، لتجسّر الهوة بين مناهجنا والحياة العملية، ولتدرج الفلسفة في منظومتنا التعليمية الجديدة جنباً إلى جنب مع مناهجنا الأخرى حتى يسمو طلابنا بالأسئلة، ويدركوا قيمتها، فالشعوب التي لا تتساءل هي شعوب ميتة.
4 – ماذا عن قيمة الجوائز العربية في إثراء مناخ الإبداع؟
في العام 2007، انطلقت معظم البرامج ذات الصيت العالي من إمارة أبوظبي، ولكنها لم تتوقف عندها، فبدأت الدول المجاورة تتنافس خليجيًا، وتقدّم برنامجًا تلو الآخر ليحظى بالجماهيرية، وليقدّم المثقف أو الشاعر أو الروائي في صورة كاملة لا تخلو من السوبرمانية الفاقعة في الحدث العالي الدقة.
ولا شك أن الاحترافية في هذا الأمر مطلوبة ومحبذة، ولكن السؤال ما زال يطرح نفسه أمامنا على الدوام، إلى أي حد استطاعت هذه البرامج والمسابقات والفعاليات أن تكون على الأرض وأن تجعل الثقافة والشعر والرواية والسينما مادة يستفيد المواطن العادي منها قبل النخب الثقافية، التي تتعامل معها كـ”بريستيج” ووجاهة اجتماعية؟.
5- وكيف تلمس آراء الكتاب والشعراء حول دور الجوائز في المنطقة العربية؟
لا يخفى على المتابع مدى الإحجام الذي أصبح يرافق الجوائز من الكتاب والشعراء والروائيين الحقيقيين، إلى درجة أن بعض الكتاب صار يعبّر عنها في كتاباته بأنها مسابقات المراهقين وأنصاف المثقفين والموهوبين برتبة ثانية أو ثالثة، الأمر الذي يؤكد غياب الاتفاق عليها رغم القيمة التي كانت عليها في بداية انطلاقتها بهدفية عالية، وبلجان تحكيم متفق على مصداقيتها ووعيها الثقافي وأيضًا متفق على حياديتها السياسية. ولكن الأمر لم يعد -على ما يبدو- كما كان، لا سيما بعد الربيع العربي وانقساماته الطائفية والسياسية والحزبية بين المؤسسات والمثقفين أنفسهم.
وكذلك لم يعد عليها فيما يخص المتابعات الجماهيرية التي كانت قبل عشر سنوات. فكم هي نسبة من يعرف منا -دون الرجوع إلى محرك البحث العالمي الشهير “جوجل”- من هو أمير الشعراء، ومن هو شاعر المليون، ومن فاز بالبوكر وكتارا في العام 2018، ومن الشاعر الذي ارتدى بردة عكاظ الشعرية في الطائف هذا العام، ومن فاز بجائزة الثبيتي أو العويس؟ باعتقادي في ظل اتساع الهوة بين المؤسسات واحتياج الشعوب في ما يخص حياتها اليومية، فإننا أمام فعل ثقافي يكلفنا الكثير لكنه لا يعطينا شيئًا سوى الدعاية السنوية التي ستحفظ لنا اسمنا كعواصم ثقافية قادرة على تقديم الدولارات فقط، وهذا ليس هدفنا بالتأكيد.
6- حدثنا عن أبرز الأعمال المطروحة التي نالت استحسانك في الفترة الأخيرة من حيث أهمية القضية التي تتناولها؟
رواية “جماعة الرب” للروائي والمترجم المصري عبد السلام إبراهيم، التي صدرت مؤخرًا عن دار عرب للنشر والترجمة في لندن، وتأتي هذه الرواية بعد عشرة أعمال مترجمة، وخمسة أعمال سردية تنوّعت بين الرواية والقصة القصيرة، نذكر منها على سبيل المثال “الملائكة لا تأكل الكنتاكي” و”مسافة قصيرة جدًا للغرق” و”كوميديا الموتى”. وهي من الرويات التي تخوض في مناطق وعرة في جنوب مصر لم يقربها أحد من قبل.
