يعد أهالي النوبة جزءا أصيلا من نسيج الشعب المصري، له نفس الحقوق وعليه نفس الواجبات، لكنهم عانوا كثيرا من التهميش والتجاهل من قبل الدولة، وقد ارتبط اسمهم كثيرا بدعوات الانفصال والتدويل نتيجة العديد من الأزمات التي مروا بها على مر التاريخ الحديث، كان أبرزها وأكثر قسوة حملات التهجير التي اضطروا على إثرها إلى ترك قراهم التي غرقت وديارهم التي هدمت للرحيل والبحث عن ديار أخرى تلم شملهم.
رغم تعاقب رؤساء عدة فضلا عن عشرات الحكومات المصرية، ورغم حضور ملف النوبة دائما على جدول الأعمال، إلا أنه كالعادة كانت هذه الآمال تذهب مع الريح، وتصبح الوعود في خبر كان، ليبقى ملف النوبة من الملفات الشائكة التي تسبب إزعاجًا كبيرًا للدولة.
تفتح “مواطن”ملف النوبة في السطور التالية، وتلقي الضوء على عمليات التهجير وأثرها على النوبيين وأبرز حقوقهم والمطالب التي يسعون لتحقيقها.
يعد النوبيون من أكبر الأقليات العرقية في مصر حيث يصل عددهم إلى 4 ملايين شخص، وفقا لما أعلنه التحالف المصري للأقليات، وتكمن أبرز مطالبهم في حق المواطنة، باعتبارهم جزءا لا يتجزأ من الشعب المصري، فضلا عن حق العودة لأراضيهم بعد عمليات التهجير.
ويتركز سكان النوبة على ضفتي نهر النيل في أقصى جنوب مصر عند مدينة أسوان حتى مدينة الخرطوم شمال السودان، وقد ارتبطت حضارتهم بالحضارة الفرعونية القديمة.
تهجير أهالي النوبة
بدأت الهجرة الأولى لأهالي النوبة في عهد الخديوي عباس حلمي الثاني، في عام 1902، عقب بناء خزان أسوان، حيث غرق عشر قرى نوبية، نتيجة ارتفاع منسوب المياه خلف الخزان، وعليه اضطر النوبيون للهجرة إلى بعض القرى في البر الغربي، وعدد من المحافظات الأخرى.
انطلقت الموجة الثانية من هجرة النوبيين بعد التعلية الأولى للخزان عام 1912، وارتفع منسوب المياه مرة أخرى ليتسبب ذلك في غرق ثماني قرى أخرى، ثم جاءت التعلية الثانية للخزان عام 1933، وغرقت على إثرها عشر قرى أخرى وكانت معها الهجرة الثالثة لأهالي النوبة.
ظن النوبيون أن عمليات التهجير التي شهدوها في العهد الملكي انتهت برحيل الملكية، ولكنها عادت إلى الواجهة مرة أخرى في عام 1954 عندما شرعت الحكومة المصرية في تنفيذ السد العالي في مدينة أسوان، لتوليد الكهرباء وتوفير فائض للمياه، واستمرت عملية التهجير ثمانية أشهر منذ أكتوبر 1963 حتى يونيو 1964، ولتهدئة الأوضاع هناك ذهب الرئيس الراحل جمال عبدالناصر إلى النوبة ووعد في خطاب له بعودة النوبيين بعد ثبات منسوب المياه وبعد الانتهاء من بناء السد، ولكنه لم يف بهذا الوعد.
وعانى النوبيون في رحلتهم مع التهجير لا سيما مع الأساليب البدائية القديمة في عمليات النقل والشحن، وبدلا من تعويض الدولة لهولاء الضحايا بصورة مرضية، كانت التعويضات التي حصلوا عليها من الدولة ظالمة ولا تتناسب مطلقا مع ظروفهم المعيشية السابقة.
لم تشهد أوضاع النوبيين تحسنًا في عهد الرئيس الراحل أنور السادات بالرغم من زيارته مرتين لها، واستمر التهميش والاضطهاد للنوبيين، وهنا تحدث الدكتور مصطفى جاويش في إحدى مقالاته عن التهميش الثقافي للنوبيين، بقوله ‘‘إن الصورة النمطية للنوبيين استمرت في حقبة السادات كسابق عهدها في السينما المصرية بأنهم جماعة من أصحاب البشرة السمراء وغالبا ما يعملون في الوظائف الدُنيا‘‘.
أما حقبة الرئيس السابق حسني مبارك فلم يتغير الوضع كثيرا، سوى صدور توصية من مجلس الشعب قبل 20 عاما حول إعادة توطين النوبيين، ولكن لم يحدث أي تغيير، وانتهت حقبة مبارك لتظهر دعوات تدويل المشكلة.
