يعتقد الكثير من أبناء الشعوب العربية أن كل من لا ينتمي إلى الأديان أو ينكر وجود خالق بأنه “ملحد” رغم الاختلافات الموجودة بين معتقدي الأفكار التنويرية أو التشكيكية في الأديان المختلفة. ويخلط العديد من أبناء الشعوب العربية بين مجموعة الأفكار والمعتقدات المتعلقة بإنكار وجود إله خالق للكون أو ماهية الإله والرافضة للمرجعية الدينية سواء كانت الديانة “سماوية أو أرضية”، محاولين تلخيص كل تلك الأفكار في لفظة “ملحد” رغم الفروق الشاسعة والاختلافات الجوهرية بين كل اعتقاد وآخر.
ولعل أشهر أنواع الخلط والذي يتم فى العالم العربي والدول ذات الأغلبية المسلمة بصورة خاصة هو الخلط بين الإلحاد والتصنيفات اللادينية الأخرى “كاللاأدرية والربوبية”، وقد رأينا أن نعرض بعض الأفكار التي لا ترتبط بالأديان سواء بالرفض التام أو القبول الجزئي، والتي يكمن الفرق بينها وبين الإلحاد في الموقف من وجود إله خالق من عدمه وماهيته وماذا يريد.
“اللادينية”
يشير مفهوم اللادينية إلى اتجاه فكري عام يرفض مرجعية الدين في حياة الإنسان ويؤمن بحق الإنسان في رسم حياته، واختيار مصيره بدون الالتزام بنص ديني، ويعتبر كل منكري الأديان أنها نص بشري محض ولا يعبر عن الحياة المطلقة، بغض النظر عن الاعتقاد ببشرية الأديان، وفكرة وجود إله أو آلهة.
وتعتبر اللادينية المفهوم الأشمل التي يضم تحته كل الأفكار والمعتقدات الأخرى لكن هناك اختلافات طفيفة بينهم، فليس كل لاديني ملحدا، ولكن كل ملحد لادينيا، لذلك سنسعى إلى عرض بعض الأفكار والاختلاف بينهما، مثل “الإلحاد واللاأدرية والربوبية”.
“الإلحاد”
الإلحاد بمعناه الواسع يعني عدم الاعتقاد أو الإيمان بوجود الآلهة، ومن ثم إنكار الأديان كليًا، وبالتالي يتناقض كليًا مع فكرة الإيمان بوجود إله للكون سواءً كان طبقًا للديانات المعروفة بالسماوية أو الأرضية، والتي بدأت تنتشر في القرن الثامن عشر خلال عصر التنوير في أوروبا، حيث شهدت الثورة الفرنسية أول حركة سياسية كبرى في التاريخ للدفاع عن سيادة العقل البشري على المعلومات والتعليمات الدينية التي كانت مسيطرة في تلك الحقبة.
تختلف الحجج لدى الملحدين فبعضهم يلجأ إلى النظريات العلمية التي ترجع كل شيء إلى سبب مادي بحت، متسلحين بالنظريات والحقائق العلمية التي تفسر نشأة الكون وظهور الإنسان على الأرض وخاصة نظريتي “الانفجار العظيم أو الكبير والتطور”، علاوة على الحجج الفلسفية والاجتماعية والتاريخية.
وتنتشر الحجج الفلسفية والاجتماعية والتاريخية بصورة أكبر في البلدان العربية عمومًا، خصوصًا في ظل الأسئلة الموجودة حول الأديان وماهية الإله والتي تجيب عليها الأديان دائمًا بإجابات غيبية، مرجعة ذلك إلى أن العقل البشري محدود ولن يستطيع فهم ماهية الإله وقدرته، وتفسير تعقيدات الكون، وسر الموت وما إلى ذلك.
وتعد نظرية الانفجار الكبير أحد أبرز نظريات تفسير نشأة الكون وظهور الإنسان على الأرض، والتي ظهرت في عشرينيات من القرن الماضي، واستغرق بلورتها في شكل كامل أكثر من أربعة عقود، والتي لم تكن أول محاولة لفهم الإنسان للكون، حيث إن أولى النظريات تعود للفيلسوف اليوناني أرسطو في القرن الرابع قبل الميلاد، والتي بنيت على فكرة أن الأرض ثابتة في مركز الكون.
