الجزء الأول من الحوار:
https://muwatin-vpn.net/archives/5153
من نواحٍ عديدة لم يتغير الكثير في البحرين منذ عشرينيات القرن المنصرم حين تشكلت بوادر الحركة الوطنية المعاصرة، فلا زالت الأسرة الحاكمة تستأثر بسلطة السياسة والاقتصاد، ولا زالت الحريات العامة مهددة أو منعدمة تماماً، ولا زال الشعب البحريني يطالب كما كان يطالب منذ العشرينيات ببناء دولة القانون والمؤسسات القائمة على أسس الديمقراطية والعدالة الاجتماعية.
ورغم ذلك إلا أنه قد تخلل الحكاية بعض التفاصيل الطارئة من حيث سياسات الحكم وعلاقة البحرين بشقيقاتها في الخليج. فعلى الصعيد الداخلي تغيرت التركيبة السكانية تماماً عما كانت عليه في العقود السابقة مع تجنيس مئات الآلاف من الأشخاص من جنسيات مختلفة لأسباب سياسية، ودخول عدد هائل من العمالة الوافدة إلى البلاد حتى أصبح البحرينيون يمثلون أقل من 50% من إجمالي عدد السكان. أما على الصعيد الخارجي فأصبحت البحرين أكثر اعتماداً على شقيقاتها (السعودية والإمارات بشكل خاص) لتوفير الدعم السياسي والاقتصادي والعسكري لها، بعد أن كانت تُعتبر البحرين أولى دول الخليج في تنويع مصادر الدخل تنمية اقتصاد ما بعد النفط.
كيف تتقاطع سلطة رأس المال مع سلطة السياسة؟ وهل ستسهم الخطط التنموية الخليجية في تحقيق التنمية المستدامة؟ وما هو مستقبل التكامل الخليجي؟
هذه هي الأسئلة التي سنحاول أن نغوص فيها في حوارنا مع الدكتور عبدالهادي خلف الناشط السياسي الحاصل على شهادة الدكتوراه في علم الاجتماع من جامعة لوند بالسويد في العام 1972، قبل أن يشارك في أول برلمان بحريني – المجلس الوطني – في سنة 1973 ليكسب لقب أصغر برلماني في تاريخ البحرين وعمل ناطقاً بإسم “كتلة الشعب” البرلمانية المعارضة إلا أن تجربته لم تدم طويلاً قبل أن قررت السلطة إسقاط عضويته من المجلس قبل أن تلغي المجلس بكامله بعد سنة من ذلك الحدث.
بعد أحداث تلك الحقبة عاد الدكتور عبدالهادي خلف إلى السويد ليزاول مهنته كباحث وأكاديمي وأنتج خلال تلك الفترة عدة مؤلفات حول الاجتماع السياسي في البحرين التي أسهمت في إثراء الساحة الثقافية وتوثيق أحداث مهمة في تاريخ البلاد، ليعود مجدداً إلى البحرين بعد الإصلاحات التي شهدتها البلاد في العام 2001 والسماح لعودة المعارضين المنفيين. ويعتبر الدكتور عبدالهادي من رواد الحركة السياسية في البحرين وأحد أكبر مفكريها وشخصياتها الناشطة التي حافظت على دورها في صفوف المطالبين بالإصلاح.
أما اليوم فيقيم الدكتور عبدالهادي في السويد لا سيما مع إسقاط الجنسية البحرينية عنه لمواقفه السياسية، ويركز في أعماله الكتابية على التجاذبات الإقليمية والتطورات الاقتصادية المتسارعة في منطقة الخليج.
حوار: بدر مبارك النعيمي
• لن تتراجع السلطة في البحرين عن الإجراءات الأمنية والسياسية ضد المعارضة في المستقبل القريب.
• الشعب البحريني اكتشف في 2011 أن القمع طال الجميع بمن فيهم الذين اعتبروا أنفسهم “موالين” للسلطة
• المعارضة البحرينية لن تستطيع الاستمرار في استراتجية الدعوة إلى إصلاح النظام وهي في حاجة لتدشين فصل جديد من تاريخها بهدف إزالة موروث “الفتح”.
• سبب فشل جميع المشاريع التنموية في الخليج يكمن في انفراد العوائل الحاكمة بإعلان مشاريع الإصلاح والتخطيط لها وتنفيذها دون المشاركة الشعبية.
• الأنظمة تستنزف الميزانيات على شركات العلاقات العامة الغربية للترويج لهذه المشاريع التي لا تلائم دولنا لا من ناحية بيئية أو اجتماعية.
• تعود جذور فشل الوحدة الخليجية إلى أسباب أعمق من الأزمة الأخيرة وهي تعامل حكام الخليج مع بعضهم البعض كشيوخ قبائل وليس كرؤساء دول في القرن الواحد والعشرين فكل حاكم يخشى تقوية منافسه.
• الأسرة الحاكمة تستحوذ على حصة كبيرة من دخل الأموال ورغم الأزمة الاقتصادية التي تمر بها البحرين لا يستطيع قادة الرأي العام، سواء أكانوا معارضة أم موالاة، التعرض إلى مخصصات الأسرة الحاكمة.
• صراع الأجنحة في الأسرة الحاكمة رواية قديمة ولكن لا تختلف الأجنحة إلا في طريقة إدامة حكمها سواء عن طريق القمع الدموي أو شراء الذمم وأسلوب توزيع الغنائم فيما بينهم.
• العلاقات البحرينية السعودية معقدة ومتأرجحة، فكان آل سعود في عصر من الزمن يهددون حكم آل خليفة لجزر البحرين وفي فترة أخرى هددت السعودية بقطع إمدادات النفط بعد أن حاولت البحرين الاستقلال اقتصادياً عنها، أما اليوم فقبل آل خليفة بتبعيتهم للسعودية لما فيه ذلك من امتيازات سياسية واقتصادية.
