تمر البحرين ، كغيرها من شقيقاتها في الخليج، بأزمة سياسية خانقة حصدتها عقود طويلة من الخلافات الدستورية المتجذرة ونهج حكم قائم على مصادرة الحقوق والاستئثار بالمال والسلطة من قبل الأسر الحاكمة وحرمان الشعوب من حقها في تقرير مصيرها وإدارة شؤونها، حيث تعاني بشكل أساسي من أزمة شرعية: ما مصدرها؟ ومن يمنحها؟ وكيف؟
هذه هي الأسئلة التي سنحاول أن نغوص فيها في حوارنا مع الدكتور عبدالهادي خلف الناشط السياسي والباحث في علم الاجتماع الذي لطالما اهتم بتحليل فكرة شرعية الدولة وأدوات الحكم الفكرية والسياسية التي تستخدمها لاستدامة هذه الشرعية.
الدكتور عبدالهادي خلف ناشط سياسي ومفكر ذو خبرة تمتد أكثر من أربعة قرون. حصل على شهادة الدكتوراه في علم الاجتماع من جامعة لوند بالسويد في العام 1972، قبل أن يشارك في أول برلمان بحريني – المجلس الوطني – في سنة 1973 ليكسب لقب أصغر برلماني في تاريخ البحرين وعمل ناطقًا باسم “كتلة الشعب” البرلمانية المعارضة إلا أن تجربته لم تدم طويلاً قبل أن قررت السلطة إسقاط عضويته من المجلس قبل أن تلغي المجلس بكامله بعد سنة من ذلك الحدث.
بعد أحداث تلك الحقبة عاد إلى السويد ليزاول مهنته كباحث وأكاديمي وأنتج خلال تلك الفترة عدة مؤلفات حول الاجتماع السياسي في البحرين التي أسهمت في إثراء الساحة الثقافية وتوثيق أحداث مهمة في تاريخ البلاد، ليعود مجددًا إلى البحرين بعد الإصلاحات التي شهدتها البلاد في العام 2001 والسماح لعودة المعارضين المنفيين. ويعتبر الدكتور عبدالهادي من رواد الحركة السياسية في البحرين وإحد أكبر مفكريها وشخصياتها الناشطة التي حافظت على دورها في صفوف المطالبين بالإصلاح. أما اليوم فيقيم الدكتور عبدالهادي في السويد لا سيما مع إسقاط الجنسية البحرينية عنه لمواقفه السياسية، ويركز في أعماله الكتابية على التجاذبات الاقليمية والتطورات الاقتصادية المتسارعة في منطقة الخليج. التقت مواطن مع الدكتور عبدالهادي خلف، وكان معه هذا الحوار:
• السلطة في البحرين سلطة أمر واقع تستغل القوانين حسب مصالحها وتطبقها على الناس بانتقائية.
• تختلف تجربة برلمان 1973 عن برلمانات 2002 اختلافا شاسعا، حيث كان برلمان 1973 ذا توجه وطني يعمل على مواجهة السلطة بينما غلب الطابع الفئوي على برلمانات 2002 الذي حاولت التوافق مع السلطة.
• ما بعد 2002 لم تنجح محاولات التنبيه إلى ضرورة عدم تشكيل القوائم الانتخابية على أساس الانتماء الطائفي أو المناطقي عوضا عن القوائم الوطنية.
• تستخدم الأسرة الحاكمة موروث الفتح (فتح/غزو البحرين عام 1783) كأداة فكرية ثقافية لتكريس شرعية حكمها وتحشيد الولاء لها.
• الأسرة الحاكمة ترفض الاندماج في النسيج الوطني لشعب البحرين وترى نفسها قبيلة متفوقة ومتعالية على جميع فئات المجتمع.
• الأسرة الحاكمة لا تريد للناس إلا أن يكون لها خياران: إما أن يتعلقوا بتلابيب من يمنحهم المكرمات، وإما بتلابيب من يتوسط لهم لدى من يمنح المكرمات.
• يستحال قيام دولة دستورية وديمقراطية في البحرين طالما بقي موروث الغزو حاكما لعلاقة العائلة الخليفية بالشعب.
• على المعارضة البحرينية العمل على إزالة موروث الغزو وجميع تداعياته السلبية ومنها الامتيازات الخاصة ببنات وأبناء الأسرة الحاكمة.
• غيرت الطفرة النفطية في السبعينيات معالم المجتمع البحريني وجعلت نخبا كثيرة تراجع مواقفها تحت إغراءات السلطة وادعاء القدرة على “الإصلاح من الداخل”.
• لولا دور المناضلين الوطنيين لنجحت السلطة في تحويل الخلاف السياسي في البحرين إلى خلاف بسيط يمكن تسويته بالمحاصصة وبصفقات المقايضة.