وتناقش رواية “جماعة الرب” مسألة الهوية والتلاعب بالوعي في ما بعد الربيع العربي في مصر بشكل خاص وبعض الدول العربية بشكل عام، وما طرأ عليها من تغييرات سياسية واجتماعية ومحاولة الربط بين سنوات ثورة 25 يناير وأحلام الشباب في التغيير وما بعدها والانكسارات والفجوات الكبيرة التي خلّفها الربيع العربي، وتتعرض لقضايا إعادة تشكيل المجتمع الأنثربولوجي في الأقصر المصرية من خلال صحافيات شابات يعملن في جريدة مستقلة تعكس ما يحدث في الشارع المصري من أحداث سريعة ومتلاحقة تحتاج لصحافيين من طراز خاص وقارئ متطور يمكنه أن يؤدي دور الصحافي في إرسال الأخبار الجديدة للجريدة فيشارك في صنع الخبر الذي هو جزء أصيل منه.
وتستخدم “جماعة الرب” مسألة الخصاء في مدينة الأقصر جنوب مصر بصورة مُتفردة، حيث تستعيد عمليات الخصاء القديمة، وقضية “الخصاء الكبرى” وربطها بالعمليات التي تجري بأشكال مختلفة على مر الأجيال ومحاولة ترميزها وإسقاطها لتعكس ما يتم في المجتمع المصري سواءً كان عبارة عن مؤامرات خارجية أم مؤامرات داخلية ليخضع المجتمع المصري كله لعملية خصاء واسعة النطاق.
وتأتي فكرة الخصاء في رواية “جماعة الرب” كمعادل اعتباري لارتباكات الهوية بعد مآلات الربيع العربي المخيبة لآمال المثقفين، لا سيما مثقفي الداخل الذين عاشوا بشكل مباشر تطورات ارتدادات الربيع على وعي الكتل الاجتماعية على اختلاف مستوياتها.
7- وماذا عن أعمالك الأدبية المقبلة؟
بين يدي عملان أشتغل عليهما بشكل متوازٍ، الأول شعري، تحت عنوان “المبيت في خنادق الملح”، والثاني سردي يحمل عنوان “منسيون”، وهو عمل سردي طويل بدأت الكتابة فيه منذ 2002م، وما أزال أشتغل عليه حتى الآن، ولا أعرف بالتحديد متى يمكن أن أنتهي منه. لكنه فضاء مفتوح للاعتكاف الإجباري، وللذاكرة المتعلّقة بالجدران وبسطوتها على الإنسان المحتجز فيها، وهنا يمكن أن نستحضر تاريخًا طويلًا من التجارب الإنسانية الكونية العميقة التي احتجزت لأسباب سياسية أو اجتماعية أو نفسية.
8 – ما الإشكاليات التي واجهته عند كتابة “عودة غاليليو”؟
في الوقت الذي أوجدت عاصفة الربيع العربي شعورًا بالحرية ذات سقوف عالية، أتاحت الكلام عن مناطق التعبير الجديدة، وعن الدولة المدنية، وعن مأساة الدول العربية تحت مفاهيم اختبرها العالم المتقدم، مفرزةً النتائج التي نراها أمامنا، سواءً كانت ناجحة أم كانت تحتاج إلى المزيد من التطوير. في هذا الوقت، يعود للإنسان العربي شبح الخوف من التعبير عن رأيه، ومن قول ما يؤمن به مخافة الرقيب بمعناه العام الذي أصبح أكثر شراسة منه بعد الربيع.
هذا الشعور بالخوف هو ما تدور حوله مجموعة “عودة غاليليو”، حيث عودة الخوف والارتياب والصمت، في إحالة تاريخية تذكرنا بهيمة الرقيب السياسي الديني في عصر النهضة الأوربي على صنمية الأفكار من أجل حراستها وحراسة أنفسهم. إن هذه العودة هي بمثابة عودة للفوضى لكل مفاصل وتاريخ الدول العربية التي عاشت عاصفة الربيع أو تفرجت عليها من بعد.