• حكام الخليج يقبلون الإهانة من الرئيس الترامب لأنهم يعرفون مكانتهم وحجمهم أمام المستعمر الغربي الذي ثبت حكمهم، ولكن تستنفر الأجهزة الأمنية كلما نشر مواطن رأيًا اعتبروه فيه شبهة ازدراء بالحاكم.
• الجيل الجديد من الحكام في الإمارات والسعودية وقطر تخلى عن تقاليد آبائهم في تسوية الخلافات بأقل الخسائر، وعوضاً عن ذلك طرحوا مشاريع سياسية طموحة لا يمتلكون القدرات أو الخبرة الكافية لتنفيذها.
إلى نص الحوار:
1- كيف ترى مستقبل الحراك السياسي البحريني؟ هل تعول على عودة الجمعيات المنحلة، أم الإفراج عن المعتقلين، أم شي آخر؟
ليس في حدود الأفق التي أراها ما يشير إلى تراجع السلطة عن الإجراءات الأمنية والسياسية التي اتخذتها في السنوات الأخيرة. وحين ننظر إلى تزايد الأحكام المشددة التي تصدرها المحاكم بما فيها الإعدام يمكن ملاحظة إن السلطة الخليفية تتجه إلى مأسسة القمع. واستطراداً أقول ليس ثمة ما يشير إلى احتمال قيامها بالإفراج عن المعتقلين اللهم إلا بشكل فردي وكما العادة عن طريق وساطات يقوم بها وجهاءٌ تكلفهم السلطة بهذه المهمة. أما موضوع تغيير موقفها من المعارضة السياسية بما في ذلك عودة الجمعيات المنحلة فهذا مرتبط بقبول المعارضة بالاشتراطات الجديدة والقيود الإضافية التي ستفرضها السلطة عليهم.
لا أظن أحداً ممن أعرف أو أتابع في المعارضة يعوّل جدياً على أن السلطة ستتعقل وستتنازل بإرادتها. فهذه سلطة لن تنصلح من داخلها. بل على العكس. فهي تراهن على أن تشديد القبضة الأمنية ستزيد معاناة الناس وستقود إلى تراجع قيادات المعارضة أو استبدالها بقيادات مطاوعة. تستند تلك المراهنة أيضاً على عدم قدرة السلطة على رؤية كيف تعتمل مشاعر الغضب وتنتشر بين الناس علاوة على قراءتها غير الواقعية للمعطيات الإقليمية.
وفي هذا الصدد بالذات أكرر إن وجهة نظري الشخصية لا تبتعد كثيراً عن المواقف التي تعبِّرعنها مختلف أنشطة المعارضة المستمرة بأشكال مختلفة رغم شدة القبضة الأمنية. وجوهر هذه المواقف هي إن البحرين لن تعود إلى ما كانت عليه قبل فبراير 2011. فعندما استقوت السلطة الخليفية بالقوات السعودية والإماراتية على مواطنيها كان هدفها الأول هم الذين تجمعوا في دوار اللؤلؤة ورفعوا شعارات مختلفة يطالب بعضها بإصلاح النظام ويطالب بعضها بإسقاطه. إلا أن الناس سرعان ما اكتشفوا إن القمع طال الجميع بمن فيهم الذين اعتبروا أنفسهم “موالين” للسلطة وتجمعوا في ساحة جامع الفاتح لإعلان دعمهم وولائهم لها. السلطة لم تتقبل أن يكون دعمهم مشروطاً بل هي عدّتهم كمن يبتزّها حين قدموا ولاءهم لها وهم يرفعون شعار “لنا مطالب”. فموروث الفتح يشمل الجميع على اختلاف درجات معارضتهم وعلى اختلاف درجات ولائهم.
أقولُ، بات واضحاً منذ دخول القوات السعودية والإماراتية أن المعارضة، بأشكالها، لن تستطيع الاستمرار في استراتجيات الدعوة إلى إصلاح النظام وخاصة بعد أن فشلت حتى شعارات “لنا مطالب” التي رفعها نشطاء الموالاة. وبات واضحاً أيضاً أن الحركة الوطنية والديمقراطية في البحرين في حاجة لتدشين فصل جديد من تاريخها لا يتمكن فيه أحدٌ من تمرير صفقات مقايضة كما حدث مراراً في العقود السبعة الماضية. وهي الصفقات التي أسهمت في إطالة عمر موروث الفتح وتحديثه بدلاً من إضعافه تمهيداً لإزالته.
2- في رأيك، ما الشعار الذي ينبغي رفعه في الفترة القادمة؟
هذا السؤال وإجابته أكبر مني بكثير. لا أقول ذلك تواضعأ بل لمعرفتي بسهولة صياغة الشعارات وصعوبة إقناع الناس بها ناهيك عن العمل معهم على تحقيقها. على أية حال فإن أنسب شعار للمرحلة القادمة في نظري هو ما ستتوافق عليه فصائل المعارضة بعد القيام بتقييم جدي يفاضل بين الخيارات السياسية المتاحة لبناء الدولة الدستورية الديمقراطية. أي أن الدولة التي تضمن المساواة لجميع أبنائها وبناتها والتي توفر أيضاً لهم أسباب الولاء لها. لا بد أن يعتمد التقييم المطلوب على دراسات متمعنة للأوضاع الاجتماعية والاقتصادية في مجتمعنا وعلاقات القوة بين طبقاته وشرائحه. مثل هذا التقييم يتطلب أكثرمن اجتماع طارئ يحضره ممثلون لفصائل المعارضة قبل إعلان “برنامج المرحلة” أو شعارها المركزي. وبطبيعة الحال لا يمكن إنجازه على ضوء نتائج صفقة مكتومة بين السلطة وبين من ستختارهم لتلك المهمة كما حصل في صفقة المقايضة في 2005 والتي أدت إلى قبول فصائل المعارضة بدستور 2002 وإنهاء مقاطعتها لتداعياته بما فيها الانتخابات البرلمانية.