• من الواجب ممارسة حق انتقاد ممارسات الناشطين في الشأن العام، سواء كانوا من طرف الحكومة أو المعارضة.
• الملك حمد بن عيسى أعطى الناس وعودًا لم ينوِ ولم يستطع تنفيذها، ولكن وثقوا به رغم تكرار الوعود الزائفة التي أطلقها جيلٌ بعد جيل من الحكام.
• الإجراءات التي اتخذها الملك في 2000-2001 كانت تستحق الإشادة، إلا أن ممارساته بعد 2002 تمثل ارتدادًا على الخطوات الإيجابية بداية حكمه.
• الملك يريد للبحرين أن تصبح بلا هوية وأن تبتعد عن محيطها العربي وخطوات التطبيع مع الكيان الصهيوني مثال على ذلك.
إلى نص الحوار:
1- للدكتور عبدالهادي خلف تجربة سياسية قديمة في البحرين. دخلت المجلس الوطني في سنة 1973 كأصغر برلماني في تاريخ البحرين، إلا أنك لم تستمر طويلاً كعضو حيث تم إسقاط عضويتك من المجلس واعتُقِلتَ بعد بضعة شهور. ما السبب الذي كان وراء ذلك؟
اسمح لي أن أكرر ما أقوله منذ سنة 1974 جواباً على أسئلة تشبه سؤالك. أنا لا أعرف الأسباب الحقيقية وراء اتخاذ السلطة قرار طردي من المجلس الوطني بعد شهر ونصف من انتخابي لعضويته. وما زلتُ، بعد 44 سنة على ذلك القرار، لا أعرف من صفاتي ما يجعلني أكثر خطورة على السلطة من كثيرين من أعضاء المجلس الوطني ذوي التاريخ الوطني وخاصة في كتلة الشـعب التي تشرفتُ بأن أكون الناطق باسمها. إلا إنني في العادة أشير إلى عاملين، ربما أسهما في تسريع اتخاذ السلطة قرار طردي من المجلس. أولهما هو رغبة الحكومة في تحذير أعضاء المجلس وخاصة منهم أعضاء كتلة الشعب. أي إن طردي من المجلس كان مجرد أداة لتخويف آخرين. أما العامل الثاني فهو أنني وبصفتي ناطقاً باسم كتلة الشـعب كنت أبدو أحياناً متشـدداً وبخاصة حين كنت أتفاوض نيابة عن الكتلة مع ممثلي الحكومة بمن فيهم رئيس الوزراء. على أية حال، لقد تناول أخي الأستاذ علي ربيعة في كتابه “التجربة الموؤودة” كثيراً من تفاصيل تجربة 1973 البرلمانية بما فيها خلفيات وانعكاسات طردي من المجلس الوطني. يجدر بي أن أذكر هنا إن السلطة استمرت في ملاحقتي بعد ذلك. فحتى المكتبة التي افتتحتها في دكان صغير بالقرب من سوق الطواويش في المنامة لم يُسمح لها أن تستمر. فبعد خمسة أسابيع من افتتاح “دار النجمة للكتب” أصدر وزير الداخلية أمراً بإغلاقها دون مسوِّغ قانوني ودون أمر قضائي. ثم انتهى ذلك الجزء من القصة باعتقالي في يونيو 1974 ضمن مجموعة كبيرة من المعارضين السياسيين والنشطاء النقابيين.
2- كيف كانت تجربتك كناطق باسم “كتلة الشعب” البرلمانية؟ وكيف تقيّم التجربة بشكل عام مقارنة بالتجربة البرلمانية الحالية؟
لا يعني تكليفي بمهمات الناطق الرسمي باسم كتلة الشعب إنني كنتُ “الشخص القيادي” فيها كما ادّعت تقارير أرسلتها السفارة البريطانية إلى وزارة الخارجية في لندن. فالسبب المباشر لتكليفي هو إن الكتلة كانت مؤلفة من اثنيْ عشر من العناصر الوطنية من مختلف الاتجاهات. ففيهم الشيوعي والقومي والبعثي وإن كانت الغالبية منهم لا تنتمي إلى تنظيمات سياسية. تطلب ذلك أن نضع برنامجاً للكتلة قضينا أشهراً في إعداده ومناقشته حرفاً حرفاً. كما التزمنا بالمشاركة في الاجتماعات الأسبوعية لمرشحي الكتلة وبالتواصل بيننا كلما دعت الحاجة للاتفاق على موقف محدد تجاه المتغيرات اليومية التي تحدث عادة في فترات الحملات الانتخابية. فعلى سبيل المثال كانت السلطة تفاجئنا بقرارات تعسفية لا بد من التعاطي معها بموقف موحد. وكان علينا أيضاً أن نتخذ مواقف موحدة تجاه الحملات المضادة التي كنا نتعرض لها من طرف المرشحين المنافسين.
