أحدثت ثورات ما يعرف بالربيع العربي، نقلة نوعية في طبيعة العلاقات العربية – التركية، فبعد أن كانت العلاقات مقتصرة على التبادل الثقافي والاقتصادي، سعت تركيا إلى مد نفوذها في المنطقة وجاء ذلك تماشيا مع حالات العنف والفوضى التي شهدتها المنطقة العربية في تلك الفترة، فلجأت إلى جناحي القوة (الناعمة والصلبة) في سبيل تحقيق أهدافها التي على ما يبدو ترمي إلى إعادة استعمار الوطن العربي، فأقامت في سبيل ذلك قواعد عسكرية في أنحاء مختلفة من الوطن العربي بدواعي مختلفة، فتارة بداعي حفظ الأمن لدول الجوار وأخرى بطلب من هذه الدول.
وتسعى تركيا إلى أن تكون لاعبًا محوريًا في العديد من القضايا الإقليمية وتحاول التأثير في العديد من الملفات في الشرق الأوسط، سواءً على المستويات السياسية أو العسكرية أو اللوجستية، وبدأت في سياسة التوسع في آسيا وإفريقيا، لا سيما بعد فشل “أنقرة” في الانضمام للاتحاد الأوروبي وتولي الرئيس رجب طيب أردوغان زمام الأمور في الدولة، وهو الذي يحلم –بحسب معارضين– بإعادة أمجاد الإمبراطوية العثمانية، وتجلى ذلك في اتباع سياسات الهيمنة ومد النفوذ والتوسع الإقليمي في مناطق الصراعات الرخوة.
ويرى مهتمون بالشأن التركي أن تحركات أردوغان تصب في غالبها –رغم نفيه ذلك– نحو إعادة تأسيس الدولة العثمانية الكبرى التي تعيد عهد الاستعمار العثماني لمنطقة الشرق الأوسط قبل نحو خمسة قرون، ولعل الظروف الإقليمية التي تحيط بالمنطقة العربية كانت مواتية في فترة ما لاستغلالها لصالح الحلم “الأردوغاني“، والمقصود هنا عند انطلاق شرارة ثورات الربيع العربي التي جاءت بتيار “الإسلام السياسي” إلى الحكم في دول الربيع العربي (مصر وتونس وليبيا) وهو ما قابلته تركيا بكل ترحيب، فضلًا عن دعمها للمعارضة والجماعات المسلحة في سوريا، لتبدأ عندها خطط الأتراك في الهيمنة.
تحقيق الأجندة التركية بإعادة إحياء الإمبرطورية العثمانية –بحسب مختصين في الشأن التركي– يتأتى وفقًا للمفهوم الأردوغاني باستعادة احتلال الأراضي التي كانت تحت عباءة الدولة العثمانية قديمًا، وهو ما دعا تركيا للاتجاه نحو بناء قواعد عسكرية لها في عدد من الأقطار العربية كقطر والصومال والعراق، وهي بذلك تضمن السيطرة على نقاط استراتيجية جغرافيًا تحقق لها بسط نفوذها على مناطق حيوية في المنطقة العربية.
وحرصت تركيا خلال السنوات القليلة الماضية على أن تضع موطأ قدم لها في مناطق استراتيجية في الوطن العربي ما يمكن أن يسمى استعمار بمفهومه الحديث، حيث باتت تتواجد في الخليج العربي من خلال قاعدة “الريان” في قطر، وكذلك خليج عدن والمحيط عبر الصومال، والبحر الأحمر من خلال جزيرة سواكن بالسودان.
القوتان الصلبة والناعمة
المتابع للسياسة التركية يجد أنها اتبعت استراتيجية تتكون من محورين أساسيين مكنتها من التوغل في المنطقة العربية، وتجمع هذه الاستراتيجية بين القوة المادية والمقصود هنا القواعد العسكرية والمحور الثاني يتمثل في القوة الناعمة المتمثلة في الإعلام والدراما والسينما وغيرها من الفنون والثقافات المختلفة التي أصبحت لا تقل أهمية عن القوة العسكرية.
وأنشأت تركيا 5 قواعد عسكرية خارج البلاد 3 منها في المنطقة العربية فبعد قبرص التركية وأفغانستان، هناك قواعد عسكرية تركية في الصومال وقطر والموصل العراقية، كذلك تتوغل القوات التركية في داخل الأراضي السورية للقيام بعمليات عسكرية ضد القوات الكردية وضد عناصر تنظيم داعش الإرهابي، وأخيرًا تواجدت تركيا في السودان لإعادة تأهيل جزيرة سواكن الواقعة بالبحر الأحمر بالاتفاق مع حكومة الرئيس السوداني عمر البشير.