3- تعمل الحكومة البحرينية، كما هو الحال بالنسبة لنظيراتها في المنطقة، على برنامج إصلاح اقتصادي، الذي كان لديك انتقادات عدة له. ما انتقاداتك بالضبط؟ وما أسبابها؟
نقطة الضعف الأساسية في مشاريع “الإصلاح الاقتصادي” في البحرين وفي غيرها من بلدان الخليج تكمن في انفراد العوائل الحاكمة بإعلان مشاريع الإصلاح والتخطيط لها وتنفيذها دون المشاركة الشعبية. هذه هي نقطة الضعف الأم التي تخرج من رحمها نقاط ضعف كثيرة بما فيها الفساد وسوء الإدارة والنهب بل والسفه في إقامة مشاريع عبثية ومدمرة للبيئة وهدر الأموال في شراء الأسلحة والمعدات العسكرية وبرامج التدريب واتفاقيات صيانة تلك المعدات من الدول الغربية. ناهيك عما تستنزفه ما يُسمى بالمشاريع “الرائدة” و”العملاقة” التي لا هدف فعليا لها سوى المفاخرة بين العوائل الحاكمة.
وكما هو الحال في البلدان الاستبدادية الأخرى فإن غياب الرقابة الشعبية ممثلة ببرلمان منتخب وكامل الصلاحيات، وبنشاط حيوي لمكونات المجتمع المدني، وبوسائل إعلام مستقلة يعطِّل جميع مقاصد الإصلاح. بل إن غياب الرقابة الشعبية بأذرعها الثلاثة يؤدي كما هو الحال عندنا إلى إبقاء مسئولية الرقابة على خطط ومشاريع الإصلاح الاقتصادي والحكم على مدى نجاحها في أيدي السلطة الحاكمة نفسها. وفي أحسن الحالات نراها تستعين بمن يتسنى لها من خبراء صندوق النقد الدولي أو من تختارهم من موظفي شركات العلاقات العامة الدولية.
من يتابع سلسلة المشاريع التنموية المعلنة في البحرين، أو بقية بلدان المنطقة، طيلة الخمسين سنة الماضية يرَ بوضوح عدم ملاءمة مشاريع كثيرة لظروف بلداننا من جهة أوعدم جدواها الاقتصادية أو الاجتماعية من الجهة الأخرى. كما يلاحظ فشل كثير من الخطط المتتالية في تحقيق أجزاء بسيطة من أهدافها المعلنة بما فيها توطين سوق العمل. ومع ذلك لا تتوقف أجهزة الإعلام الرسمية وبمساعدة كبرى شركات العلاقات العامة الدولية عن تدبيج المقالات والتقارير للتغطية على فشل تلك الخطط والمشاريع الإصلاحية وهدر الثروات والطاقات.
4- بما أن خطط التنمية الخليجية تتشابه إلى درجة كبيرة، فهل تتوقع تعاونًا اقتصاديًّا مكثفًا في الفترة القادمة؟ أم أن للأزمة الخليجية تداعيات أيضاً على صعيد التكامل الاقتصادي المنشود؟
تسهم الأزمة الخليجية بدورٍ كبير بلا شك في استمرار عجز دول مجلس التعاون عن تحويله إلى منظومة تعاون اقتصادي إقليمي. ولا يمكن تجاهل الدور الذي تلعبه تبعات الحرب اليمنية بما فيها كلفتها المالية في استمرار الوضع المؤسف. إلا أن فشل قيام منظومة اقتصادية خليجية يعود لأسباب أخرى سبقت بكثير الأزمة الخليجية وحرب اليمن. وهي أسبابٌ ستبقى فاعلة للأسف حتى بعد تسوية الأزمة الراهنة وبعد انتهاء الحرب.
أحد أهم الأسباب التي عطلت طيلة أكثر من 37 سنة قيام حدٍ أدنى من التعاون الاقتصادي بين دول مجلس التعاون يكمن في أن حكام الخليج يتعاملون مع بعضهم البعض كشيوخ قبائل وليس كرؤساء دول في القرن الواحد والعشرين – عصر التكتلات الاقتصادية (والسياسية). لهذا السبب بقيت مشاريع التعاون الاقتصادي الإقليمي في الأدراج طيلة العقود الماضية لخشية كل شيخ قبيلة من أن تفتح تلك المشاريع مجالات يتقوى بها شيوخٌ آخرون.
يرتبط هذا بما سبقت الإشارة إليه حول السلبيات الناجمة عن انفراد العوائل الحاكمة بالقرار في مختلف شئون الدولة بما فيها الشؤون الاقتصادية والتعاون الإقليمي. كما يرتبط به التزام المستشارين والخبراء الاقتصاديين المحليين منهم أم الأجانب بإرضاء السلطان. فهؤلاء يخافون على مراكزهم فيتحاشون أن يطرحوا مشروعاً أو اقتراحاً يعرفون مقدماً إنه قد لا يعجب الحاكم حتى ولو كان هو الخيار الأفضل.
وأخيراً لا بد من الإشارة إلى حقيقة أن منطقة الخليج هي منطقة تابعة في النظام الاقتصادي العالمي تقوم بمهمتين أساسيتيْن: الأولى هي إنتاج الطاقة وبيعها والثانية هي إعادة تدوير عائداتها بأن تبقى سوقاً استهلاكية لبضائع بلدان المركز الإمبريالي وخدماتها. هذه التبعية فرضت على حكام المنطقة قيوداً لا يجرؤون على تحديها بل لا يرغبون في البحث عن سُبل الفكاك منها. يمكن ملاحظة أحد تداعيات تلك القيود في إصرار الإدارات الأمريكية المتتالية طيلة العقود الماضية على عدم التعامل الاقتصادي مع دول مجلس التعاون كدولٍ تنتمي إلى منظمة إقليمية. ولذلك رفض الأمريكيون العروض السعودية بأن تعقد بلادهم إتفاقية واحدة للتجارة الحرة تشمل جميع دول المجلس، بل أصرّت الولايات المتحدة الأمريكية على عقد اتفاقيات منفردة مع كل دولة خليجية على حدة مما يناقض أحد أهم بنود “الاتفاقية الاقتصادية الموحدة لدول مجلس التعاون”. ولا شك أن الموقف الأمريكي المتعنت سيزداد تعنتاً في عهد الرئيس ترامب.