أما الفارق الرئيسي بين التجربة البرلمانية في 1973-1975 وبرلمانات 2002 وما بعدها فهو فرق شاسع. كان برلمان 1973 برلمان مواجهة مع السلطة الخليفية بينما قامت برلمانات 2002 وما بعدها على أساس التوافق مع تلك السلطة. ويعود أحد تفسيرات هذا الفارق إلى غلبة الخطاب الوطني في 1973 وقدرته على إفشال جهود السلطة الخليفية وحلفائها في إثارة خطابات بديلة بما فيها الخطاب الطائفي. أما في 2002 وما بعدها فإن الغلبة أصبحت للخطاب الطائفي الذي شجعته السلطة والنخب السياسية المستفيدة منه. فلم تنجح محاولات التنبيه إلى ضرورة عدم تشكيل القوائم الانتخابية على أساس الانتماء الطائفي أو المناطقي والدعوة بدلاً من ذلك إلى تشكيل قوائم انتخابية مشتركة وعلى أساس وطني. وهذا هو ما فعله رواد الحركة الوطنية في الانتخابات التي خاضتها هيئة الاتحاد الوطني في قبل ما يزيد على 64 سنة، وهو أيضاً ما فعلناه في انتخابات 1973.
3- لطالما تحدث د. عبدالهادي خلف عما يسميه “موروث الغزو” الذي يعيق تحقيق المواطنة الدستورية. هل لا زال هذا الموروث قائما بنفس الشدة؟
أستخدم موروث الغزو (أو موروث الفتح) للإشارة إلى مجمل ما يظهر على السطح من مخزون المرويات المتعلقة بأحداث حقيقية أو متخيلة ترافقت أو تلت “فتح البحرين” في 1783 على أيدي آل خليفة بمشاركة أبناء عددٍ من القبائل العربية المقيمة في الزبارة على ساحل شبه جزيرة قطر ومثل أغلب الموروثات يتضمن موروث الغزو مجموعة متناثرة وغير محددة من المرويات أغلبها غير موثق ولكنها تنتقل شفاهةً وبزيادة أو نقصان من جيلٍ إلى جيل ومن منطقةٍ إلى أخرى. فليس ثمة رواية متماسكة واحدة لتلك الحادثة التاريخية. فرواياتها كثيرة يبرزُ بعضها أو يختفي حسب حاجة الفاعلين السياسيين. آخر تلك الروايات، حسب علمي، وربما أطرفها هي التي جاءت على لسان حمد بن عيسى مؤخراً حين قال في مجلسٍ عام “لقد أتينا معاً، سنة وشيعة، من الزبارة إلى البحرين”.
للأسف الشديد، لم تتوفر حتى الآن إمكانيات جدية لتقييم مقدار صدقية أي من الروايات، بما فيها الرواية الطريفة الأخيرة، وإخضاعها للتحقيق العلمي ناهيك عن دحضها.
في ظروف اعتيادية، أي حين يكون المجتمع مستقراً ولا يتنازعه صراع الهويات فإن للموروث إيجابياته وخاصة لتمتين أواصر العلاقات الاجتماعية وتوسيع أسس الثقافة المشتركة. إلا إن للموروث في أحوال أخرى، كما الحال عندنا في البحرين، سلبيات كثيرة وخاصة حين تصبح المرويات المتوارثة منذ مئات السنين حاكمةً لسلوك أفراد الجماعة ومحددة لعلاقاتهم بالآخرين. هذا هو سبب اهتمامي بسلبيات موروث الغزو/الفتح وتداعياته على تماسك مجتمعنا البحريني. فلا يمكن في رأيي فهم اختلاف تاريخ البحرين السياسي/الاجتماعي عن الكويت مثلاً أو عن بقية الإمارات النفطية دون أن نتمعن في كيف يؤثر موروث الفتح وفي مقدمتها نظرة آل خليفة إلى البحرين كـ “غنيمة غزو”. وبعد أكثر من قرنين وربع القرن ما تزال هذه النظرة تؤثر في تأطير أنماط السلوك اليومي لأغلب أفراد العائلة الحاكمة والنخب الاجتماعية ومِن ورائهم الناس.
