فضح الاقتراع الأخير في الأمم المتحدة بشأن مشروع قرار يدين اعتراف الولايات المتحدة الأمريكية بالقدس عاصمة لـ الكيان الصهيوني ، التخاذل العربي تجاه “الدول الإفريقية”، حيث تغيرت خريطة ومواقف بلدان القارة السمراء تجاه القضية الفلسطينية التي كانت منذ عام 1948جزءًا وشريكًا مهمًا وحيويًا في مساندة “أبناء الأقصى” لفترات طويلة.
فرغم تصويت أغلبية الدول الأعضاء في الأمم المتحدة لصالح القرار بإجمالي 128 دولة إلا أن التسع دول التي رفضت القرار، والـ 35 دولة التي امتنعت عن التصويت، إضافة إلى عدم حضور 21 دولة أخرى أثبت نجاح الكيان الصهيوني في تحييد أطراف جديدة إليه رغم امتناعهم عن التصويت أو عدم حضورهم، خصوصًا في “إفريقيا وأمريكا اللاتينية وآسيا”.
مجلة “مواطن” ستحاول أن تقودك إلى جزء من التاريخ القريب في إفريقيا غيرته محاولات الاحتلال الإسرائيلي من خلال سياستها الخارجية من موقف العدو إلى “المحايد” أو الصديق أو القريب.
بداية إسرائيل
منذ بداية تواجد الاحتلال الإسرائيلي في المنطقة، وهو يضع نصب عينيه طموحًا أبعد يسعى إلى تحقيقه، يتمثل في فرض سطوته وإقامة علاقات قوية وراسخة ليس مع القوى الكبرى في العالم مثل “أمريكا وفرنسا وبريطانيا وروسيا” فقط، ولكنه يمتد إلى الدول المغمورة خصوصًا في إفريقيا والتي تسعى من خلالها إلى إقامة شراكات “سياسية واقتصادية” تمكنها من تطويق الشرق الأوسط طبقًا لنظرية رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، ديفيد بن جوريون.
وبحسب أحد أبحاث “المركز الوطني للأبحاث المصري” فإنه مع تواجد دولة الاحتلال في المنطقة عام 1948، كانت الدول الإفريقية شريكًا أساسيًا مع الدول العربية في مواجهته خصوصًا بالنسبة للقضية الفلسطينية والتي كانت تعتبر حركة “تحرر وطني” مشابهة لنظيرتها في الدول الإفريقية التي كانت تقع تحت يد الاستعمار خلال الحقبة ذاتها.
وسعت إسرائيل منذ وجودها في الشرق إلى كسر الحصار وحالة العزلة التي كانت تعاني منها، من خلال إقامة شراكات مع الدول الإفريقية في ظل الرفض العربي القاطع حينها، من أجل كسب الاعتراف الدولي والحصول على أصوات في المحافل الدولية فكانت دولة ليبيريا أولى الدول الإفريقية التي اعترفت بالاحتلال الإسرائيلي وثالث دولة على مستوى العالم.
واستمرت السياسة الإسرائيلية على نهجها ذاته، فاستطاعت إقامة علاقات دبلوماسية عدة منذ عام 1957 والذي يعد الانطلاقة الحقيقية للعلاقات “الدبلوماسية الإفريقية”، حيث كانت إسرائيل أول دولة تفتح سفارة لها في العاصمة الغانية أكرا بعد أقل من شهر واحد من حصول غانا على استقلالها 1957.
وواصلت إسرائيل نهجها وتوسعت رقعة النشاط الدبلوماسي لتشمل “نيجيريا، السنغال، ساحل العاج”، كما لاقت ترحيبًا فوريًا من الدول الإفريقية الفرانكفونية، كما نجحت في إقامة علاقات مع 32 بلدًا إفريقيا، واستطاعت أن تفتح سفارات لها في 30 دولة إفريقية أي عمليًا مع جميع دول القارة باستثناء الدول العربية والإسلامية والمستعمرات البرتغالية، بينما احتفظت بعلاقات قنصلية مع جنوب إفريقيا وموريشوس.