5- اكتشفت البحرين مؤخراً حقل نفط صخري قيل إنه أكبر حقل نفط تم اكتشافه منذ 1932. هل ترى أنه سيلعب دوراً مهماً في إنعاش الاقتصاد؟
في ظروف اعتيادية يؤدي دخول موارد جديدة إلى اقتصاد بلدٍ ما إلى تحريك الدورة الاقتصادية فيها وإنعاش أغلب قطاعات اقتصادها. كما يؤدي من جهة الأخرى إلى فتح مجالات استثمارية وتشغيلية جديدة. ولكن إنعاش الاقتصاد وفتح مجالات جديدة للاستثمار والتشغيل لا تعني بالضرورة تحسين معيشة المواطنين في ذلك البلد. فمع غياب نظام رقابي فعلي وصارم على أساليب استثمار الموارد الجديدة وأساليب توزيع عوائدها فثمة احتمال كبير أن يكون مردود الموارد الجديدة أقل بكثير مما يروّج له الإعلام الرسمي بل وربما يكون المردود سلبياً. أقولُ، لكي يكون للموارد الجديدة دورٌ في إنعاش الاقتصاد وتحسين أوضاع المواطنين المعيشية لابد من استثمارها وإدارتها بطريقة مختلفة عن الأساليب المعتادة في البحرين حتى الآن. وهي أساليب وضع إطارها العام المستشار البريطاني تشارلس بلجريف مستنداً إلى اعتبار العائلة الخليفية للبحرين “غنيمة غزو” حين خصص للعائلة الحاكمة ثلث موارد البلاد بما فيها عوائد نفط حقل البحرين منذ 1932. واستمرت نسبة الثلث ثابتة بعد الاستقلال. بل إن قيمة “حصة العائلة الخليفية” من موارد البلاد تصاعدت بعد الاستقلال وبعد الطفرة النفطية نتيجة لزيادة العائدات النفطية، ونتيجة للمساعدات السخية التي كانت البحرين تحصل عليها من الكويت والسعودية وقطر والإمارات.
لا يستطيع قادة الرأي العام في البحرين، سواء أكانوا معارضة أم موالاة، التعرض إلى حصة العائلة الخليفية من موارد البلاد. وليس من الواقعي في الظروف الراهنة أن يجرؤ أحدٌ على المطالبة علناً بتقليصها بغرض الاستفادة منها في تغطية الدين العام وفي مرحلة لاحقة لتنفيذ مشاريع اقتصادية مجدية. إلا أن الجميع يعرف أن البحرين في حاجة إلى تقليص الإنفاق والبحث عن موارد دخل جديدة. ولهذا عمّت مشاعر الفرح البلاد كلها حين أعلن وزير النفط عن اكتشاف الحقل النفط الصخري الجديد في البحرين. ولا عجب أن تتعلق أعين الناس وآمالها في الخير الذي سيأتي به الحقل الجديد. فالبلاد تخنقها أزمة اقتصادية تتضاعف بها آثار الأزمة الأمنية السياسية. إلا أنه من سوء الطالع أن خبر اكتشاف الحقل الجديد جاء عشية إعلان الرئيس الأمريكي أن على الدول الخليجية أن تدفع أموالاً مقابل قيام بلاده بحمايتها. فهذه الدول، حسب ادعائه، لن تستمر أسبوعاً بدون الحماية الأمريكية. وهذا يعني أن الموارد المتوقعة من حقل النفط الجديد في البحرين سيذهب ثلثها للعائلة الحاكمة وسيُخصص جزءٌ من الباقي لدفع الأتاوة الإضافية التي سيفرضها الرئيس ترامب لحماية النظام في البحرين.
6- كشفت الصحافة في الفترة الأخيرة عما سُمي بـ “صراع الأجنحة” بين الملك ورئيس الوزراء. ما تقييم د. عبدالهادي خلف لهذا الصراع؟ وما توقعاتك له؟
لم ينقطع الحديث عن “صراع الأجنحة في العائلة الخليفية” منذ قيام هيئة الاتحاد الوطني في 1954 وحتى الآن. ويشكل “حديث الأجنحة” مادة أثيرة ودائمة تتغير فيها التفاصيل والأسماء ولكنها تدور حول الموضوع نفسه. لا أستغربُ أن يكون في العائلة الخليفية، مثلها في ذلك مثل كل العوائل الحاكمة، أجنحة تتنافس فيما بينها بل ويكره بعضها بعضاً. ولكن على ماذا تتنافس تلك الأجنحة؟ ولماذا يكره جناحٌ جناحأ آخر؟
نعم، تتنافس الأجنحة في الأعم الأغلب على من منها يستولي على أكبر قدر من الامتيازات والمناصب ومصادر القوة وليس على من يكون إصلاحياً أكثر من الآخر. ورغم هذا تجتذب غواية الأجنحة، جيلاً بعد جيل، أطرافاً في حركة المعارضة وتدفعها إلى ترويج الادعاء بأن في السلطة الخليفية أجنحة إصلاحية ومتشددة تتصارع فيما بينها. وجيلاً بعد جيل تختلف فصائل الحركة الوطنية حول الموقف من ذلك الصراع بين الأجنحة.