لا يوجد إشكالية بالمعنى الحرفي للكلمة، فالكتابة احتاجت مني بحثًا في تاريخ الخوف، وارتدادات الأفكار بسبب السلطة بمعناها الشامل، سواءً كانت سياسية أو دينية أو اجتماعية، وكيف انعكست هذه السلطة على تشكّل النص وحقيقته.
9 – برأيك.. ما شروط نجاح العمل الشعري جماهيريًا ونقديًا؟
هذا يعتمد على معنى “النجاح”. وأعتقد أنه لم يعد الشاعر قادرًا بأدواته اللغوية المحضة الوصول إلى القارئ غير النخبوي. الأمر الذي يجعله قابعًا في إطار لا يستطيع من خلاله الاتّساع ومعانقة القارئ البسيط. ويعود ذلك لتعاظم انكفاء معظم الشعراء على ذواتهم، ولعدم قدرتهم على الانصهار مع فكرة الخروج إلى القارئ غير النخبوي والأنظمة العربية تستبدل عقلية مستبدة بعقلية أكثر استبداداً تجاوز السؤال الفلسفي للسؤال الحياتي اليومي. هنالك تجارب استطاعت أن تستوعب بعمق ما يدور حولها فأنتجت اشتغالات شعرية مهمة، لكنها قليلة، ولا يمكن اعتبارها ظاهرة من الممكن القياس عليها.
10- إلى أي مدى تشكل تحديات الطباعة والنشر والتوزيع عوائق أمام حركة الثقافة والأدب؟
عربيًا، معظم دور الطباعة تسوّق كتّابها وفق الهوى وعلى أساس ثلاثة عقود، العقد الأول يقوم على تحمل الكاتب كامل تكلفة الطباعة وهذا العقد يجعل من القادر كاتبًا وروائيًا وشاعرًا بمجرد أن يدفع دولاراته للناشر، والثاني يتحمل الطرفان فيه التكلفة مناصفة، أما الثالث -وهو نادرًا ما يحدث- فتتحمل دار النشر التكلفة كاملة للطباعة والنشر والتوزيع. وفي رأيي لو التزمت دور النشر جميعها بالعقد الثالث، لكانت هي نفسها الأكثر حرصًا على جودة مطبوعاتها وتسويقها وكان هناك رواج كبير.
11- ما أبرز انتقاداتك لمعرض البحرين الدولي للكتاب في نسخته الأخيرة؟
أي مناسبة أو محفل أو معرض أدبي يسهم بلا شك وله دور جيد في الارتقاء بالكلمة والأدب عامة، ولكن ما أن دخلت العتبات الأنيقة لبوابات معرض البحرين الدولي للكتاب المقام مؤخرًا بجوار قلعة عراد التاريخية بمدينة المحرق إلا واصطدمت بدور “الهشتك بشتك” ذات الكتب المعادة طباعتها ثلاثين مرة وأكثر، والمعنية بتسويق روايات المراهقين والمراهقات التي لم يسمع أحد بكتّابها، والتي تعزز من مفاهيم الجهل المؤسساتي المعمّم كما يدعوه محمد أركون، بينما الدور العربية العريقة كانت تضيع مثل دار ورد والساقي والمدى والجمل وغيرها في أطرف أطراف المعرض، وكأنها هامش ضئيل في متن هائل. الأمر الذي أثر سلبًا بطبيعة الحال على مبيعاتها، وبالتالي على قدرة الدار على التماسك والاستمرارية لأعوام قادمة.
12- وما أبرز العوامل التي تفرز المبدع الحقيقي؟
من الواضح أن التجارب الكبيرة والتنوع الثقافي بالإضافة للموهبة هي التي تخلق المبدع الحقيقي الذي يستطيع أن يوثّق التاريخ ليس بوصفه فعلاً فحسب، وإنما بوصفه -أيضاً- حالة إنسانية عميقة، يستطيع المبدع/ الرائي أن يستشرف من خلالها التاريخ دون الوقوف عنده.