دار حوار قصير بين أحمد بهاء الدين نقيب الصحفيين الأسبق في مصر، مع حسن أبوباشا وزير الداخلية الأسبق، وقتها سأل بهاء الدين، أبوباشا قائلا له “لماذا تستخدمون الصحفيين الفاشلين للتجسس على زملائهم وكتابة التقارير فيهم؟‘‘ وكان رد وزير الداخلية “وهل الصحفي المتحقق في مهنته والمتمكن منها يمكن أن يعمل مخبرا؟“.
تعاني الصحافة العربية من انتشار ظاهرة “أمنجية الصحافة أو المخبر الصحافي” بصورة كثيفة خلال الأعوام الماضية، خصوصًا في ظل الاضطرابات السياسية والأمنية التي تعاني منها البلدان العربية بعد ثورات الربيع العربي وفي ظل انتشار الحكم الديكتاتوري في العديد من الدول، ورغم الحملات الأمنية المستمرة لتقييد حرية الرأي والتعبير وفرض خطوط رئيسية تعاقب كل الصحف التي تتخطاها، لتصبح عقيدة راسخة في كل المؤسسات الإعلامية.
بدأ ظهور “صحافيي أمن الدولة” في المنطقة العربية، منذ بداية القرن الماضي، وتحديدًا مع انتشار “الصحف” في البلدان العربية بشكل أكبر، ونجاحها في إحداث تأثير كبير على القارئ العربي، لتحول الأجهزة الأمنية في تلك الفترة بصرها إلى الكتاب الصحافيين ساعية إلى السيطرة عليهم، وإخضاعهم إلى إرادتها.
في الماضي البعيد اعتمد الأجهزة الأمنية في الوطن العربي على محاولة استقطاب بعض الصحفيين للاطلاع على أخبار زملائهم، ومعرفة ما يدور في الأورقة، ومع منتصف القرن الماضي وظهور حركات التحرر في البلدان العربية وتمكن الأجهزة العسكرية والديكتاتورية تطورت الأمور إلى أبعاد أخرى.
الصحافي المصري ح.إ –والذي عمل 10 سنوات في دولة قطر– حكى لـ“مواطن” عن “أمنجية الصحافة” في مصر، قائلًا: “المؤسسات الصحافية في مصر في السابق كانت محصورة في المؤسسات الحكومية، و3 صحف أخرى حزبية وخاصة فقط، وكان الأمن يحاول تجنيد الصحافيين للاطلاع على أخبار زملائهم، وكانت تهمة العمالة للأمن في السابق (وصمة عار) على الإعلامي، لكن الآن الأمور اختلفت كثيرًا فأصبح الأمن يجد صعوبة في اختيار مخبريه بسبب كثرة المعروض عليه“.
وأضاف في تصريحات خاصة لـ“مواطن“: “قوات الأمن منذ بداية عهد الصحافة في شتى البلدان العربية تحاول جذب صحافيين للتعاون معها لمعرفة الأخبار الكاملة عن المؤسسة والعاملين بها، ومؤيدي الدولة منهم ومعارضيها، وكان ذلك يتم عبر قنوات تقليدية بحتة تعتمد على انتقاء العناصر ذوي الاحتياجات (الفقر أو الفشل أو الشهرة)، ومذكرات اللواء فؤاد علام مدير مباحث أمن الدولة المصرية الأسبق، والتي تحمل عنوان (أنا والإخوان) والتي كشفت عن طريقة التعامل الأمني للتجسس على الصحافيين، والتي كانت سببًا استراتيجيًا في تغيير العقلية الأمنية حاليًا“.
ومع نهاية القرن الماضي، تطورات الأساليب الأمنية للسيطرة على الصحافيين وتقييد حرية الرأي والتعبير عمومًا، ويحكي الصحافي “ج.ر“، قائلًا: “نهاية القرن الماضي شهدت تطاولًا أمنيًا على الصحافة والصحافيين، وأصبحت الأمور تزداد حدة وجراءة عن السابق، فبدأت الأجهزة الأمنية (أمن الدولة سابقًا أو الأمن الوطني حاليًا) تتعامل مع كل تلك الأمور بوجه صريح، فبناء على التقارير التي يقدمها (الأمنجية) أصبح هناك استدعاء للصحافي للمثول للتحقيق بشكل غير رسمي في محاولة لترهيبه“.