أول توثيق لصراع الأجنحة أورده المرحوم عبدالرحمن الباكر في كتابه “من البحرين إلى المنفى”. ففي أثناء إضراب عام أعلنته الهيئة كرر دعيج بن حمد وهو شقيق حاكم البحرين وقتها عرضاً سبق وأن عرضه على قيادة الهيئة مؤداه أنه سيوافق على جميع مطالب الهيئة مقابل قبولها تنصيبه حاكماً للبحرين بدلاً من شقيقه. بل يذكر الباكر رحمه الله إنه تسّلم ورقة بذلك المضمون تحمل توقيع دعيج. لم يصدق المرحوم الباكر تلك الخدعة ولم يخضع لغواية صراع الأجنحة.
بعد ذلك بعشرين سنة لم يقبل فصيلٌ من فصائل الحركة الوطنية محمد بن سلمان، شقيق حاكم البلاد آنذاك، عرضاً بالتعاون معه عبر تحريك الشارع بغرض التمهيد لإزاحة شقيقه رئيس الوزراء خليفة بن سلمان و”إصلاح الأوضاع” في البلاد.
ولو قمنا بمراجعة السجالات التي دارت غداة إعداد ميثاق العمل الوطني وعشية إعلان الدستور المنحة (2000-2002) لسمعنا ضجيج أطراف لا يُشك في إخلاصها ووعيها تطالب الناس بعدم رفع سقف مطالبها كي لا تستفز “الحرس القديم”. اختفى ذلك الحرس القديم في السنوات الأخيرة ليتم التركيز على ما يُسمى بجناح “الخوالد” ولتحميله جميع أوزار فشل “المشروع الإصلاحي”. وستجد من يشاء عشرات المقالات والأبحاث تؤكد “صراع الأجنحة” اعتماداً على روايات منقولة عن فلان وعلّان، أي روايات لا يمكن توثيقها أو التحقق منها ولكنها قد تفيد في ترويج الغواية.
مرةً أخرى أقولُ نعم، ثمة أجنحة في العائلة الحاكمة في البحرين كغيرها من العوائل الكبيرة والصغيرة. ولكن من الخطأ التعويل على الخلافات أو الصراعات بين هذه الأجنحة. فما نعرفه يشير إلى أن أجنحة السلطة الخليفية لا تختلف إلا على ثلاثة مسائل رئيسة. أولاها تتعلق بتحديد الأساليب الأكثر جدوى لإدامة موروث الغزو الذي يعتبرونه أساس شرعية سلطتهم. فهذا الطرف يفضل القمع الدموي وطرفٌ ثانٍ يفضل شراء الذمم وطرفٌ ثالث يجمع بين هذا وذاك. أما المسألة الثانية التي يختلفون عليها فتتعلق بأسلوب توزيع الغنائم بينهم. أما الثالثة فتتمثل في التنافس على اكتساب أكبر عدد من الموالين.
7- يتناقش المحللون بكثرة حول قوة ومتانة العلاقات البحرينية السعودية، لا سيما في الجانبين الأمني والدبلوماسي، ولكن يعتقد البعض أن البحرين أصبحت “تابعة” للسعودية إذ أصبحت تتاجر بمواقفها السياسية مقابل الدعم السعودي. هل هذا صحيح؟
بداية لا بد من الإشارة إلى العلاقة بين العائلتيْن الحاكمتيْن في السعودية والبحرين ، إنها علاقة معقدة ومتعرجة وتحتاج لاهتمام جدي من الباحثين والمؤرخين. لعب آل سعود دوراً مؤثراً في إدامة عقود الفوضى التي تلت مجيء آل خليفة إلى البحرين في 1783 وحتى 1869. خلال عقود الفوضى تلك، لم تكن البحرين ملكاً خالصاً لفاتحيها. ففي الستة والثمانين سنة بين التاريخيْن لم تستقر الأوضاع في البحرين لآل خليفة. بل تناقل مقاليد السلطة على البحرين بجانب آل خليفة عدة أطراف أهمها ابن سعود وسلطان مسقط. وفي سنوات الفوضى تلك، أسهم تدخل آل سعود في تأجيج النزاعات الدموية بين الخليفيين أنفسهم. ولعل من المفيد (بعد أن تحدثنا عن صراع الأجنحة) الإشارة هنا إلى أن النزاعات الدموية بين آل خليفة بلغت أن يتنازع على الحكم ثلاثة منهم في العام 1869. ولم تُحسم الأمور إلا بتدخل البريطانيين مباشرة فجلبوا عيسى بن علي وأولوه الحكم بدعمٍ وتأييد من عدد كبير من وجهاء البحرين وتجارها من الشيعة والسنة. في تلك السنة دشَّن تدخل البريطانيين استقرار الحكم في البحرين لآل خليفة ووفروا لهم الحماية من تكرار اعتداءات أمير نجد وسلطان مسقط علاوة على درء تهديدات شاه إيران. من جهتها وفرّت الاتفاقيات المتتالية التي وقعها عيسى بن علي مع البريطانيين حماية لحكمه وحكم خلفائه من بعده من تهديدات الجار السعودي (علاوة على تهديدات الجار الإيراني). واستمر الحال كذلك لمدة قرن كامل، أي إلى إعلان استقلال البحرين في 1971.