وخلال الفترة من عام 1957 نجحت إسرائيل في التغلغل في إفريقيا، حيث زار وزير الدفاع الإسرائيلي، موشى ديان، ليبيا وغانا، وبعد عام فقط، زارت وزيرة الخارجية الإسرائيلية- حينها- جولدا مائير “ليبيريا، غانا، نيجيريا، السنغال، ساحل العاج” في ظل غياب الدبلوماسية العربية.
وشهد عام 1958 صدمة كبرى بالنسبة للدول العربية، مع دعوة الرئيس الغاني كوامي نكروما الدول الإفريقية للمشارِكة في المؤتمر الأول للبلاد الإفريقية المستقلة، حيث قدمت مصر اقتراحًا لوصف إسرائيل بالعنصرية والإمبريالية، ليرفض أغلبية الدول الأعضاء التصويت على الاقتراح المصري، بحسب دراسة لأستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة الدكتور حمدي عبد الرحمن بعنوان: “إسرائيل وإفريقيا في عالم متغير”.
إفريقيا تنتفض
ولكن رغم التقارب الظاهر في العلاقات “الإسرائيلية الإفريقية” إلا أن دول القارة السمراء بدت إلى جوار جيرانها، فمنذ حرب عام 1967 شهدت العلاقات بين الكيان الصهيوني والدول الإفريقية اضطرابًا كبيرًا، ففي الوقت التي كانت تحرص فيه منظمة الوحدة الإفريقية على عدم إدانة إسرائيل بدأت تتدرج في التعريض لموضوع القضية الفلسطينية مطالبة بالانسحاب الإسرائيلي من الأراضي العربية المحتلة ومع ازدياد التقارب “العربي – الإفريقي”، وإزاء التعنت الإسرائيلي بدأت منظمة الوحدة الإفريقية تتخذ قرارات أكثر حزمًا.
واستمرت العلاقات في تأرجح كبير حتى عام 1973، ففي شهر مايو اتخذت منظمة الوحدة الإفريقية، قرارًا “تضمن تحذيرًا رسميًا لإسرائيل بأن رفضها الجلاء عن الأراضي العربية المحتلة يعتبر اعتداء على القارة الإفريقية وتهديدًا لوحدتها، وأن الدول الأعضاء في منظمة الوحدة الإفريقية تعتبر نفسها لذلك مدعوة لأن تأخذ منفردة أو بصورة جماعي ـ أية إجراءات سياسية واقتصادية مناسبة وصد ذلك العدوان”.
وعقب قرار المنظمة مباشرة سارعت 8 دول أعضاء في المنظمة إلى قطع العلاقات الدبلوماسية مع الكيان الصهيوني، ثم قطعت غالبية الدول علاقتها تباعًا بعد حرب أكتوبر 1973، لتدخل إسرائيل في عزلة من جديد فبعد أن كانت تقيم علاقات دبلوماسية مع حوالي 32 دولة تملك سفارات بداخلها تقلصت الدول لتصل إلى خمس دول فقط، بحسب ما استعرضت المؤرخة هبة محمد البشبيشي، في كتابها “إفريقيا في الفكر السياسي الصهيوني”.
خزلان عربي
استمرت القطيعة بين الدول الإفريقية وإسرائيل حتى عام 1989، حيث بدأت إسرائيل في العودة من جديد عقب توقيع اتفاقية “كامب ديفيد” بين مصر وإسرائيل، وبدء التقارب الإسرائيلي الفلسطيني على يد منظمة التحرير الفلسطينية وانشغال الدبلوماسية “العربية الإفريقية” عن جيرانها، حيث أعادت 8 دول إفريقية علاقاتها مع الكيان الصهيوني.