تدويل أزمة النوبة
وسط تجاهل الحكومات المتعاقبة، بدأ الحديث عن البحث عن حلول أخرى خارج نطاق الدولة، ومن هنا ظهر مصطلح “تدويل” أزمة النوبة، وكان ذلك عام 2010، عندما تزعمت الناشطة النوبية في مجال حقوق الإنسان “منال الطيبي” مديرة المركز المصري لحقوق السكن، وعملت على جمع أكبر عدد من أصوات النوبيين ضد الحكومة المصرية أمام لجنة حقوق الإنسان بالأمم المتحدة، من أجل طرح مشكلة النوبة أمام الرأي العام العالمي، إلا أن جهود الطيبي باءت بالفشل بعدما رفض بعض القيادات النوبية هذا الطرح في هذا الوقت.
النوبة والتهميش
عانى النوبيون في مصر سنوات طويلة من التهميش، وكانت أبرز مطالبهم حسبما أكدت نجلاء أبو المجد مسؤول ملف النوبة في حزب المصريين الأحرار في تصريحات صحفية لها، تتمثل في حق العودة إلى أراضيهم التي تركوها بعد التهجير، وإنشاء هيئة لتعمير منطقة النوبة يتولاها شخصيات تكنوقراط من النوبة أنفسهم، وكذلك تمليك المتضررين من خزان أسوان لمنازلهم، وقد صدر بالفعل قرار في حكومة عصام شرف عام 2011، بعمل مشروع تنموي شامل لمنطقة النوبة، وتخصيص عدد من الأراضي للنوبيين، لكن توقف الأمر فيما بعد.
ثورة 25 يناير
كانت ثورة 25 يناير عام 2011 بمثابة نقطة تحول في قضية النوبة، حيث نزل النشطاء وشباب النوبة إلى الشارع للمرة الأولى مطالبين بإسقاط نظام مبارك الذي همشهم ولم يكترث بحقوقهم، واستمرت المطالبات والاحتجاجات في حقبة المجلس العسكري للتأكيد على المطالب النوبية.
وتوقع النوبيون أن قيادة المشير طنطاوي الذي ينتمي إلى قرية أبو سمبل بمدينة أسوان للمجلس العسكري سيُسهم في تلبية مطالبهم بعودة توطين النوبيين، إلا أن الأوضاع استمرت على ما هي عليه ولم يحرك طنطاوي ساكنا في القضية.
دستور 2014
اعترف دستور 2014 للمرة الأولى بصورة واضحة بحقوق أهل النوبة، وكان لهم ممثل (حجاج أدول) في لجنة الخمسين التي تأسست لتأسيس الدستور، وهو ما اعتبروه النوبيون خطوة على الطريق الصحيح تجاه اعتراف الحكومة بحقوقهم.
وقد اعترف الدستور في مادته رقم 236 بحقوق النوبة حيث نصت على الآتي: “تكفل الدولة وضع خطّة للتنمية الاقتصاديّة والعمرانيّة الشاملة للمناطق الحدوديّة والمحرومة، ومنها الصعيد وسيناء ومطروح ومناطق النوبة وتنفيذها، بمشاركة أهلها في مشاريع التنمية، وبأولويّة الاستفادة منها، مع مراعاة الأنماط الثقافيّة والبيئيّة للمجتمع المحلّي، خلال عشر سنوات من تاريخ العمل بهذا الدستور، وتعمل الدولة على وضع مشاريع وتنفيذها، تعيد سكّان النوبة إلى مناطقهم الأصليّة، وتنميتها خلال عشر سنوات، وذلك على النحو الذي ينظّمه القانون”، ما يعد التزاما صريحًا من الدولة تجاه أهل النوبة عليهم الوفاء بها، واعترافًا ضمنيًا بتهميشهم طوال عقود ماضية.
وبرغم التقدم الذي حققه النوبيون على مستوى اعتراف الدولة بحقوقهم، جاء قرار صادم للنوبة من الرئيس عبدالفتاح السيسي سلبهم حقهم في العودة إلى موطنهم الأصلي، وذلك باعتبار أراضي 16 قرية نوبية أراضٍ حدودية عسكرية، وتقع هذه القرى من امتداد قرية العلاقي شمالًا إلى أدندان جنوبًا، ويعتبر القرار الأرض، بطول 1110 كيلومترات شرق بحيرة السد و25 غرب بحيرة السد، أرضًا عسكرية حدودية، وهو القرار الذي وافق عليه البرلمان فيما بعد تحت مسمى قانون 444.
وعليه نظم عدد من أهالي النوبة وقفات احتجاجية في أسوان ضد قرار 444، للمطالبة باحترام الدستور وإعادة مناقشة القانون بالبرلمان، أو اللجوء للمجتمع الدولي، والمحاكم الدولية، وقامت بعض القيادات النوبية برفع دعاوى قضائية للطعن على هذا القرار الذي يمنع –وفقا للرواية النوبية- تنفيذ المادة رقم 236 من الدستور المصري، لاجتزاء أراضٍ من المفترض إقامة قرى نوبية جديدة عليها، وفقا لخطة الدولة في إقامة مشروعات قومية في هذه المنطقة.