بعد الانسحاب البريطاني من الخليج وإعلان استقلال البحرين انتقلت علاقاتها مع السعودية إلى مستوى مختلف تماماً. فلقد سعت السعودية أن يكون لها تأثير مباشرعلى الوضع الداخلي في البحرين من خلال استثماراتها ومن خلال المساعدة المالية بالإضافة إلى دعم بناء المساجد ومدارس التعليم الديني وابتعاث معلمين سعوديين للتعليم في مدارس البحرين. وبلغ الدعم السعودي أوْجَه في اتفاق البلدين على تقاسم عائدات نفط حقل أبو سعفة المشترك واتفاقهما على تشييد جسر الملك فهد الذي يربط البلدين والذي تحملت السعودية جميع تكاليفه. بهذين الاتفاقين استكملت السعودية هيمنتها على البحرين وربطت اقتصاد البحرين ارتباطاً لا فكاك منه باقتصادها. ولقد اكتشف حاكم البحرين هذا الأمر حين عقد منفرداً “اتفاقية التجارة الحرة” مع الولايات المتحدة رغم معارضة السعودية لها. كان حمد يظن أن “الحليف الأمريكي” سيوفر له درعاً يحميه من ضغوط تبعية اقتصاد بلاده للسعودية. إلا أنه اكتشف خطأ حساباته بعد أن هددت السعودية بوقف إمدادات النفط من حقل أبوسعفة. تعلم حمد وبقية المسئولين في البحرين من ذلك الدرس ولم يعد أحدٌ يجرؤ على تكرار محاولة “التحرر” من الهيمنة السعودية على السلطة في البحرين وقراراتها.
أما بعد 15 مارس 2011 فلقد تكرّست تبعية البحرين أمنياً وسياسياً واقتصادياً للسعودية. ولا تبدو العائلة الخليفية منزعجة من هذا الوضع فهي لا تسعى لنفيه أو تغييره ولا تجد فيه انتقاصاً لسيادة البحرين. بل هي لا تخفي تلك العلاقة نظراً لما تجنيه من مكاسب جمّة.
بتبعيتها للشقيقة الكبرى حققت العائلة الخليفية مكاسب كثيرة بما فيها زيادة الدعم المالي عن طريق الاستثمارات في مصارف البحرين وأسواقها أو عن طريق الهبات المالية المباشرة وغير المباشرة. من جهة ثانية أدخلت السعودية البحرين كطرف في مفاوضاتها المتعلقة بصفقات شراء الأسلحة والمعدات العسكرية من بريطانيا والولايات المتحدة وغيرهما من الدول الغربية. فبعد 2011 رأينا دلائل على أن من بين شروط نجاح تلك المفاوضات والتوقيع على تلك الصفقات أن تتعهد الدول المصدرة للسلاح والمعدات العسكرية بالعمل على دعم السعودية (والبحرين) في مواجهة حملات المنظمات الدولية المعنية بالدفاع عن حقوق الإنسان ومساعدتهما على تفادي المساءلة في المحافل الدولية.
8- انتقدت في مقالاتك قيام بعض الدول الخليجية مثل السعودية والبحرين والكويت بتمويل المشاريع التنموية في الدول الأخرى وصرف الأموال على الأسلحة الأمريكية في ظل افتقار هذه الدول للتنمية في عدد من المجالات. في رأيك، ما السبب الذي يدفع دول الخليج لصرف المليارات في الخارج عوضاً عن استثمارها في الداخل؟
بغض النظر عما يردده الإعلام الرسمي عن علاقات الصداقة وحتى التحالف بين الدول الخليجية والولايات المتحدة الأمريكية فإن توصيفها الأصح إنها علاقة غير متكافئة يعتمد ثباتها واستمراها على قبول العوائل الحاكمة دفع “الأتاوات” التي تفرضها الإدارة الأمريكية مقابل حمايتها وضمان استمرار حكمها. الجزء الأكبر والأوضح في الأتاوات يتمثل في الإنفاق العسكري الذي يتزايد عاماً بعد عام.
ما معنى الأتاوة؟ هي نوع من الجزية التي يدفعها الضعفاء عن يدٍ وهم صاغرون إلى القوي نظير حمايةٍ من تهديد حقيقي أو متخيل، أو لدفع خطر داهم أو متوقع. قد تكون الأتاوة مالاً أو عيناً أو خدمات أو التزامات تؤسس علاقة غير متكافئة بين القوي والضعيف. ليس مهماً دائماً حجم الأتاوة بل دورها الرمزي. لذا يصر القوي على تحصيلها لكي يتحقق من استمرار هيمنته، كما يلتزم الضعيف بأدائها ليؤكد قبوله بالوضع القائم.
كرّر الرئيس الأمريكي ترامب منذ بداية حملته الانتخابية في 2015 إن “السعودية دولة ثرية وعليها أن تدفع المال لأمريكا لقاء ما تحصل عليه منها سياسياً وأمنياً” فالسعودية، حسب قوله، “ستكون في ورطة كبيرة قريباً، وستحتاج لمساعدتنا فلولانا لما وجدت وما كان لها أن تبقى”. وهو الموقف نفسه الذي كرره في أبريل الماضي بمطالبته قادة هذه الدول بالمال مقابل توفير الحماية لدولهم الغنية مؤكداً إنه ” تحدث معهم وسيدفعون”.
حين قال الرئيس الأمريكي ترامب “ادفعوا الأتاوة التي نقررها عليكم مقابل حمايتكم” وحين قال إنه تحدث معهم وسيدفعون فقد كفانا الإشارة إلى ما جاء في عشرات المقالات والبيانات والدراسات قامت بنشرها فصائل الحركة الوطنية في الخليج منذ السبعينيات.
حتى الآن أسهمت الأتاوات المفروضة على السعودية في أن تصبح ميزانيتها العسكرية أعلى ميزانية عسكرية في العالم بعد الولايات المتحدة والصين. ففي العام الماضي تخطت السعودية الميزانيات العسكرية لأغلب دول العالم بما فيها بريطانيا وفرنسا وألمانيا وتركيا والهند وروسيا. ومع ذلك نراها عاجزة عن حماية حدودها الجنوبية وأجوائها من هجمات الميليشيات الحوثية وصواريخها.
رغم الهدر غير العقلاني للموارد المستمر منذ منتصف السبعينيات فإن الرأي الغالب بين الخبراء الإستراتيجيين يعتبر أن دولنا ليست قادرة على توفير متطلبات الدفاع عن أمنها القومي وحماية حدودها وسيادتها. بل هناك من يرى أن عدم القدرة هذه ستستمر لعقود أخرى. فرغم ارتفاع ما ننفقه على المشتريات العسكرية، بل وبسبب هذه المشتريات، سنبقى عالة على الغرب ومرتهنين لإرادته.