ويرى الباحث عبد الغني سلامة في دراسته بعنوان: “إسرائيل على الجبهة الإفريقية” أن دولة الاحتلال عادت إلى نهجها الأول فبدأت في محاول “تطبيع العلاقات” مع دول القارة، حيث نجحت في تطبيع علاقاتها بعد الدخول في العملية التفاوضية بين العرب والاحتلال منذ مؤتمر مدريد، وطبقًا للبيانات الصهيونية فإنّ عدد الدول الإفريقية التي أعادت علاقاتها الدبلوماسية أو أسستها معهم منذ مؤتمر مدريد في أكتوبر 1991، بلغ 30 دولة، وفي عام 1997، بلغ عدد الدول الإفريقية التي تحتفظ بعلاقات دبلوماسية مع الاحتلال، 48 دولة.
إفريقيا تستجيب
“الدبلوماسية العربية” لم تفق من ثباتها العميق مع بداية الألفية الجديدة، رغم الموقف الإفريقي الذي بقى بعيدًا جدًا عن التأييد الصريح للكيان الصهيوني، ولكن الدبلوماسية الإسرائيلية سعت إلى كسر الرفض الإفريقي الدائم لها في المحافل الدولية، فحاولت منذ بداية الألفية الجديدة التقارب وبناء علاقات أكثر متانة وسيطرة عن ذي قبل.
ويرى الخبير السياسي الكيني مارتن أولو في تصريحات صحافية لـ”دويتشيه فيله” أن إفريقيا بقيت -حتى رغم التقارب- متخذة موقفا معتدلا بالنسبة للقضية الفلسطينية، ورافضًا لتبرير الاحتلال الإسرائيلي، فالدول ذات الغالبية المسلمة مثل السنغال وموريتانيا أو السودان وجنوب إفريقيا تنظر بعين منتقدة لإسرائيل، وأعلنت موريتانيا عن قطع علاقاتها مع إسرائيل في 2010 كرد على هجوم جوي على قطاع غزة.
ومع اندلاع ثورات الربيع العربي، وثقت إسرائيل علاقاتها بشدة مع دول القارة من خلال “التعاون الاقتصادي والعسكري والتنموي”، فبدأت أكثر سعيًا خلال السنوات السبع الماضية في ظل الغياب العربي عن المشهد وعدم وجود العدو الصريح لإسرائيل في الاتحاد الإفريقي وهو الدور الذي كان يحاول الرئيس الليبي الراحل، معمر القذافي القيام به.
وفي عام 2014 أجرى وزير خارجية الاحتلال، أفيجدور ليبرمان، جولةً إفريقية شملت “رواندا وكوت ديفوار وغانا وإثيوبيا وكينيا” لتنشيط علاقات التجارة مع القارة الإفريقية، وقام رئيس وزراء الاحتلال في 2016 بجولة أفريقية شملت: “إثيوبيا وأوغندا وكينيا ورواندا”، برفقة وفد من 80 مسؤولًا يمثلون أكثر من 50 شركة إسرائيلية.
وفى سبتمبر 2016 عقد رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، لقاءات قمة مع 18 من قادة دول القارة على هامش الاجتماعات السنوية للجمعية العامة للأمم المتحدة، بمشاركة رجال أعمال إسرائيليين وممثلين عن الشركات الإسرائيلية الكبرى المتطلعة للعمل في القارة.
وعلى الرغم من تلك المحاولات القوية إلا أن التقارب الإسرائيلي ما زال يواجه صعوبات كبيرة، خاصة بعد إلغاء قمة توجو خلال شهر سبتمبر الماضي، والتي تعد أكثر الدول الإفريقية تقاربًا مع الكيان الصهيوني، والتي زار رئيسها فور جناسينجي، الأراضي المحتلة في أغسطس الماضي للمرة الرابعة بعد رفض دول السودان وجنوب إفريقيا والمغرب.
وشهد العام الماضي ارتفاع الطموح الإسرائيلي بالنسبة للقارة الإفريقية، في ظل مساعيها للتوسع في تلك البلدان من خلال “العلاقات الاقتصادية والسياسية وإقامة المشروعات التنموية ومحاولة كسر حدة الرفض حتى على المستوى الشعبي، سواء دبلوماسيًا أو حتى من قبل نشاط الاحتلال على مواقع التواصل الاجتماعي ومغازلته الشباب الإفريقي”، فأعلنت إسرائيل عن رغبتها في الحصول على عضوية مراقب في الاتحاد الإفريقي.
