تعيش سورية أزمات عديدة منذ عام 2011 وحتى الوقت الراهن، دون ظهور أية بوادر لحلّ تلك الأزمات المُتزايدة والتي يُعاني منها الشعب بكل طوائفه، فلقد شُرّدت العائلات الآمنة من ديارها، وقُتل الأبرياء من الشباب والشيوخ ومن النساء والأطفال دون أي ذنب يُذكر، وقُسّمت الدولة الموحدة لأول مرة منذ إعلان استقلالها إلى مناطق متفرقة يُسيطر عليها كل من بيده قوة السلاح، بحيث أصبحت سورية الآن مرتعًا سهلاً لمعارك الإرهاب والتطرف، وملجأً للتنظيمات والميليشيات المُسلحة لممارسة أفعالها الإجرامية ضد المدنيين الأبرياء تحت شعارات ودعاوى واهية بحجّة الحرب ضد نظام بشار الأسد “القمعي” حسب وصفها، وهنا يجب إيضاح حقيقة مهمة أكدتها المنظمات الحقوقية في مُعظم تقاريرها الخاصة بسورية وتتضمن ممارسات الميليشيات المُسلحة ضد مُعارضيها بشكل عنيف مما يجعلها متساوية مع النظام في ممارسة ذلك الاستبداد العنيف الذي رفضه أغلبية الشعب الثائر عندما قاموا بتظاهرات سلمية في أوائل عام 2011، من أجل المطالبة بتنفيذ حقوقهم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية المُهدرة منذ عقود، وهذه حقيقة لا يُنكرها إلا جاحد أو جاهل أو متعصّب.
ولمعرفة الأسباب التي أدت إلى نشوب الحرب الأهلية في سورية، يجب إيضاح أبرز الأحداث المهمة التي وقعت في البلاد لنصل إلى حقيقة الوضع الراهن على الأرض في سورية منذ اندلاع الشرارة الأولى للثورة ضد نظام بشار الأسد وحتى الآن، وطريقة التعامل العنيفة من قبل القوات الأمنية والحكومية ضد المُتظاهرين السلميين في ذلك الوقت، الأمر الذي أدى في المقابل إلى تكوين مُعارضة مُسلحة باسم الثورة لمواجهة عنف النظام، وكذا ظهور ميليشيات إرهابية تنتهج العنف باسم الدين، مما تسبب في حدوث ذريعة من قبل بعض الدول الكبرى للتدخل العسكري في الشأن الداخلي للبلاد.
بداية الثورة ضد النظام في أوائل عام 2011
لقد تعرّضت سورية إلى الكثير من الممارسات القمعية منذ تولي عائلة الأسد للحكم في عام 1971 وحتى الآن “وفقًا لتقارير منظمة العفو الدولية”، فلم تكن للديمقراطية أي وجود داخل النظام السياسي، وأبسط دليل على ذلك الطريقة المُريبة والتي وصل من خلالها الابن بشار الأسد إلى سُدّة الحكم، فبعد وفاة والده سارع مجلس الشعب السوري حينها إلى تعديل الدستور ليسمح لبشار الأسد خلافة والده في الحكم وسط انتهاك صارخ لأبسط القواعد المعمول بها في النظام الجمهوري حول العالم والذي يرفض مبدأ الوراثة في الحكم، ومع كل هذا كان يأمل الشعب السوري أن يحدث تغيير للأفضل مع بداية عهد بشار الأسد، ولكن حدث ما لم يكن يتوقعه الشعب، حيث زادت الممارسات القمعية من قبل النظام، وانتشر الفساد على كل الأصعدة داخل مؤسسات الدولة المختلفة، وانتهت الحياة السياسية الحزبية بشكل كامل من الصورة، لينفرد حزب البعث وحده في إدارة كل مؤسسات الدولة، دون وجود أيّ مشاركة فعلية من باقي الأحزاب والقوى السياسية الأخرى، الأمر الذي كان يُنبىء حتمًا باندلاع ثورة هائلة وهو ما حدث فعلاً، حيث شهدت البلاد احتجاجات وتظاهرات عارمة مع بداية الربيع العربي في شهر مارس/آذار 2011، وبدأت تلك الاحتجاجات بشكل سلمي، وكانت تهدف إلى المُطالبة بتحسين الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية للمواطنين، وتوفير بيئة مناسبة للمشاركة السياسية وتداول السلطة بشكل سلمي، الأمر الذي قوبل بالعنف الشديد من قبل القوات الأمنية التي عملت على قمع الاحتجاجات والتظاهرات السلمية، فلم يتعامل النظام في حينها بشكل أمثل لاحتواء الموجة الأولى للثورة السورية منذ بدايتها، لترتفع مطالب الثوار إلى إسقاط حكم بشار الأسد بعد تورّطه في قتل المتظاهرين السلميين لمجرد مُطالبتهم بحقوقهم القانونية المنصوص عليها في دستور النظام ذاته.
