رغم شرعية الثورات التي قامت في العديد من دول المنطقة العربية ودورها في رفع سقف الحريات والمطالبة بالحقوق الدنيا لكل مواطن والمتمثلة في العيش والحرية والكرامة الإنسانية، إلا أن ‘‘الرياح أتت بما لا تشتهي السفن‘‘ فقد أدت ثورات الربيع العربي في كل الدول التي قامت بها بانتكاسة على كافة المستويات السياسية والاجتماعية الاقتصادية وحتى الصحية.
يصلح أن يقال على الأوضاع في بلدان الربيع العربي كمصر وتونس وليبيا واليمن وحتى سوريا بأنه تراجع عن الحرية السياسية والفكرية والاجتماعية والاقتصادية لكن بـ‘‘طريقة ثورية‘‘ فمن أجل عودة الأنظمة المخلوعة، ومن أجل قمع الحريات ومن أجل الاقتصاديات المنهارة ومن أجل انهيار قطاع الصحة وزيادة الأمراض، قامت أيضا الثورات والمليونيات والتجمعات والمظاهرات لتضفي شرعية مزيفة على الأرض المحروقة.
وشرعنت الأوضاع الجديدة، لفرض عقوبات نظامية تحت عدة مسميات أقلها تخريبية أو إرهابية على كلمات ثورة أو ثائرين، وليس هذا فحسب بل إن شارع الربيع العربي خيم عليه الخريف وفتح أذرعه لشتاء بارد وسبات لا يرغب بالخروج مع مؤنة قد تكفيه لعدة عقود.
يقول الباحث علي مقداد الأستاذ في معهد مقاييس الصحة والتقييم في جامعة واشنطن، أن “الربيع العربي تحول إلى حروب معقدة. ومع تزايد عدد السكان والشيخوخة، أدت هذه النزاعات المستمرة إلى زيادة عبء الأمراض المزمنة والإصابات بشكل دراماتيكي”.
وأوضح أن العديد من الأطباء والممرضين غادروا إلى مناطق أكثر أمانا، ما زاد من الصعوبات التي يواجهها القطاع الصحي، وهذا التوجه “سيؤدي إلى ضغوط إضافية على الموارد المالية والبشرية في منطقة تعتبر فيها هذه الموارد أساسا ضئيلة”.
وهنا يأتي التساؤل الذي تحاول الإجابة عليه مجلة ‘‘مواطن‘‘ خلال تقريرها، هل قامت الثورات المضادة التي قضت على الحراك الشعبي بفعل داخلي قامت به الأنظمة القديمة والدولة العميقة؟، أم هناك أيدٍ خارجية هي من أعادت الوجوه القديمة وأتباعها للضوء مرة أخرى؟.
الثورة البرتقالية في أوكرانيا
لم تكن الدول العربية هي وحدها من تراجعت عن الموقف الثوري لموقف مغاير بطعم ثوري أيضا، فقد شهدت أوكرانيا قبلهم هذا التراجع، إبان الثورة البرتقالية في نوفمبر 2004 وحتى يناير 2005، حيث اشتعل فتيل الأزمة هناك بسبب ما قيل أنه تزوير في الانتخابات الرئاسية لصالح فيكتور يانكوفيتش، والفساد، وسوء استخدام السلطة، لذلك تمَّت مراجعة الانتخابات قانونيًّا وحُسمت للنظام الجديد بقيادة فيكتور يوشينكو ممثلًا عن الثورة باعتباره أحد قادتها، حيث تعهَّد يوشينكو بتحقيق 10 أهداف خلال فترته الرئاسية.
لكن بعد خمس سنوات من فوره فشل يوشينكو في تحقيق وعوده، فزادت معدلات الفقر إلى 37% وتزايدت معدلات البطالة إلى 15% وزاد العجز في الميزانية واستشرى الفساد، وأقيمت الانتخابات مرةً أخرى فعاد فيكتور يانكوفيتش، ممثل النظام القديم إلى السلطة من جديد، هذه المرة دون إجراءات أمنية، وبانتخابات ديموقراطية نزيهة تمامًا.