وكانت إسرائيل حصلت على وضعية “عضو مراقب” في منظمة الوحدة الإفريقية، وتمتعت بهذا الوضع حتى عام 2002، حينما جرى حل المنظمة واستبدالها بالاتحاد الإفريقي كإطار منظم للعلاقات الإقليمية الإفريقية، وحاولت إسرائيل استعادة تلك المكانة فتقدمت في عام 2003 بطلب الانضمام إلى “الاتحاد الإفريقي” كعضو مراقب، إلا أن طلبها قوبل بالرفض.
ويبدو أن الاحتلال سيجني ثمار محاولاته الدبلوماسية المستمرة على مدار 80 عامًا، فالتصريحات التي تخرج من قادة دول القارة الآن أكثر ترحيبًا عن ذي قبل، حيث أكد رئيس الوزراء الإثيوبي السابق، هيلي ماريام ديسالين، في تصريحات صحافية، أن بلاده ستدعم تحرّكات إسرائيل الساعية لـ”استعادة مكانتها في الاتحاد الإفريقي”، متابعًا أنه “لا يوجد سبب يمنع إسرائيل من صفة عضو مراقب في الاتحاد الإفريقي”.
القادم أسوأ
يبدو أن الاحتلال الإسرائيلي في طريقه إلى حصد نجاح أكبر في سياسته الخارجية خلال عقد أو عقدين قادمين على أقصى تقدير، ليبدأ مرحلة جديدة بعدها تساعده على المضي قدمًا حيال حلم “من النيل إلى الفرات”، فوفقًا لصحيفة “جيروزاليم بوست” الإسرائيلية فالأغلبية التلقائية ضد إسرائيل في الأمم المتحدة ستتغير في عام 2032.
الصحيفة الإسرائيلية استندت في تحليلها الذي عرضته على موقعها في ديسمبر الماضي، إلى الانخفاض الملحوظ بين توجهات الدول في الأمم المتحدة تجاه قرار ضد إسرائيل، فخلال عام 2012 صوتت الدول الأعضاء في المنظمة الدولية لصالح قبول دولة فلسطين كدولة مراقبة غير عضو بإجمالي أصوات بلغ 138 دولة بنسبة 71%، بينما صوت على القرار الأخير 128 دولة بنسبة 66.3% بما يعني أن الكيان الصهيوني حقق نجاحًا يقترب من 5%.
ورأت الصحيفة الإسرائيلية أن الحكومات في دولة الاحتلال إذا انتهجت ذات النهج الذي يتبعه رئيس الوزراء الإسرائيلي الحالي بنيامين نتنياهو ستحقق نجاحًا بنسبة 5% كل 5 أعوام، ما يعني أن الكيان الصهيوني سيتمكن من كسر الأغلبية الدائمة الموجودة ضده في الأمم المتحدة مع قدوم عام 2032، مشيرة إلى الدور الكبير الذي تلعبه إسرائيل في توطيد علاقاتها الخارجية مع دول الكاريبي وأمريكا الجنوبية وإفريقيا وآسيا، متوقعة أن يساعد ذلك في تغيير التوجه نحو إسرائيل في الأمم المتحدة.
رئيس الوزراء الإسرائيلي- أيضًا- تحدث في الشأن ذاته خلال حوار له مع شبكة “سي إن إن” الأمريكية في ديسمبر الماضي، قائلًا: “إن الأمر قد يستغرق نحو 10 سنوات قبل أن تتغير الأغلبية التلقائية (السخيفة) ضد إسرائيل في الأمم المتحدة”، مشيرًا أيضًا إلى سعادته بتغير موقف بعض الدول الإفريقية وفي أمريكا اللاتينية وآسيا في التصويت الأخير.