طريقة تعامل النظام السوري مع التظاهرات في بدايتها
رفض بشار الأسد مُطالبة المتظاهرين السلميين له بأن يتنحى عن الحكم بطريقة عزيزة في بداية الثورة، وصار يُراوغ المُحتجين على حُكمه، حتى يكتسب وقتًا، ظنًا منه أن التظاهرات قد تهدأ مع مرور الوقت، ولكن خُيّب ظنه وسُرعان ما تزايدت التظاهرات المناوئة لنظامه في أرجاء سورية، لتتصاعد وتيرة العنف من قبل القوات الحكومية ضد المُطالبين بإسقاط النظام، حتى قُتل العديد من المُعارضين السلميين، واعتقل الكثير من الأبرياء دون وجود أي سند قانوني، وقُصفت المناطق بالمدافع والطائرات، وانتشرت مظاهر العنف في أرجاء سورية خاصة بعد تشبث بشار الأسد بالسُلطة، دون النظر إلى مصلحة وطنه الذي تمّ تقسّيمه، وشعبه الذي قُتل وشُرّد في أنحاء العالم المختلفة، كل هذا من أجل سبب وحيد وهو الحفاظ على حكمه.
تكوين مُعارضة مُسلحة باسم الثورة لمواجهة عنف النظام
برغم أن طبيعة المُعارضة السياسية في أي دولة دستورية ترتكز على الأحزاب أو التكتلات السياسية المستقلة لخوض الانتخابات ومنافسة الأنظمة الحاكمة بشكل سلمي في الانتخابات للوصول إلى الحكم ومن ثم يحدث التداول السلمي للسًلطة، إلا أن الوضع في سورية مختلف بشكل جذري عن قواعد السياسة المعمول بها عالميًا حيث أصبحت مجموعة كبيرة من المُعارضة السياسية مُسلحة، خاصة بعد توجيه بشار الأسد قواته في بداية الثورة السلمية إلى مواجهة المُعارضين السياسيين له بشتى وسائل العنف المرفوضة قانونيًا وإنسانيًا وهو ما حدث فعلاً، ليتسبب النظام الحاكم بتلك الطريقة العنيفة في التعامل مع المتظاهرين السلميين إلى نشوب حرب أهلية قضت على الأخضر واليابس.
انتشار الجماعات الإرهابية المُسلحة
انتعشت الحركات الطائفية العنيفة في أرجاء سورية، بسبب عوامل عدة لعل من أبرزها انحياز الجيش السوري بشكل كامل إلى النظام الحاكم دون النظر إلى مصلحة الشعب، والسبب في ذلك يكمن في طبيعة تكوين الجيش الذي تمّ تكوينه على أساس طائفي، فقوامه الأكبر من الأقلية العلوية التي ينتمي إليها بشار الأسد، وكان من الطبيعي أو المنطقي بالنسبة للواقع السوري أن يقف الجيش مع قائده العلوي حفاظًا على مصالح الطائفة التي يُمثلها بشار الأسد، بجانب وجود ميليشيات حزب الله الحليفة للنظام السوري في الصورة إذ تدخلت لمساعدة جيش بشار الأسد في مقاومة الاحتجاجات الشعبية، وقتلت العديد من السوريين الرافضين لسياسات النظام الديكتاتوري، مما تسبب بالمقابل في تكوين تنظيمات سُنية مُسلحة لمواجهة جيش بشار وميليشيا حزب الله، لتتحول التظاهرات السلمية إلى حرب طائفية عنيفة، وأصبحت سورية ملاذًا آمنًا للمتطرفين والإرهابيين يلجؤون إليه من كل أنحاء العالم، لتنفيذ أجندتهم الطائفية وأعمالهم الإجرامية الخطرة.