مصر البرتقالية
الوضع في مصر يشبه إلى حد كبير الوضع في أوكرانيا فبحسب ‘‘الحياة اللندنية‘‘ تعاني مصر أوضاعاً سيئة سياسياً ومعيشياً وأمنياً، فالنخبة السياسية التلفزيونية قفزت إلى واجهة الأحداث، واحتلت مواقعها في برامج الفضائيات ثم مواقع اتخاذ القرار من دون أي التحام مع الجماهير صناع الثورة ووقودها وزادها وزوادها، وبقيت الفجوة واسعة والهوة سحيقة عميقة بين أهداف النخبة ومطامعها السياسية وحاجات وطموحات الناس في العيش الكريم.
يشير الكاتب عبدالرحمن ناصر، إلى أن النظام بعد احتوائه للخطاب الثوري، يبدأ في الحديث عن الحريَّة كقيمة ذهبيَّة ومُطلقة لا يمكن المساس بها بأيّ شكل، ويحاول أن يقنع الجميع بأن الفصيل الذي ينتمي للثورة سيحاول تقليص مساحات كبيرة من السلطة التي تمتلكها الأجهزة المؤيدة للنظام ، وهنا سيصبح الحديث عن “الحريَّة” واجبًا، يشترك في هذا المناوئون للثورة والمؤيدون لها، يحاول أن يبث لدى الجميع أن أي محاولات للحدّ من هذه “الحرية” ستأتي عليهم بالوبال.
تونس على صفيح ساخن
تونس صاحبة الشرارة الأولى في الثورات وأيضا في عودة النظام القديم بقيادة قائد السبسي، تعاني حتى هذه اللحظة من الانهيار على المستوى الاقتصادي، ولا يبدو أن وتيرة الاحتجاجات في تونس ستنخفض في وقت قريب مع تمدد واستمرار المظاهرات والاضطرابات في مزيد من المناطق على خلفية الزيادات في الأسعار، وفي الوقت الذي تطالب فيه بعض الأحزاب السياسية بتعليق العمل ببعض بنود قانون المالية الجديد، لم تتخذ الحكومة أي إجراءات لامتصاص الغضب الشعبي المتصاعد.
وعلى هذا يعلق الخبير الاقتصادي عز الدين سعيد، قائلا ‘إن تونس تشهد مرحلة ساخنة مع استمرار شعور المواطنين بوطأة الغلاء وتقلص فرص العمل وتعطل مشاريع التنمية، وفقد المستهلك التونسي منذ عام 2011 قرابة 25% من قدرته الشرائية بسبب الزيادات المستمرة في الأسعار.
تلك الأوضاع المزرية في تونس جعلت الناشط الحقوقي والمدون عزيز عمامي، يتمنى أن لم تكن هناك ثورة تونسية فيقول ‘‘ليتها لم تقم، فالرؤية لم تتضح بعد، والربيع العربي، في الأساس لم يكن مشروع حكم، وبلداننا العربية لم تُبنَ على قواعد مدنية إنسانية سليمة، جيلاً بعد جيل، تناقلنا الأوهام والأكاذيب، قامعين ومقموعين، جيلاً بعد جيل، تعلمنا ألا ننظر إلى أنفسنا، أو إلى واقعنا.
في سوريا.. ياليتها ما كانت
حلب المدمرة وحمص المنهارة وسوريا التي عانت بكاملها لم ترضِ الثورة الشعبية –التي قامت ضد بشار– غرور الشعب، فبعد مرور قرابة 7 سنوات ما زال بشار قابعا على سدة الحكم تحت سمع وبصر التكتلات والقوى العالمية والإقليمية التي حالت دون أن يزول، والخاسر الوحيد كان هو الشعب السوري بأطفاله ونسائه وشيوخه وحتى شبابه.