أزمة “معتقلي الدفوف”
هب عشرات النشطاء من النوبة في مسيرة سلمية بـ”الدفوف” في مدينة أسوان، للمطالبة بحق النوبيين في العودة إلى أراضيهم، رافضين القرار الجمهوري رقم 444 لعام 2014، إلا أن قوات الأمن صدتهم واعتقلت البعض منهم.
ثم ألقت قوات الأمن القبض على عدد من عائلات وأنصار المتهمين النوبيين، وقد تجددت الاحتجاجات مرة أخرى عقب وفاة محتجز نوبي يدعى محمد صالح سرور، وذلك في محسبه بعد إضرابه عن الطعام، وأدى ذلك لحملة جديدة من الاعتقالات حتى بلغ عدد المحتجزين 32 شخصًا، وتم تحويلهم جميعًا إلى محكمة أمن الدولة طوارئ.
وفي بيان وقع عليه 9 منظمات حقوقية من بينها مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، ومركز النديم، والشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان، ومركز عدالة للحقوق والحريات، والمفوضية المصرية للحقوق والحريات، طالبوا بوقف المحاكمة فورا في قضية معتقلي الدفوف، وإعطاء المتهمين الحق القابل للتنفيذ في التعويضات طبقًا للقانون الدولي، وحث البيان الحكومة المصرية على ضمان إجراء تحقيق كامل ومستقل واتخاذ التدابير المناسبة ضد المسؤولين عن انتهاك حقوق النشطاء النوبيين المحتجزين.
دعوات الانفصال
وقد ظهرت دعوات من قبل بعض النوبيين تطالب بانفصال النوبة وإقامة حكم ذاتي عن مصر، بعد فشلهم في العودة لأراضيهم، ولكن رفضت القيادات النوبية هذا الطرح تماما معتبرين أنهم جزء أصيل من هذا الشعب، وكان من بينهم الأديب النوبي حجاج أدول، الذي أكد في تصريحات سابقة أن النوبيين ليسوا مجرد أقلية، ولكنهم من الشعوب الأصلية الذين – وحسب مواثيق الأمم المتحدة – لهم حق العودة إلى موطنهم ما دام سبب التهجير قد زال، مفسراً زيادة ما يشعرون به من غبن بالقول: “النوبيون أقلية، تختلف عن بقية الأقليات فى مصر”.
“لقد هُجر النوبيون من موطنهم، فى حين أن بدو سيناء ورغم ما يعانونه من مشكلات، ما زالوا في موطنهم، في حين أن خصوصية النوبة تأتي من علاقتهم بالنيل الذي نشأوا على ضفافه منذ آلاف السنين، وأجبروا على الرحيل عنه، ويعجزون عن العودة له، لذلك عذاباتنا أعمق من الأقليات الأخرى، فهوية النوبي نيلية، كسكان غرب سهيل الذين لم تزل نفوسهم رطبة بمياه النيل، ومن دونه يفقد النوبي الكثير، وطردنا لصحراء تابعة لأسوان كان كحكم القتل بالنسبة لنا، ولا نتمنى سوى العودة لموطننا الحقيقي جنوب السد”. – حجاج أدول
ويقول الباحث في المركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، إسماعيل الإسكندراني، في تصريحات سابقة إن هناك جهات أمنية شكلت شبكة مصالح مع بعض رجال الأعمال المستفيدين من عدم عودة النوبيين إلى أراضيهم، وعمدوا إلى إشاعة أن عودة النوبيين إلى أراضيهم ستجعلهم يدعون إلى الانفصال عن مصر والاستقلال الذاتي في منطقة الجنوب.
حلم العودة يقترب
وبعد سنوات طويلة من المماطلة والتجاهل والتهميش، برز شعاع أمل للنوبيين في تحقيق حلمهم بالعودة، حيث أكد محافظ أسوان اللواء مجدي حجازي، أنه جاري إعداد تقرير مفصل بالوضع الحالي للنوبة بكل حيادية ونزاهة مدعمة بالمبررات القانونية والضوابط اللازمة بعيدًا عن التعقيدات الروتينية، وذلك فيما يخص تمليك مساكن أبناء النوبة من متضرري بناء خزان أسوان وتعليته الأولى والثانية، من أجل تحقيق السلم الاجتماعي والاستقرار الأسري للمواطنين.
وأضاف، خلال اجتماعه مع اللجنة الشعبية الممثلة لأبناء النوبة المضارين من بناء خزان أسوان وتعلياته، أن مسألة تعويضات خزان أسوان جارٍ تنفيذها من خلال اللجنة الوطنية التى تم تشكيلها برئاسة وزير العدل وعضوية محافظ أسوان لمراجعة التعويضات عن بناء وتعلية الخزان.