من جهة أخرى فإن من ينظر إلى ما تستورده بلدان الخليج العربي من الأسلحة والمعدات والخدمات العسكرية من أمريكا وبقية البلدان الغربية نرى عدم ارتباط ذلك الاستيراد بخطط وطنية لبناء القوة الذاتية. وإلا فما الذي منع دول مجلس التعاون من أن تبني أسطولاً بحريا لحراسة شواطئها ومياهها الإقليمية؟ وهي الدول التي تطل على البحرالأحمر والبحر العربي والجزء الشمالي من المحيط الهندي علاوة على الخليج العربي. وما الذي منعها من تطوير التصنيع العسكري في بلدانها أو بالتعاون مع دول عربية أخرى؟ وها نحن نرى بعد أكثر من 45 سنة على الطفرة النفطية التي دشنت دخول منطقة الخليج بقوة إلى سوق السلاح العالمي نرى أمن بلداننا عالة على الولايات المتحدة الأمريكية وبقية البلدان الغربية.
9- تصريحات الرئيس الأمريكي أثارت حفيظة العديد من المواطنين الخليجيين لما اعتبروا فيها إهانة لهم كخليجيين إلا أن الحكومات تبدو غير مكترثة بذلك ولا زالت مستمرة في أداء “الأتاوات” حسب تعبيرك. لماذا تتنازل الحكومات عن سيادتها لصالح دول كبرى، هل السبب ضعفها العسكري والسياسي؟ أم المسألة أعمق من ذلك؟
يعرف حكام الخليج والجزيرة العربية حدود “السيادة” التي يتمتعون بها. فهم يحكمون دولاً رسم حدودها المستعمر البريطاني. وهم يعودون، كما أعود ويعود غيري، إلى تاريخ العوائل الحاكمة في المنطقة خلال المئة سنة الأخيرة فيلاحظون كما نلاحظ إنه تاريخٌ رسم المستعمر مساره وكتب تفاصيله. هذا ليس كلاماً تحريضياً. فحين نسأل من ثبّت العوائل الحاكمة في الإمارات السبع في دولة الإمارات وثبّت حدود كل إمارة؟ أو من أتى بعيسى بن علي في 1869 ونصّبه حاكماً على البحرين؟ أو كيف مهدت بريطانيا لابن سعود عبر اتفاقيتي دارين (1915) وجدّة (1927) “توحيد” المملكة تحت حكمه؟
انتهى عهد الحماية البريطانية فاستلم المهمة الحامي الأمريكي وورث جميع مكاسبها بما فيها القدرة على الاستخفاف بهم وبسيادة دولهم. وهو ما فعله الرئيس ترامب حين يعيّرهم علناً إن أنظمتهم لن تدوم دون حمايته. لم يحتج أحدٌ من حكام الدول الخليجية الست، أو حتى يمتعض، من تلك التصريحات المهينة التي أذاعتها جميع وسائل الإعلام في العالم عدا وسائل الإعلام الرسمية الخليجية. فحكامنا يعرفون كما يعرف ترامب أنه ليس لهم من درعٍ يحميهم إلا هو. المفارقة المحزنة إنك ستجد في الجهة الأخرى عشرات الأمثلة في كل دولة خليجية عن استنفار أجهزة الأمن والإعلام والقضاء لملاحقة مواطن أو مواطنة نشروا بضعة أسطر رأى أحد المخبرين فيها شبهة ازدراء بالحاكم أو إهانة لموظف حكومي.
10- برز مؤخراً جيلٌ جديدٌ من الحكام في الخليج وتحديداً في قطر والإمارات والسعودية الذين اتبعوا نهجاً مختلفاً عن آبائهم. إلى أين تتجه المنطقة تحت قيادتهم؟
للأسف الشديد لم نرَ خيراً حتى الآن من وصول “الجيل الجديد” إلى الحكم بل رأينا بعض شرور المغامرات التي أدخلوا المنطقة فيها. ولتوضيح هذا الرأي أحتاج أن أشير إلى ما أعتبره أموراً تجمع الثلاثة أي تميم والمحمدين (ملاحظة المحرر: محمد بن سلمان آل سعود، محمد بن زايد آل نهيان). ما يجمعهم في رأيي هي أربعة أمور مشتركة. أولها إن مؤهلاتهم لممارسة السلطة لا تزيد عن انتمائهم العائلي، وثانيها إنهم يمارسون السلطة دون رقابة شعبية ودون خشية من المحاسبة. وثالثها إنهم يعانون جميعاً من هاجس أن ينقلب عليهم أحد أقرب أقربائهم. أما الرابع فهو إنهم جميعاً يحتمون برضا القوى الغربية وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية.
يختلف الثلاثة عن أسلافهم الذين تعودوا على أساليب أخرى لتسوية مشاكلهم وخلافاتهم المزمنة. فبتلك الأساليب تمكنوا من إطالة عمر مجلس التعاون بين دولهم لأكثر من سبعة وثلاثين سنة رغم ما شهدته المنطقة من منازعات حدودية وحروب إقليمية ومحاولات انقلاب فاشلة وناجحة علاوة على الهزّات الاقتصادية. نعم لم يحقق المجلس إنجازات تاريخية ولم يتحول إلى كيان سياسي فاعل ولكنه حافظ على حدٍ أدنى من العلاقات بين شعوب الخليج تبرر لمن شاء في المهرجانات أن يغني “خليجينا واحد”.