محمد العبدالله الناشط السوري في مجال حقوق الإنسان يؤكد أنه لم تأت الرياح كما تشتهي السفن في الربيع السوري، فالنظام ما زال مستمرا في قتل الناس، وتحوّلت الثورة إلى قتال شوارع، واستجلبت معها تدويلاً سياسياً وجهادياً غير مسبوق للواقع السوري، وتحولت أمنيات الناس إلى عبور البحر تجاه أوروبا أو العودة إلى ما كنّا عليه قبل الثورة في أقصى مطالبها.
اليمن.. الثورة كالحمى
اليمن تعد صورة طبق الأصل لكل بلدان الربيع العربي التي تعاني، فكل العواقب السلبية التي تبعت الربيع العربي هي جزء من المرحلة الصعبة من مراحل دورة حياة الثورات بالشكل المتعارف عليه تاريخياً.
تسببت الحرب في تدهور الأوضاع في أفقر بلد عربي، حيث بات 21 مليون يمني (حوالي 80% من السكان) بحاجة إلى مساعدات إنسانية، وفق الأمم المتحدة، كما تفيد الإحصاءات الأممية بأن نحو 15 مليون شخص يفتقرون إلى الرعاية الصحية الكافية، فضلا عن مقتل 58 ألفا وجرح 80 ألفا آخرين، كما أعلنت مفوضية اللاجئين التابعة للأمم المتحدة، أن عدد النازحين والمهجرين قسريا داخل اليمن ارتفع إلى ثلاثة ملايين و154 ألفا و527 شخصا.
أفراح ناصر الناشطة والمدونة اليمينة تقول ‘‘أستقي إلهامي من تحليل المؤرخ الأمريكي كران برينتون في كتابه “تشريح الثورة” (1938). بعد أن درس عدداً من الثورات السياسية، خرج لنا باستنتاج مفاده أن للثورات دورة حياة تبدأ بما يشبه الحمى التي ترتفع بسبب شكاوى أفراد شعب ما، ومن أعراض هذه الحمى انهيار هيكل السلطة الذي يؤدي إلى انقلاب السلطة الذي يؤدي إلى تولي المتطرفين للسلطة، ثم تستعر الحمى ثم يصبح واضحاً أن الناس لا يتحملون تلك الحمى وتحل سلطة أخرى وهكذا ‘‘.
بالإضافة إلى ذلك، السؤال أعلاه يُحمّل جيل الربيع العربي الكثير على عاتقه، الأسئلة المماثلة تُحمّل هذا الجيل مسؤولية كل العواقب السلبية للثورات، وهذا الاتهام ليس في محله. فنحن جيل مثلنا مثل أي جيل، جزء من صيرورة التاريخ.
استراتيجيات الأنظمة المنقلبة ‘‘حراك ثوري جديد ضد الأول‘‘
بطريقة مخابراتية مدروسة، يتم تلبيس الحقائق لكي تنجح الأنظمة القمعية في وأد الثورات بثورات جديدة، فتقوم إحدى تكتيكات الثورة المضادة على احتواء الثورة من خلال عدة زوايا، فمن ناحية سيبدأ الإعلام الموالي للنظام القديم في تغيير نبرته التي كان يتهم من خلالها الثورة باعتبارها “مخططًا تآمريًا” لإسقاط النظام وإشاعة الفوضى وغيرها من التُّهم، وبعدها يبدأ في تمجيد الثورة والثوار، ودور الشباب في عملية التغيير، ويتم استضافة كوادر ثورية للحديث عن الثورة، هذه الآلية تعتمد على تغيير الصورة الذهنية للإعلام في ذهن المشاهد العادي.
وحين تتمتع هذه الأجهزة الإعلامية بالمصداقية في خيال القارئ تبدأ عمليَّة الإنهاء على الثورة من خلال عملية الثورة المضادة، وحين يتمّ الترويج لعمليات الثورة المضادة يتمّ الترويج لها باعتبارها حراكًا “ثوريًا” يكمل الحراك الثوري الأوَّل. هذا ما أكده الكاتب عبدالرحمن ناصر.