أسارعُ للإشارة إن الموروث مهما كانت أهميته أو حتى قداسته فلا يمكنه أن يكون فاعلاً بذاته. فهو في البحرين، كغيرها من البلدان، أداةٌ بيد القوى من يستعيده سواءً أكان سلطة قائمة أم جماعة معارضة لها. فاسـتعادة الموروث هو فعلٌ قصْدي يتطلب وبالضرورة القدرة على انتقاء الملائم منه وتأويله وإعادة تأويله بما يناسب مصالح القوى السياسية المتنافسة. فهي تعمل من خلال الاستعادة الانتقائية والتأويل وإعادة التأويل على تضمين الموروث معانيَ بذاتها تلائمها. لا ينحصر موروث الفتح في تفاصيل حادثة تاريخية ليس من السهل الاتفاق على كثير من تفاصيلها، بل لاستدعاء تلك الحادثة من تداعيات تفعل فعلها في تشكيل العلاقة بين غالبٍ ومغلوب وتأثيرها في تشكيل المسارات المحتملة لمستقبل تلك العلاقة. وتزداد خطورة الاستعادة الانتقائية من الموروث حين تكون السلطة القائمة في المجتمع، أو القوى المعارضة لها، قادرة على تسليع بعض مكونات الموروث مثل القبلية أوالطائفية. عندها يصبح الانتماء القبلي أو الطائفي سلعة تُباع وتُشترى. وفي الأوقات التي يحتدم فيها نزاعٌ بين السلطة والمعارضة يبالغ كل من لديه إحدى السلعتيْن أو كليْهما في تقدير قيمتها ويجد بين طرفيْ النزاع من يشتريها.
حين أتحدث عن “موروث الفتح” وتأثيراته فإنني أشير إلى شقيْن متداخليْن ومتلازميْن يشكلان معاً موروثاً تمتد جذوره إلى أكثر من قرنيْن.
في الشق الأول يمكن ملاحظة زَهْو العائلة الخليفية اليومي بسيوفها التي فتحت بها البحرين في القرن الثامن عشر. كما يمكن توثيق كيف تستخدم العائلة الخليفية ذلك الفتح الذي حدث في القرن الثامن عشر لكي تُشَرعِن ممارستها لسلطتها في القرن الواحد والعشرين. موروث الفتح في نظر العائلة الخليفية هو العمود الذي يسند خيمتها ويثبت شرعية حكمها. ولهذا تجد العائلة الخليفية نفسها في حاجة دائمة لإبقاء ذلك الموروث حياً ولتذكير الناس به. ولهذا أيضاً نراها تستعيد مرويات “الفتح” بين الحين والآخر لتحشيد فزعة الولاء حولها وخاصة عندما لا تكفي القبضة الأمنية ولا شراء الذمم في إسكات الناس. بل هي تتصرف على أساس أن البحرين كلها بمن وما عليها هي غنيمة “فتح”. وانسجاماً مع مرويات “الفتح” يزداد إصرار العائلة الحاكمة في البحرين على رفض الاندماج مع أهل البحرين، من سنة وشيعة. أقولُ، إن تاريخ العائلة الخليفية مليء بالأمثلة على حرصها على إدامة موروث الفتح وخاصة إصرارها على عدم الاندماج في النسيج الوطني البحريني. فهي لم تفعل ما فعلته العائلة الحاكمة في الكويت على سبيل المثال. بل نراها تتفنن في توليد التشكيلات السياسية والتعبيرات الثقافية التي تضمن المحافظة لها على هويتها كقبيلة متسيِّدة على الناس جميعاً.
أما الشق الثاني، وهو الأهم بالنسبة لي كمعارض قديم، فيتعلق بمتابعة كيف يؤثر استبطان موروث الفتح في سلوك الناس أنفسهم بمن فيهم النخب السياسية والاجتماعية وكيف يُسهم في تشكيل مسارات الحراك السياسي في البحرين.
يحفل تاريخ البحرين طوال القرنيْن الماضييْن بالمحاولات الموثقة وغير الموثقة لمواجهة مختلف أنواع الظلم الذي يتعرض له أهلها، إلا إن تاريخ البحرين يحفل أيضاً بأمثلة على دور استبطان القمع في إدامة ذلك القمع. وهو دورٌ رأيناه ينعكس طيلة أكثر من قرنين في اقتناع الناس بأن وراء الظلم حكمة ربانية أو إن في الظلم امتحانًا لإيمان المرء. فكما قال عبدالرحمن الكواكبي رحمه الله قبل أكثر من قرنٍ مضى فإن الاستبداد وضع أرضية ذلك الاقتناع بينما تولى تثبيتها وعاظ السلاطين وسدنة المجتمع على اختلاف مللهم. فمن جهة هناك وعاظ وسدنة مجتمع يدعون الناس إلى لزوم طاعة ولي الأمر والتحذير من منازعته حتى ولو كان ظالما. بل أن فيهم من يقول إن من أهان ولي الأمر الذي هو سلطان الله في الأرض أهان الله. ومن جهة أخرى هناك وعاظ وسدنة مجتمع يزعمون أن الظلم الحاصل هو قضاء الله وقدره يمتحن به عبيده. ولهذا فلا مفر من اللجوء إلى الصبر والاحتساب وعدم استعجال أمر الله وتدبيره. فالفرج آتٍ من حيث لا يعلم الناس طالما أحسنوا النية وأكثروا من تلاوة الأدعية.