وبقيت نظرية الانفجار الكبير الأكثر قبولًا لدى العلماء والفيزيائيين في العالم حتى وقتنا هذا، خصوصًا بعد فشل نظرية النسبية العامة لعالم الفيزياء ألبرت آينشتاين والتي ظهرت عام 1915 ميلاديًا، واعتمدت على أن الكون متجانس ومتوحد الخواص، وفي حالة سكون وغير قابل للتغيير.
ويعرف الباحث العراقي وأستاذ علم الأرض في جامعة البصرة واثق غازي المطوري الانفجار العظيم بأنه حادث كوني وقع قبل (15 بليون) سنة عندما كان الكون كله مضغوطًا في جزيء ذري واحد بشكل نقطة واحدة أطلق عليها العلماء اسم (الذرة البدائية) أو (الحساء الكوني)، وأن حجم هذه النقطة كان يساوي الصفر وكتلتها لا نهائية.
ويختصر التعريف في أن الكون كان عبارة عن طاقة خالصة، وأنه أنه قبل (15) بليون سنة وقع انفجار هائل في ذرة بدائية كانت تحتوي على مجموع المادة والطاقة، وفي اللحظات الأولى من الانفجار الهائل ارتفعت درجة الحرارة إلى عدة تريليونات، حيث خلقت فيها أجزاء الذرات، ومن هذه الأجزاء خلقت ذرات الهيدروجين والهليوم.
وتشير النظرية التي أسسها العديد من العلماء أبرزهم القس البلجيكي جورج لو ميتير، وجورج كاموف، أن الغبار الكوني الذي نشأت منه المجرات فيما بعد ثم تكون النجوم والكواكب، من هذه الذرات، وأنه في غضون ذلك كان الكون وما زال في حالة تمدد وتوسع، وبذلك فان الانفجار العظيم أدى ليس فقط إلى ظهور جزيئات ذرية جديدة بل إلى وجود مفهومي الزمان والمكان اللذين كان يستحيل الحديث عنهما قبل المادة.
“اللاأدري”
ومن الإلحاد إلى اللاأدري.. فاللاأدرية أو الأغنوستية “Agnosticism” مُصطلح مشتق من الإغريقية، وهي توجه فلسفي يُؤمن بأن القيم الحقيقية للقضايا الدينية أو الغيبية غير محددة ولا يمكن لأحد تحديدها، خاصة تلك المتعلقة بالقضايا الدينية مثل وجود إله من عدم وجوده وما وراء الطبيعة، والتي تُعتبر غامضة ولا يمكن معرفتها، بحسب الفيلسوف الأمريكي وليام ليونارد رو المتخصص في فلسفة الدين.
وذكر وليام أن اللاأدرية هي وجهة النظر القائلة بأن العقل البشري غير قادر على توفير أسباب عقلانية كافية لتبرير الإيمان بوجود الله أو الاعتقاد بأن الله غير موجود، بقدر ما يرى المرء أن معتقداتنا عقلانية فقط إذا كانت مدعومة بما فيه الكفاية من العقل البشري، فإن الشخص الذي يقبل الموقف الفلسفي لللاأدرية سيثبت أنه لا الاعتقاد بأن الله موجود أو الاعتقاد بأن الله غير موجود هو عقلاني”.
ويرى عالم الأحياء البريطاني توماس هنري هكسلي، أن “اللاأدرية ليست عقيدة، إنما هي طريقة يكمن جوهرها في التطبيق الدقيق لمبدأ واحد، وأن هناك منظورين فيما يختص بمسائل الفكر، أولهما الإيجابي، الذي يشير إلى مبدأ اتبع عقلك لأبعد مدى بغض النظر عن أي اعتبار آخر؛ ثانيهما السلبي، الذي يؤول إلى أنه لا تُسلم بصحة ثبوتها من عدمه”.
ويتنوع اللأدريون بين لاأدري مُلحد هو الذي لا يؤمن بوجود معبود، ولكنه لا يدعي معرفته من عدمها، ولا أدري مؤمن وهو الذي لا يدعي معرفة إله، ولكن في ذات الوقت يؤمن به، فضلا عن لاأدري براجماتي أو غير مكترث، وهو الذي يؤمن بأنه لا يوجد دليل على عدم وجود إله من عدمه، وأنه يُمكن لأي إله أن يتصرف بلا مبالاة تجاه الكون أو رفاهية سكانه، وبالتالي، يكاد يكون وجوده منعدمًا في القضايا الإنسانية، والتي يجب أن يكون بنفس درجة أهمية ألوهيته.