بشار الأسد من وجهة نظر السوريين المؤيدين له
رغم كل ما يحدث في سورية من مآسٍ قد تسبّب النظام في صناعتها بعد فشله في التعامل مع الثورة منذ بدايتها، إلا أنه على الجانب الأخر يؤيد بعض السوريين بقاء بشار الأسد في الحُكم ويتمثل ذلك التأييد في الجيش النظامي والقوات الأمنية التابعة للحكومة وكثير من المواطنين القاطنين داخل المناطق الشيعية والعلوية بالإضافة إلى الأقليات الدينية من المسيحيين وغيرهم بجانب بعض المواطنين السُنة المحسوبين على النظام، بسبب اعتبارات عدة أهمها الحفاظ على مصالحهم بالإضافة إلى خوفهم من بطش الجماعات الإرهابية بهم، خاصة بعد إعلان تأييدهم لاستمرار بشار الأسد في السُلطة، أيضًا توجد فئة ليست بالقليلة من هؤلاء المواطنين المؤيدين للنظام يعتقدون أن وجود سلطة مركزية في دمشق ستعيد إلى الدولة وحدتها كما كانت عليه في السابق قبل اندلاع الثورة في 2011.
التدخلات العسكرية من جانب بعض الدول الكبرى
إن الواقع السوري يشهد الآن حالات عديدة من التدخلات الخارجية من كبار الدول العظمى أمثال الولايات المتحدة الأميركية وروسيا الاتحادية بجانب تركيا وإيران دون أن نرى أي تواجد عربي ملحوظ على الساحة، وكأن سورية صارت أرضًا منعزلة عن باقي الدول العربية، في وقت سعت فيه طهران إلى السيطرة بكل قواها السياسية والعسكرية على دمشق، من خلال قيامها بالعمل على إمداد بشار الأسد بالسلاح والعتاد بواسطة الحرس الثوري الإيراني، لمواجهة قوى المُعارضة في سورية، وذلك بسبب التقارب المذهبي بين النظامين الحاكمين للبلدين، خاصة بعد حدوث انشقاقات من قبل بعض الضباط السُنّة داخل صفوف الجيش النظاميّ الذي يُمثل قوامه الأكبر من الطائفة العلوية الشيعية كما ذكرنا سابقًا، مما زاد من تعقيد الموقف أكثر مما عليه منذ اندلاع الثورة في شهر مارس/آذار 2011 وحتى وقتنا الراهن، وأصبحت الطائفية عنوانًا رئيسيًا للحرب في سورية. ومن جانب آخر تلعب تركيا دورًا فاعلاً ومؤثرًا، حيث يتواجد الجيش التركي في أماكن عدة داخل سورية ومن أبرزها منطقة عفرين التي يُسيطر عليها بشكل شبه كامل، مما يجعل من أنقرة قوة فاعلة لا يُستهان بها عالميًا بالنسبة للشأن السوري، خاصة أنها تستضيف أيضًا الكثير من اللاجئين السوريين بحكم اقترابها من الحدود السورية وإطلالها على البحر المتوسط.
الدور الأميركي والروسي في سورية
كما تتواجد الولايات المتحدة الأميركية بشكل فعلي داخل سورية منذ عهد باراك أوباما وإلى الآن في إطار الحرب على الإرهاب من خلال مُحاربة تنظيم “داعش” المتطرف، وفي المقابل أيضًا يتواجد لروسيا قوات تابعة لها تمّ إرسالها إلى سورية من أجل إنقاذ النظام “الأسدي” الحليف لها من الانهيار الذي شهده، خاصة بعد تسلّح المُعارضة وسيطرة التنظيمات المتطرفة على كثير من الأراضي السورية التي كانت خاضعة تحت سيادة القوات الحكومية في وقت سابق، وبالفعل نجحت موسكو في إعطاء قُبلة الحياة من جديد للنظام في دمشق، حيث ساعدته على استعادة بعض المناطق التي قد استولت عليها التنظيمات المتطرفة، مما جعل بشار الأسد يشعر بزهوة الانتصار الزائف، رغم تشريد الكثير من شعبه، وقصف المدنيين العُزّل بالبراميل المُتفجّرة والأسلحة الكيماوية بحجّة الحرب ضد الإرهاب للقضاء على المُتطرفين داخل سورية، ظنًا منه أنه بذلك سيجعل العالم يرتضي بنظامه كبديل عن حكم الإرهابيين في وطن صار للأسف رمادًا وأنقاضًا.