4- ما الحل إذاً؟ كيف يمكن للمجتمع أن يواجه مثل هذا الفكر إذا كان متجذرًا في أذهان الناس سواء اتفقوا معه أو لم يتفقوا؟
تتشابه إجابتي مع الإجابات التي قدمتها أجيالٌ متتالية من النخب المثقفة التي تصدت لمهمات التنوير في بلادنا طيلة القرن الماضي. ونجد إحدى الإجابات فيما قام به رواد الحركة الوطنية في البحرين الذين أسسوا هيئة الاتحاد الوطني في 1954. وكذلك فيما قام به الناخبون في المنامة والمحرق في 1973 الذين صوّتوا لمرشحين يساريين ولم يصوِّتوا لمرشحين رفعوا رايات الدين والقبيلة والطائفة.
في كل مرة أتلقى سؤالاً حول المخرج مما نحن فيه أحاول أن أتخيل موقف الشملان والباكر والعليوات وغيرهم من قادة الهيئة في 1954 وأسأل نفسي كيف نجحوا في أن يتجاوزوا عقوداً من العزلة بين الريف والمدينة في البحرين وكيف هدموا الجدار الطائفي وكيف هزموا تأثير الوجاهات التقليدية في قرى البحرين وأحياء مدنها. لم تُحقق الهيئة معجزةً خارقة قبل 64 سنة. فلقد كانت تلك هي مسيرة التاريخ في أغلب البلدان التي تعاني مما كانت بلادنا تعاني منه جراء تحالف القوى الرجعية المحلية مع المستعمر. ما فعله أولئك الرواد تابعه من أتى بعدهم من مناضلي تنظيمات الحركة الوطنية الذين قدموا تضحيات مجبولة بالعرق والدموع والدماء. لم يقل أحدٌ إن الشهيد سعيد العويناتي كان شيعياً أو إن الشهيد محمد بوجيري كان سنياً. فالاثنان، كمَن قبلهما وبعدهما من المناضلين، كانا يناضلان من أجل بناء وطن حر وديمقراطي.
نعم، لقد سببت الطفرة النفطية هزة كبرى غيَّرت معالم المجتمع البحريني وجعلت نخباً كثيرة تراجع مواقفها تحت إغراءات السلطة أو ادعاء القدرة على “الإصلاح من الداخل” وتحت الهَوَس بشعار “السياسة فن الممكن”. ونعم أيضاً وفرت الطفرة النفطية للسلطة أدوات قمع جديدة ومتعددة كما وفَّرت لها فرصا لكي تعيد إحياء ما يلائمها من موروث الفتح. إلا إن الطفرة النفطية وما تلاها من تطورات وفَّرت أيضاً فرصاً يستعيد فيها بعض أطراف المعارضة ما يلائمهم من مرويات ذلك الموروث. ولولا مثابرة أغلب المناضلين الوطنيين وثباتهم لنجحت السلطة في تحويل الخلاف السياسي في البحرين إلى مجرد خلاف بين موروثيْن يمكن تسويته بالمحاصصة وبصفقات المقايضة. عندها لا يكون أمام الناس سوى خياريْن: إما أن يتعلقوا بتلابيب من يمنحهم المكرمات وإما بتلابيب من يتوسط لهم لدى من يمنح المكرمات.
5- للدكتور عبدالهادي خلف انتقادات بين الحين والآخر تجاه الجمعيات السياسية المعارضة على طريقة تعاملها مع السلطة حيث وصفت أسلوبها بالمتقلب و”المنبطح”. ما موقفك من الجمعيات السياسية اليوم؟ وهل ترى أن مشروعها السياسي (ملكية دستورية على غرار الديقمراطيات العريقة) هو الذي بحاجة له البحرين؟
من حيث المبدأ يجب تأكيد الحق في متابعة ونقد ممارسات الناشطين في المجال العام سواء أكانوا أفراداً أو كانوا مؤسسات وتنظيمات. وفوق ذلك فإنني أرى أن ممارسة هذا الحق هو واجبٌ على من يستطيع ألا يخلط بين ما يفعله الناشطون في المجال العام وما يفعله أيٌ منهم في مجاله الخاص. ويندرج تحت هذا التفسير ما يمكن تسميه بانتقاداتي للجمعيات السياسية المعارضة.