ويضيف ناصر، يتم استخدام استراتيجية أخرى، تقول يجب أن تُفسح المجال أكثر لأحد فصائل الثورة. ليصعد إلى قمة السلطة، ستواجهه العديد من المشكلات الاقتصادية وقضايا الفساد الكبيرة المترسبة من النظام السابق، سيتعهد للناخبين بأهداف سيحققها إن انتخبوه، سينتخبه الناس ولكنَّه سيفشل، وتستطيع أجهزة الدولة أن تُفشله أكثر بالطبع، حينها سندعو لانتخابات ديموقراطية جديدة وسيعود النظام القديم مرة أخرى، وكأنَّ الثورة لم تحدث. هذه المرَّة سيعود النظام من خلال الانتخابات.
المطبخ الأمريكي للثورات
البعض يرى أن صناعة الثورة أو التراجع عنها ليس شيئا عبثيا لكنه يحدث بفعل فاعل وعلى رأس الفاعلين أمريكا يقول الخبير الفرنسي ‘‘إريك دينسيه‘‘ مدير مركز البحوث الفرنسي للاستخبارات، بأن واشنطن من خلال هذه المؤسسات كانت في الحقيقة تصنع الحدث ولا تتوقعه أو تحلله فحسب. ويقدم هذا الرجل ما يعتقد أنه براهين لنفي صفة الثورة عن تونس ومصر فيقول بأن الحكومات التونسية المتعاقبة والراهنة تتشكل من وجوه منتسبة بطريقة أو بأخرى للرئيسين بورقيبة وبن علي ونظامهما وبأن المجلس العسكري في مصر لم يلغ اتفاقيات السلام مع إسرائيل ولم يوقف ضخ الغاز المصري للدولة العبرية بعد ثورة مصر.
ويرى أن ما تم ويتم في تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا ليس ثورات بالمعنى المتعارف بل لخصها في كونها أنواعا جديدة مبتكرة من انقلابات عسكرية (مقنعة) هندستها وقادتها الولايات المتحدة الأمريكية بغرض رسم خارطة شرق أوسطية مختلفة تتلاءم أكثر مع مصالح الدولة الأقوى وتؤدي لا إلى ثورات جذرية، بل إلى تعديل في مناهج الحكم يضرب عصفورين بحجر واحد، أي يصب في خانة المصالح الأمريكية من جهة ويستجيب لطموحات الشعوب العربية التائقة للحريات ولاحترام حقوق الإنسان من جهة ثانية، ولكن بشكل متدرج ومتحكم فيه حتى لا ينفلت.
الإمارات والسعودية ووأد الثورات
لم تتوقف المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات على وأد الحركات الاصلاحية التي نشأت داخل بلادهما وواد المعارضة بل قطعت المملكة العربية السعودية مؤخرا علاقاتها مع كندا وسحبت سفيرها بسبب تصريحات للحكومة الكندية بشان المعارضة في السعودية، فليس غريبا على من فعل ذلك أن يحاول قتل الثورات في مهدها في الخارج.
يرى المحامي والناشط خالد الأنسي في تصريحات بعربي 21، أن الثورات “لا تنتصر أو تنهزم بالضربة القاضية، وهي ليست مصباحا كهربائيا ينطفئ بكبسة زر، ولكن الثورة مرت بصراع مع الوكلاء المحليين لمضادات الثورات وهم السعودية والإمارات وإسرائيل“.
وأضاف أن السعودية “أنفقت وحدها أكثر من ألف مليار دولار لدعم الثورات المضادة منهم 500 مليار لترامب وحده، وأكثر من 100 مليار للسيسي الذي لم يستتب له الوضع حتى اليوم في مصر، ومن المنتظر أن تنتقل الثورة إلى الصراع مع القوى الاستعمارية متجاوزة وكلاءه المحليين“.
وهذا ما أكده كذلك الناشط التونسي زبير خلف الله، بأن هناك “ثورة مضادة للمسار الديمقراطي في تونس والثورة مليئة بالأشواك، مشيرا إلى أن الثورة المضادة في ليبيا لم تنجح في محو ثورة 17 فبراير ولن تنجح، حيث تتزعم الإمارات ومصر والسعودية مضادات ثورة الربيع العربي لتدمير هذه الدول“.