وتابع: “كان يمثل ذلك قلقًا بالغًا لأرباب المهنة، وأضحت التهديدات أكثر، وأصبح الشك ينتشر في تعاون الزملاء (سرطانًا)، خصوصًا أن الأمنجية يتعاملون بشكل طبيعي ويصدرون الانتقادات لبدء المناقشات ومعرفة المؤيد والمعارض والمنافق والمتواري عن انتقاد أجهزة الدولة ومؤسساتها، ورغم كل ذلك كان اتهام الزميل بالعمالة مع الأمن، جريمة لا تغتفر وتسري كالنار في الهشيم، وتجعل المتهم دائمًا، في ركن بعيد عن الباقي“.
ونوه الصحافي “س.غ” –والذي عمل في عدد من الدول العربية على مدار حوالي 10 سنوات– إلى أنه خلال فترة عمله في دولة قطر في تسعينيات القرن الماضي كان يوجد رقيب مباشر داخل المؤسسة الصحافية لمتابعة الأوضاع داخل كل صحيفة، والمحتوى المنشور، مشيرًا إلى أنه لم يكن متضررًا من ذلك الوضع لأن معظم العاملين من خارج الدولة ينفذون السياسة التحريرية المتفق عليها مسبقًا قبل التعيين، مردفًا: “هناك كنا نؤدي عملنا فقط في إطار المحدودات المقررة، وكان الجميع يخشى السقوط في إحدى المحظورات خوفًا من قرار الإطاحة“.
“الألفية الجديدة“
وأردف “ج ر” والذي يعمل في إحدى دول الخليج العربي: “الألفية الجديدة شهدت رواجا كبيرا للأمنجية، مع بزوغ شمس شراكة قيادات شرطية وعسكرية متقاعدة في مجالس إدارة بعض المؤسسات الصحفية الخاصة، وامتلاكهم مقاليد الحكم بداخلها، لتشهد تلك الحقبة سعيا مستميتا من الراغبين في منفعة والساعين إلى مصلحة وضعاف النفوس في تقديم أوراق اعتمادهم للحكام الجديد للصحافة“.
وأكمل “ح.إ“: “الأوضاع مع بداية الألفية الجديدة تغيرت كليًا، فبدأ عملاء الأمن يتمكنون من ارتقاء مناصب كبيرة في مؤسساتهم، وأصبح الأمر مختلفًا كثيرًا عن السابق، فأصبح الأمن يتمكن خلالها من مساندة أبنائه ومهاجمة خصومه عن طريق نشر تقارير صحافية (بالأمر المباشر)، إضافةً إلى التحكم في المحتوى المنشور، لكي يتوافق مع النظام الحاكم“.
وتابع: “أدوار العناصر الأمنجية في الصحافة العربية، عموما متشابهة إلى حد كبير، في السابق كانت تعتمد الأجهزة الأمنية على وجود (الأمنجي) لمعرفة ما يدور في الغرف المغلقة وتفاصيل مؤيدي الدول، وقد حدث ذات مرة أن أحد الزملاء في أحد الصحف القومية في مصر كانت يتعاون مع قوات الأمن ونسي التقرير الذي أعده عن زملائه، على مكتبه، وعثر عليه أحد زملائه فوجد فيه كل التفاصيل بشأن الزملاء وتقسيمهم حتى من حيث مؤيدو الدولة، ومنافقو الدولة، ومعارضوها، فضلًا عن التفاصيل الأخرى المتعلقة بالحياة الشخصية“.
“ثورات الربيع العربي”
وبعد انتهاء العقد الأول من القرن الجديد، واندلاع ثورات الربيع العربي، أخذت الأنظمة العربية الحاكمة على زيادة قبضتها على أبناء صاحبة الجلالة، مستعينة بأبنائها، الصحافي العربي “ع.ع” تحدث مع “مواطن” بشأن “أمنجية الصحافة“، قائلًا: “المصطلح منتشر مهنيًا بكثافة عالية في الآونة الأخيرة، وخصوصًا بعد أحداث ثورات الربيع العربي، ويعد وصمة عار تلحق بصاحبها وتلازمه أينما حل أو ارتحل، ولا تعدم الأجهزة الأمنية أساليبها وحيلها لجذب بعض الصحافيين ضعاف النفوس أو من يميلون إلى المهادنة والتكسب على حساب الآخرين بالوشايات ونقل الأخبار وإعلام الأمن بأسماء وتحركات زملائهم من أصحاب الرأي والمشورة وكثيري الانتقاد لأداء الحكومات ونظم الحكم“.
وأضاف “ع.ع” أن الأمر ليس حكرًا على ثورات الربيع العربي وإنما يعود إلى أزمنة غابرة شهدت امتلاء المعتقلات والزنازين والأقبية بمعتقلي الرأي والفكر والتنوير، ولا ننسى أن بداية انتشار تلك الوضع كان خلال حقبة الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر، ثم صار على دربه العديد من أجهزة الأمن العربية، ليشهد الوطن العربي عمومًا فنونًا عدة لقتل آراء الصحافيين، وتهديدهم للمهادنة مع الأنظمة الحاكمة.