الدور التركي في الخليج
استطاعت تركيا أن تضع قدمًا في الخليج العربي، حيث وقعت اتفاقية التعاون العسكري والصناعات الدفاعية مع قطر في نهاية عام 2014، لإنشاء قاعدة “الريان” في قطر بعد أزمة سحب سفراء الدول الخليجية في مارس من نفس العام، وتضمنت الاتفاقية إمكانية نشر وتبادل بين القوات التركية والقطرية بين البلدين، ونشرت تركيا 3 آلاف عسكري تركي من القوات البرية والبحرية والجوية على الأراضي القطرية وأيضًا عناصر من القوات الخاصة وبعض المستشارين.
وعلى خلفية الأزمة الخليجية الأخيرة اشترطت دول المقاطعة (السعودية والإمارات ومصر والبحرين) إغلاق قطر للقاعدة العسكرية التركية بالإضافة إلى 12 شرطًا آخر مقابل وقف الإجراءات ضد الدوحة، هذه القاعدة ستمنح تركيا إطلالة قوية على الخليج العربي، ووجودًا عسكريًا صريحًا في منطقة تتمتع بمصادر طاقة وتداخل علاقات وتأثير في الاقتصاد العالمي.
الصومال والقرن الإفريقي
تضم القاعدة العسكرية التركية في الصومال 200 ضابط تركي مهمتهم المعلن عنها تدريب أفراد الجيش الصومالي، ولكن وبحسب مراقبين فإن تركيا تسعى من خلال هذه القاعدة التي تطل على المحيط الهادي إلى السيطرة على المنافذ البحرية في هذه المنطقة الاستراتيجية حيث تبعد القاعدة نحو 10 كيلو مترات جنوب غرب العاصمة مقديشيو وتطل على المحيط الهادي.
ويرى الكاتب والمحلل السياسي الصومالي عبد الرحمن عبدي في تصريحات نشرها موقع “العربية نت” أن تركيا ومن خلال هذه القاعدة تحاول أن تتحكم بسواحل الصومال، وأن تقدم القاعدة تسهيلات عسكرية لأية قوات تركية قد تصل المنطقة مستقبلًا“، مشيرًا إلى أن “الهدف التركي في الصومال ليس إنسانيًا حسب ما يصوره البعض، بل إن الدعم الإنساني كان مجرد كسب قلوب الصوماليين ودغدغة لمشاعرهم“، متنبئًا أن “تستخدم تركيا هذه القاعدة كورقة ضغط على الحكومة الصومالية والقوى الدولية الفاعلة في الصومال“.
وتعد الصومال منطقة استراتيجية في القارة الإفريقية، فهي تمثّل القرن الإفريقي، وتطل على خليج عدن الاستراتيجي، أهم طرق المواصلات البحرية في المنطقة، والمعبر الأهم لمرور ناقلات النفط من الخليج العربي، ونظرًا للموقع الاستراتيجي لهذه، فإنها قد تشكل –كما يرى الكاتب الصومالي عبدالرحمن عبدي– تهديدًا مباشرًا للأمن القومي العربي الذي يشمل تحديدًا (المصري والسعودي واليمني والسوداني)، كون هذه الدول تطل على البحر الأحمر.
سواكن السودانية
كان آخر تحرك تركي في المنطقة العربية في السودان حيث اتفقت الحكومة التركية مع نظيرتها في السودان على إعادة تأهيل وإدارة جزيرة سواكن المطلة على البحر الأحمر، وهي الجزيرة التي تحظى بمكانة متميزة في عهد الدولة العثمانية حيث كانت مركزًا لبحريتها في البحر الأحمر.
وتعد هذا الاتفاقية استمرارًا لمسلسل التوغل التركي في الأراضي العربية حيث تبدو تحركات أردوغان تهدف إلى تطويق الدول العربية واستعادة مناطق للنفوذ والسيطرة مستغلًا حسابات سياسية ضيقة للتحالف مع بعض النخب السياسية والدول.
تواجد عسكري بالعراق
وأنشأت تركيا قاعدة عسكرية لها في مدينة بعشيقة المحاذية لمدينة الموصل وذلك في عام 2015، بعد سيطرة تنظيم داعش وتوسعه في العراق، وكانت تحت ذريعة تدريب العراقيين ضد داعش، ولكن مع الضغوط العراقية اضطرت أنقرة إلى إخلاء القاعدة وإعادة نشر قواتها شمال العراق، وقُدر الوجود التركي بنحو 3000 جندي بداعي محاربة حزب العمال الكردستاني.