لم تؤثر تلك الانتقادات بشكل سلبي في علاقتي السياسية والشخصية بقياديين وأعضاء كثيرين في تلك الجمعيات ففيهم من وجد إن انتقاداتي متحاملة أو متسرعة وفيهم من رأى فيها فائدة. فعلى سبيل المثال حين احتدم النقاش في 2004-2005 حول استمرار مقاطعة العمل البرلماني أو المشاركة فيه دعاني المرحوم عبدالرحمن النعيمي لجلسة خاصة برفقة نخبة متنوعة من أعضاء “جمعية وعد” لعرض موقفي المختلف عن موقفه آنذاك. أتذكر تلك الجلسة بتقدير كبير لأبي أمل ولبقية المشاركين في الحوار الغني الذي دار بيننا. أسارع للإشارة إلى أن علاقتي الشخصية بعدد من القياديين في جميع جمعيات المعارضة لم تنقطع رغم ما قد يُفهم من صيغة سؤالك. بل إنني في آخر زيارة لي للبحرين قبل شهرٍ من اندلاع “انتفاضة دوار اللؤلؤة” في فبراير 2011 تشرفتُ بحضور جلسات حوارية خاصة مع قيادات أغلب الجمعيات المعارضة. فحتى الذين يرفضون بشدة ما أقول يعلم أغلبهم أنني حين أنتقد قراراً أو موقفاً لأي طرف من أطراف المعارضة فإنني أفعل ذلك من موقع المتضامن والرديف وليس من موقع المعادي أو المنافس.
أما فيما يتعلق بالمشروع السياسي الذي يشير السؤال إليه حول بناء “مملكة دستورية على غرار الديمقراطيات العريقة” فموقفي لا يتعارض معه. بل إنني سأكون كما يقول المثل “مع الخيل يا شقرا” في حال استطاع أحدٌ إقناع الأطراف الأساسية في العائلة الحاكمة في البحرين بالتخلي عن مسارها الذي ثبت إنه لا يقود البلاد إلى الاستقرار والنمو والديمقراطية.
لقد أصبحتُ مقتنعاً منذ أن خذل حمد بن عيسى تعهداته حين أعلن الدستور المنحة في 2002 باستحالة قيام دولة دستورية وديمقراطية في البحرين طالما بقيَ موروث الغزو حاكماً لعلاقة العائلة الخليفية بالناس. وبالمقابل فلن تقوم تلك الدولة المنشودة إذا لم تضع الحركة الوطنية والديمقراطية ضمن أولوياتها العمل على إزالة موروث الغزو بجميع تداعياته. ومن بين هذه التداعيات الامتيازات الخاصة ببنات وأبناء العائلة الخليفية، وهي امتيازات تفوق بكثير ما يتمتع به أكثر وجهاء السنة والشيعة وجاهةً وحظوة. عند ذلك فقط نستطيع الحديث عن توفير المساواة في فرص الحياة وعن الحق في المساواة بين المواطنين والمواطنات بغض النظر عن خلفياتهم الاجتماعية بما فيها لقبهم العائلي. ولقد طرحتُ هذا الرأي في مناسبات عديدة بما فيها محاضرة حول “المواطنة الدستورية” ألقيتها في نادي الخريجين (15/5/2001) في المنامة. إلا أن كثيرين بين أهلي في السلطة والمعارضة وجدوا تطرفاً في مطالبتي بأن يتحول أبناء وبنات العائلة الخليفية إلى مواطنين عليهم من الواجبات ما علينا ولهم من الحقوق ما لأمثالهم من المواطنين الآخرين.
6- كونك خبيرا في علم الاجتماع، ما توقعاتك لما سيحصل للمجتمع البحريني إذا أُزيلت امتيازات أفراد الأسرة الحاكمة؟
أسوأ ما يمكنني أن أفعل في هذا المقابلة أن أحاول الرجم بالغيْب. فأنا لا أعرف تفاصيل ما قد يحصل بعد أن تتكلل جهود بناء الدولة الدستورية والديمقراطية في البحرين. ما أتوقعه وأتمناه إن ذلك سيؤدي إلى أن يتساوى المواطنون رجالاً ونساء في الحقوق والواجبات. أي ألا يكون في البحرين مواطنون سوبر هم آل خليفة بينما يتوزع الباقون في الدرجات الدنيا حسب قربهم من تلك العائلة أو حسب درجة رضا الحاكم عنهم.
إلغاء الامتيازات غير الدستورية التي يتمتع بها أفراد العائلة الخليفية يعني بداية دخول بلادنا إلى عهد جديد يتيح تكافؤ الفرص بين الناس دون أن يشير بعضهم إلى امتيازات يعتبرونها جزءًا من غنائم حرب انتصر أجدادهم فيها في 1783.