وتشمل أنواع المنتمين إلى هذا الفكر نوعين أخريين هما، اللاأدرية قوية أو الصارمة أو المنغلقة أو الدائمة، وهي التي تعتقد بأن التساؤلات المتعلقة بوجود أو عدم وجود إله أو آلهة والطبيعة النهائية للواقع هي أمور مجهولة، إضافة إلى اللاأدرية الضعيفة أو التجريبية أو المنفتحة أو المؤقتة، وهم أولئك الذين يعتقدون بأن وجود الإله من عدمه هي مسألة في الواقع خارج حدود المعرفة، ولكنها ليست بالضرورة أن تكون مجهولة، ما يعني تعليق الحكم لحين ظهور أدلة على أي الاتجاهيين.
ومن خلال التعريفات والأنواع السابقة فإن اللاأدرية ليست متلامسة في أي اتجاه مع الأديان الموجودة، لكونها في الأصل ليس لديها أي أدلة على وجود إله من عدمه، وتعد الأقرب إلى الإلحاد والأكثر ميولًا تجاه إنكار الأديان كليًا، حيث ينظر اللاأدري للأديان باعتبارها فلسفات بشرية أسهمت في التطور الإنساني فى مرحلة من المراحل الإنسانية ولكن قد تم تجاوز هذه المرحلة وأصبحت الإنسانية أكثر نضجًا وليست بحاجة لأديان تحدد لها ما هو جيد وما هو سيئ.
“الربوبية”
ومن اللاأدرية، إلى الربوبية، والتي عرفت بأنها مذهب فكري لاديني وفلسفة تؤمن بوجود مهندس عظيم للكون وبأن هذه الحقيقة يمكن الوصول إليها باستخدام العقل ومراقبة العالم الطبيعي وحده دون الحاجة إلى أي دين، بحسب السير ليزلي ستيفن في كتابه الفكر الإنكليزي في القرن الثامن عشر.
السير ليزلي أشار في كتابه إلى أن هنالك نوعين من الملامح يشكلان أساس الربوبية هما: “ملامح نقدية، وهي عبارة عن رفض جميع الأديان والنبوات والكتب “السماوية” والمعاجز وخوارق العادات والحوادث الغامضة، إضافة إلى ملامح بناءة وتعني الإيمان بالله الخالق وأنه زود الإنسان بالعقل الذي يستطيع من خلال أن يسير شؤونه”.
برزت الربوبية في القرن السابع عشر والقرن الثامن عشر خلال عصر التنوير في أوروبا ما دفع معظم الذين اعتنقوا ذلك الفكر إلى إنكار الإيمان بالثالوث المقدس أو ألوهية المسيح عيسى بن مريم أو المعجزات، لكنهم بقوا على إيمانهم بوجود إله واحد للكون، ووصفهم مؤرخ الأفكار الفرنسي بول هازارد بأنهم ”عقلانيون لديهم حنين إلى الدين، وأنهم رجال سمحوا لروح العصر بأن تفصلهم عن الاعتقاد التقليدي، ولكنهم أحبوا أن يعتقدوا بأن المنحدر الذي ساروا عليه لم يكن زلقًا بمقدار كاف كي يقودهم إلى الإلحاد”.
وتفاوتت آراء الربوبيين في تفاصيل الجوانب النقدية والبناءة، فمنهم من رفض النبوات والمعجزات ولكنه لا يزال يعتبر نفسه مسيحيًا، ويرى بأن المسيحية الحقة خالية من العقائد الغامضة والخارقة وعقيدة الثالوث والنبوات، كما رفض بعض الربوبيين الجانب الإلهي في المسيح ولكنهم لا زالوا يحترمونه كمعلم للأخلاق والمثل.
وحمل الربوبيون المعاصرون آراء كثيرة عن الإله وعلاقته بالعالم، ليصبح “الربوبة الكلية والكل في الرب والربوبية الروحية والربوبية العلمية والربوبية المسيحية والربوبية الإنسانية”، حيث يرى بعضهم الإله في تكوين الطبيعة وفي حياتهم “مصمم رئيسي”، ويقتصر البعض دور الإله على أنه “محفز رئيسي”، فيما يراه الأخرين “مراقب رئيسي”، ويصفه آخرون بأنه “محرك رئيسي”.
ومن خلال التعريفات والتفاصيل المختصرة التي سبق ذكرها فإن الربوبية ليست مبنية على نظريات علمية وفيزيائية ترجع إلى شيء ولكنها، معتمدة بشكل كلي على مدى تصديق العقل للأحداث الواراد ذكرها في الكتب الدينية كالتواراة والإنجيل والقرآن، من معجزات وأمور خارقة.