دوافع تركية
وفي دراسة نشرها المركز العربي للبحوث والدراسات بعنوان “الفرص والتحديات: النفوذ التركي في الدول العربية” قالت إن التحرك العسكري التركي في المحيط العربي يأتي ضمن طموحات “أنقرة” الخارجية في ضوء الصراعات الإقليمية الدولية في المنطقة ويأتي لأهداف عدة أبرزها:
العائد الاقتصادي الذي قد ينتج عن فتح أسواق جديدة للأسلحة التركية، حيث ارتفعت الصناعات العسكرية التركية قبل ثلاثة أعوام إلى 4.3 مليار دولار صدّرت منها ما يبلغ قيمته 1.3 مليار دولار، وحماية مصالحها التجارية تحسبًا لأي مقاطعة قد تفرض عليها مستقبلًا نتيجة سياساتها الخارجية التي يعتبرها البعض مزدوجة المعايير، وذلك من خلال السيطرة على المعابر الدولية.
كذلك الحد من تمدد الأكراد في سوريا والعراق، وذلك بمشاركتها ضمن قوات التحالف الدولي لمكافحة الإرهاب إلى جانب التصدي لخطر الإرهاب، ومد النفوذ التركي في المنطقة تماشيًا مع تنامي النفوذ الإيراني والروسي ضمن التحركات الإقليمية والدولية تجاه الشرق الأوسط.
العرب يرفضون تركيا
وفي تقرير نشره معهد جيتس ستون الدولي، انتقد فيه طموحات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الذي وصفه التقرير بأنه “يعيش في عالم من صنع مخيلته، يشعر خلاله بأنه قادر على السيطرة على الدول العربية“، وأوضح التقرير أن الدول العربية لا ترغب في إعادة الاستعمار العثماني القديم، وأنه يستحيل تنفيذ رغبات أردوغان في توسيع نفوذه بالمنطقة، لا سيما العالم العربي، الذي بات لا ينظر إلى تركيا كما كانت من قبل حين دفاعها عن القضية الفلسطينية.
ونوه التقرير إلى تراجع التحالف التركي السعودي خاصة بعد تضامن تركيا مع قطر في أزمتها الأخيرة مع الدول الخليجية، مشيرًا إلى أن شعبية أردوغان تراجعت كثيرًا في الدول العربية، لا سيما مصر البلد الأكبر عربيًا.
القوة الناعمة
تلجأ بعض الدول إلى القوة الناعمة كسلاح لترسيخ نفوذها في بلدان أخرى، وهو ما سعت أنقرة للقيام به في البلدان العربية ما يساهم في انتشار وتمدد الثقافة التركية في المنطقة، وبالرغم من رفض الأنظمة العربية كافة أشكال إعادة إحياء الامبراطورية العثمانية القديمة، إلا أن تركيا تقوم بكل ما يمكن لها من أدوات لبسط نفوذها في المنطقة العربية سياسيًا واقتصاديًا وثقافيًا، وقد تكون نجحت في ذلك إلى حد كبير حيث تمكنت من الوصول إلى المشاهد العربي عبر المواد الإعلامية المختلفة سيما المسلسلات الدرامية مثل “حريم السلطان” و“قيامة أرطغرل” و“السلطان عبدالحميد“.
المشاهد العربي تأثر كثيرًا بالمسلسلات والأفلام التركية المذاعة على الشاشات العربية من المحيط للخليج، وكان لها أكبر الأثر في الترويج للغة التركية وكذلك تشجيع السياحة هناك، إلا أن التضامن التركي مع تيارات الإسلام السياسي التي أفرزتها ثورات الربيع العربي، لا سيما جماعة الإخوان المسلمين كان له ردة فعل قوية عكسية، حيث اتفقت المحطات والقنوات الفضائية العربية على مقاطعة القوة الناعمة التركية، لإدراك الأنظمة العربية لخطورة هذه القوة على الشعوب، خاصة وأنها تخدم الصالح التركية وتهدد الأمن القومي العربي.
وبحسب تقارير استغلت تركيا حالة التوتر والصراع الدائر في المنطقة منذ سنوات وعمدت إلى تعليم اللاجئين الفارين من بؤر النزاع في سوريا اللغة التركية ما يعد خطوة جامحة نحو السيطرة على الشعوب التي كانت تستعمرها قديمًا.