في بداية تفكيره في “المشروع الإصلاحي” وصف حمد بن عيسى مملكته بأنها ستكون على غرار “الملكيات الدستورية العريقة” بل وردّد شعراً للشاعر الشيوعي التركي ناظم حكمت: “أجمل الأيام تلك التي لم نعشها بعد”. لم يكن أمام الناس إلا تصديقه رغم إنهم يتذكرون كيف أخلف كما أخلف أسلافه وعوداً كثيرة.
أذكر إنني نشرتُ مقالاً في 2000 أشرتُ فيه إلى إن حمد أعطى وعوداً لا ينوي تنفيذها بل ولا يستطيع تنفيذها. حين كان حمد يردّد عبارة “الملكيات الدستورية العريقة” كان واضحاً إنه يشير بكلتا يديه إلى بريطانيا والملكيات الأوروبية وليس إلى الممالك التي ليس فيها من صفات الممالك الدستورية سوى الاسم مثل الأردن والمغرب وبروناي. وحسبما نعرف فإن أول ما يمكن ملاحظته في الملكيات الدستورية فعلاً وليس بالاسم فقط أن دساتيرها تلتزم بمساواة جميع المواطنين في حقوق المواطنة وواجباتها. وفي هذه البلدان، كما هو الحال في السويد وبريطانيا وغيرهما لا يتمتع الملك أو الملكة بصلاحيات تنفيذية فهذه من شأن الحكومات التي تتشكل حسب موازين القوى في البرلمان الذي ينتخبه الناس في انتخابات منتظمة ودورية. ورغم ذلك تنشط في هذه البلدان حركات سياسية تطالب بإلغاء النظام الملكي من أساسه واستبداله بنظام جمهوري يتداول قمة السلطة فيه من يفوز في الانتخابات الدورية.
7- بعد العودة من المنفى في العام 2001 ومشاركتك في الندوات الجماهيرية أشدت بدور الأمير حمد بن عيسى آل خليفة آنذاك في تصحيح أخطاء السياسات الماضية، ولكن اليوم تذكر في حسابك على تويتر “حمد لا يعترف بي مواطناً، وأنا لا أعترف به ملكاً”. ما الذي تغير منذ ذلك الحين؟
أشدتُ بالإجراءات الإصلاحية التي اتخذها حمد بن عيسى ما بين 2000 و2001 تمهيداً للاستفتاء على ميثاق العمل الوطني لأنها إجراءات تستحق أن يُشاد بها وأن يُبنى عليها. إلا إنه للأسف اختار ألّا يستمر في طريق الإصلاح بل ارتدّ تدريجياً عنها بدءًا من المرسوم رقم 56 لعام 2002 الذي قنَّن إفلات منتهكي حقوق الإنسان من المحاسبة وانتهاءً بإعلانه المنفرد دستور 2002. ما حدث منذ العام 2002 هو استمرار لذلك الارتداد وتكريس له.
أما مسألة اعترافي بحمد بن عيسى كملك شرعي فهي مرتبطة بعدم اعترافه هو بي كمواطن. فهو أسقط عني جنسـيتي بقرارٍ لا يستند إلى قانون ولا إلى حكم قضائي. وبطبيعة الحال لم تُتَح لي فرصة للدفاع عن نفسي أمام التهم المنسوبة لي والتي لا أعرفها. بل إنني الآن وبعد ما يقارب الأربع سنوات ما زلتُ لا أعرف حيثيات إسقاط جنسيتي بل لم أستلم إشعاراً رسمياً بذلك سوى الخبر الذي نشره الإعلام. هذه ليست تصرفات سلطة شرعية بل هي تصرفات “سلطة أمر واقع” لا تلتزم بالرجوع حتى لمحاكمها ولا تستند حتى لقوانين وضعتها.
المفارقة إن إعلان وكالة أنباء البحرين عن سحب جنسيتي مع ثلاثين آخرين من نشطاء المعارضة حدث قبل أسابيع من تدشين وزيرة الثقافة بيت جدي الحاج محمّد سلمان خلف (وهو البيت الذي ولدتُ فيه) بيتاً تراثياً يحفظ ذاكرة مدينة المنامة.
لقد أصبحت سلطة حمد بالنسبة لي “سلطة أمر واقع” لا شرعية لها سوى ما تفرضه بالقمع عليّ وعلى بقية المواطنين. على أية حال، فالموضوع ليس موضوعاً شخصياً يتعلق بي وحدي. بل هو استنتاج لا بد منه استناداً على تقييم سلسلة قوانين وقرارات وإجراءات استندت إلى اقتناع حمد بأنه يستطيع الاستغناء عمّن يشاء من مواطنيه واستبدالهم بآخرين كما يشاء.