واستطرد: “مهنة الصحافة تترعرع على الحرية في الرأي والتعبير والتقويم والنقد وطرح الحلول وعرض الرأي والرأي الآخر وهو ما لا تريده أنظمة الحكم الشمولي والقمعية التي تلجأ إلى التقييد غير المباشر عن طريق تجنيد صحافيين من أبناء المهنة لمتابعة نشاط زملائهم وآرائهم السياسية النقدية“.
وأشار إلى أن ثورات الربيع العربي كشفت مؤمرات كبيرة وصحافيين كان العديدون يظنون أنهم “أحرار“، لكن مع بلوغ سلطات بوليسية –تعتمد على إحكام القبضة الأمنية على كل شيء– أصبح مجرد انتقاد العناصر الموالية للأمن بما يخالف كل المواثيق والأعراف يشكل “تهديدًا” قد يؤدي إلى الزج إلى السجون، مردفًا: “أظن التغير نحو حرية رأي حقيقية في الصحافة والإعلام عمومًا أمرًا غير وارد“.
من جانبه، قال الصحافي “س.غ” والذي عمل لحوالي 30 عامًا في عدد من الدول العربية، ظاهرة “الصحافيين الأمنجية” توحشت بعد ثورات الربيع العربي، فأصبح أصحابها من المتملقين والراغبين في السطوع يلهثون خلف الأجهزة الأمنية مقدمين كل أشكال الولاء والطاعة للوصول إلى القمة، لافتًا إلى أن الوضع في الفترة الأخيرة أكثر سواءً من السابق.
وذكر “س.غ” أن “الأمنجية” بزغت أسماؤهم بشدة خلال السنوات القليلة الماضية، وأصبحوا يهددون المهنة ذاتها، لا أصحابها فقط، متابعًا: “هم ليسوا أكفاء على مستوى التحرير والمهنية لأنهم لو كانوا كذلك لما تعاونوا مع الأجهزة الأمنية من الأساس، وأصبحت أطماعهم كبيرة جدًا في الوصول إلى الصفوف في مؤسساتهم، حتى أصبحت العمالة مع الأمن الآن بوابة العبور إلى المقدمة“.
“الاستسلام للأمن“
الأعوام القليلة الماضية، شهدت رواجًا كبيرًا للصحافيين الذين يتعاونون مع الأجهزة الأمنية، حتى أن رؤساء تحرير بعض الصحف الخاصة في مصر اعترفوا بعلمهم بوجود صحافيين أمنجية داخل مؤسساتهم، وعدم قدرتهم على مقاومتهم، حيث قال رئيس تحرير صحيفتي “المصري اليوم” و“الوطن” الكاتب الصحافي، مجدي الجلاد، في تصريحات تلفزيونية، إن بعض الصحافيين “مجندون” تابعون لأجهزة الأمن، يكتبون تقارير وينقلون معلومات عن زملائهم في المهنة، معقبًا: “بنبقى عارفينهم واحد واحد“.
وتابع الجلاد: “كل الجرائد بها “صحافيين أمنجية“، ده اعتراف.. من الخمسينيات حتى هذه اللحظة يحدث ذلك، مضيفًا أن الصحافيين “الأمنجية” يحصلون على العديد من الامتيازات، وأحيانًا على مكافآت، ومنهم من يسافر للحج وغير ذلك، مردفًا: “كل هذا معروف ونحن كصحافيين راضيين بيه، لأننا لن نفتش في جيوبنا، ولازم الأمن يجند اتنين أو تلاتة في كل جورنال، ومش هنقعد كل ما نعرفهم نمشيهم ويجيبوا غيرهم“.
وأوضح الدكتور محمد الباز الصحفي والكاتب، أن العلاقة بين الإعلام ومؤسسات الأمن موجودة طوال الوقت، وأن جزءا كبيرا من عمل الصحافة يعتمد على نقل المعلومات، والتي تتوافر لدى الأجهزة الأمنية، قائلا “عدد من الصحفيين تطوعوا ليكونوا مندوبين للأجهزة الأمنية في الصحافة، فينقلون أخبار زملائهم إلى الأجهزة التي تريد أن تعرف كل نَفَس في المؤسسات الإعلامية“، متابعا “ده شغل الأجهزة الأمنية لا نلومهم عليه، ولكن نلوم على من يتطوع لنقل أخبار زملائه“، لكن عصافير الصحافة ظاهرة لن تنقطع!.