كان الجيل القديم أكثر دراية بحدود قوته. فلم يتورط الشيخ زايد ولا ملوك السعودية مباشرة في حروبٍ خارجية ولا في نزاعات مسلحة لا مخرج منها. قبل محمد بن سلمان كانت جهود ملوك السعودية في اليمن تركز على ضمان ألا تشكل الجارة الجنوبية تهديداً لأمن الحكم السعودي. وهذا يفسر إن من يُعرفون الآن بعناصر الميلشيات الحوثية كانوا في أوقات سابقة حلفاء للسعودية ويقاتلون من أجلها. تغيرت الأمور كثيراً بعد أن توهم محمد بن سلمان ومحمد بن زايد إن بإمكانهما حسم أمر اليمن بحربٍ لن تدوم أكثر من أيام معدودة.
لقد وصل الثلاثة وهم من أولاد الطفرة النفطية الذين لايعرفون شيئاً عما سبقها إلى قمة القرار السياسي في بلدانهم وفي جعبتهم أسوأ ما يمكن أن يتعلموه من أساليب ممارسة السلطة في دولة ريعية واستبدادية في آن واحد. لذا رأيناهم يتعجلون في التخلي عن تقاليد من سبقوهم وأساليبهم في التعامل وطرقهم المداورة والصبورة في تسوية الخلافات. حين أخرج الثلاثة كل خلافاتهم إلى العلن كشفوا عن عجزهم عن حسمها أو تسويتها أو حتى الخروج منها بأقل الخسائر. من جهة ثانية وفرت لهم التغيرات المتباينة التي أحدثها الربيع العربي ما اعتبره الثلاثة فرصاً مؤاتية ومساحات ملائمة لتدشين مشاريع سياسية طموحة على مستوى المنطقة بكاملها. إلا إن تلك المشاريع كانت تحتاج لطاقات وخبرات لم يكن يمتلكها أيٌّ من القادة الثلاثة ولا دولهم. فلا يكفي لكي تحصل قطر أو السعودية أو الإمارات على دورٍ إقليمي أن تشتري خدمات مرتزقة إعلاميين أو مفكرين استراتيجيين أو خبراء عسكريين أو جيوشاً تقاتل نيابة عنها.
وهكذا رأينا انعدام التأهيل العسكري وقلة الخبرة وجنون العظمة والحسابات الخاطئة إلى أن تتحول “عاصفة الحزم” إلى حرب مدمرة تحصد عشرات آلاف الضحايا وتستنزف القدرات والطاقات في جميع بلدان المنطقة. وهذه هي الأسباب ذاتها، حسبما أرى، التي أدت إلى إشعال النزاع مع قطر وتؤدي إلى عدم القدرة على الخروج منه.
مسار السنوات الأخيرة التي شهدناه حتى الآن من أفعال “الجيل الجديد” في الإمارات وقطر والسعودية يجعلني أتهيب مما سيحمله لنا المستقبل من كوارث حين يكتمل السداسي بمجيء “جيلٌ جديد” آخر لحكم سلطنة عُمان والكويت والبحرين.
11- أتقصد أن الأزمة الخليجية اندلعت لأن كل حاكم من الجيل الجديد حاول زيادة نفوذه على حساب الآخر؟
نعم. ولكن دعني أتوسع في الإجابة بأن أشير إلى أن أحد أسباب اندلاع الأزمة الخليجية يعود لاقتناع قادة ثلاثة من دول الخليج بأنهم قادرون على ملء الفراغ السياسي في المنطقة العربية. وهو الفراغ الذي خلقته، كما أشرتُ سابقاً، تداعيات الربيع العربي وخاصة غياب مصر والعراق وسوريا عن المعادلة الإقليمية وعدم قدرتها على التأثير في ميزان القوى في المنطقة.
لقد احتاج كلٌ من الثلاثة إلى جرعة من مسببات جنون العظمة لكي يبدأ في وضع مشروع يؤدي إلى توليه قيادة الأمة. فلا تتوفر في أيٍ من البلدان الثلاث، أي السعودية والإمارات وقطر، القيادة السياسية المؤهلة والمجربة للقيام بهذا الدور. كما لا تتوفر في أيٍ من الدول الثلاث القدرات البشرية التي يستلزمها توليها قيادة المنطقة. لا أقول ذلك استصغاراً ولكنه واقعٌ صنعته سياسات الأنظمة الحاكمة طيلة العقود الماضية. فلننظر مثلاً إلى الحرب الإعلامية بين الدول الثلاث التي تُدار بأيدٍ أغلبها من خارج هذه الدول. أما المواجهات اليومية بين هذه الدول في الإعلام الخارجي فتتولاه شركات العلاقات العامة الغربية وباحثون مرتزقة يعملون في مراكز أبحاث أمريكية وأوروبية. وحتى حرب اليمن تطلبت استدعاء المقاتلين من السودان والصومال ناهيك عن مرتزقة من الباكستان وكولومبيا علاوة على المقاتلين التي تقوم بتوريدهم شركات غربية خاصة متخصصة مثل بلاك ووتر وغيرها. ورغم هذه الإمدادات الخارجية ورغم القدرات العسكرية للدول المشاركة في الحرب ضد الميلشيات الحوثية ما زالت في حاجة مستمرة للدعم اللوجيستي الأمريكي.
على أية حال، وبغض النظر عن مدى واقعية تطلع قادة قطر أو السعودية أو الإمارات تولي قيادة الإقليم أو الأمة فلا يمكن تجاهل أن مشاريعهم الطموحة غير قابلة للتعايش. نعم، لقد نجح المحمدان معاً في إقامة تحالف قوي يحاصر بقوة مشروع تميم كما بيَّنت الأزمة الخليجية الأخيرة. إلا أن ذلك لا يعني إنهما سيبقيان في خندق واحد. ولقد وفرت تفاصيل الحرب في اليمن عدة أمثلة على عمق التباين بين مشروع محمد بن زايد ومشروع محمد بن سلمان. وهو تباينٌ انعكست آثاره في سقوط كثير من الضحايا في مواجهات دموية بين أنصار الطرفين. فحتى بافتراض نجاح المحمدين في التخلص من منافسة تميم فمن منهما سيقبل بزعامة الآخر؟