حمد يعمل حثيثاً على إعادة تأسيس البحرين لتصبح “وطناً” لا هوية له. وطنٌ يقيم فيه أناس لا يجمعهم إلا تنافسهم على إرضائه وخوفهم من إغضابه. فتحْت شعار إن البحرين مجتمعٌ متعدد الهويات والأديان والثقافات نرى البحرين تتحول شيئاً فشيئاً خارج تاريخها وبعيداً عن ثقافتها ولتتخلى عن ارتباطاتها بمحيطها الجغرافي والحضاري. وهو ما تشهد عليه أيضاً خطوات التطبيع مع الكيان الصهيوني وآخرها تمويل الديوان الملكي لمشاركة فريق رياضي يشرف عليه نجله ناصر بن حمد في سباق للدراجات في مدينة القدس المحتلة تزامناً مع الذكرى السبعين لنكبة فلسطين.
8- هل تعتبر هذه الأنواع من السياسات من تداعيات “موروث الغزو”، أي أن السلطة تعمل دون الحاجة للاستناد إلى نظام قانوني أو شرعية سياسية أو حتى إلى المحافظة على وجود مواطنيها؟
نعم. إلا إنني أحتاج لإضافة إن النظام السياسي في البحرين وخاصة بعد إعلان الاستقلال في 1971 أصبح نظاماً مزدوج المرجعية. فهو يستند من جهة إلى “شرعية ” يوفرها له موروث الفتح. ومن الجهة الأخرى هو يستند أيضاً إلى “شرعية” الدولة العضو في الأمم المتحدة والمعترف بها دولياً والتي تعمل كغيرها من الدول العصرية بنظمها وطقوسها وقوانينها.
قدّم خليفة بن سلمان، رئيس الوزراء وعم الملك، أحد أوضح الأمثلة على ازدواجية المرجعية التي أتحدثُ عنها حين زار منزل العقيد مبارك بن حويل لتهنئته بحكم المحكمة ببراءته من اتهامات وُجهت له بالمشاركة في تعذيب المعارضين السياسيين في السجن. عندها خاطب رئيس الوزراء العقيد وأمام جمعٍ من زواره قائلاً ما معناه “القوانين لن يطبقها أحدٌ علينا أوعليكم”. لم يقل خليفة شيئاً لا تعرفه الناس في حياتهم اليومية. ولكنه أوجز ما أحتاجُ لصفحات لشرحه: “تسري القوانين العصرية على ناس وناس. ولكنها لا تسري على فئاتٍ يُعفيها موروث الفتح من الالتزام بتلك القوانين أو الخضوع لها”.
مثالٌ آخر نجده في استيلاء رئيس الوزراء على جزيرة جدة وتحويلها إلى ملكٍ خاص. هذا الفعل لا يستند إلى نظم الدولة العصرية وطقوسها ولا تقرّه قوانينها. إلا إنه جاء متناسقاً مع موروث الفتح ومستنداً إلى ما يمنحه من تبريرات للنهب والفساد. ويندرج تحت هذا النوع من “الشرعية” ما حدث قبل أربع سنوات حين أُغلقت شوارع رئيسية في البحرين دون سابق إنذار وذلك لتسهيل سباق للدراجات يشارك فيه رئيس الحرس الملكي ناصر بن حمد (نجل الملك). ولعلك تعلم إن إغلاق الشوارع عطّل مصالح الناس بل وأربك وصول المسافرين إلى المطار مما أثّر في حركة الطيران. ببساطة، كان ناصر بن حمد الذي وضع خط سير سباق الدراجات يتصرف مستنداً إلى شرعية “البحرين غنيمتنا وأستطيع أن أفعل فيها وبأهلها ما أشاء”.
من الجهة الأخرى فإن عدداً من هذه الممارسات، بل أغلبها في السنوات الأخيرة، يستند في حقيقة الأمر إلى نصوص قانونية تدعمها أحكامٌ قضائية أصدرتها عن محاكم متتالية الدرجات. بل إن تلك النصوص القانونية جرى تمريرها في إطار دستوري محدد إما عن طريق ما يمنحه الدستور لرأس السلطة من صلاحيات تشريعية أو عن طريق موافقة برلمان منتخب. أحد أسوأ الأمثلة على هذا المرسوم رقم 56 لسنة 2002 (المعروف بقانون فليفل) الذي صدر لتسهيل إفلات مسئولين في أجهزة الأمن من المحاسبة والملاحقة القانونية لتحديد مسئوليتهم في تعذيب المعتقلين السياسيين وابتزاز أهاليهم. فرغم كل ما فيه من تعسف في استخدام السلطة ورغم ما فرضه المرسوم من ظلم على ضحايا التعذيب والابتزاز فهو “مرسوم شرعي” صدر حسب الأصول المرعية ومستنداً إلى ما تتطلبه طقوس الدولة العصرية وفي إطار الدستور المعتمد.