في التاسع من نوفمبر 2018، نشر موقع نوفارا حوارا صحفيا مع ناشط سياسي عماني مقيم في لندن حول عدة قضايا سياسية تتعلق بالممكلة المتحدة وعلاقتها المشبوهة بسلطنة عمان ، وقام بالحوار الصحافي فيل ميلر. تنشر مواطن الحوار مترجما إلى اللغة العربية:
في الشهر الماضي، خاض أكثر من خمسة آلاف محارب بريطاني لعبة حرب عملاقة في الشرق الأوسط سميت بالسيف السريع 3. جرت العملية في عمان, في ركن هادئ من شبه الجزيرة العربية على الحدود مع اليمن والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة. وعُمان يحكمها دكتاتور ما زال يتربع على العرش منذ نحو نصف قرن.
بعد انتهاء مؤتمر حزب المحافظين بفترة وجيزة، زار وزير الدفاع البريطاني مارك لانكستر ميناء الدُّقُمْ العماني لبدء التدريبات. كما افتتح قاعدة جديدة للبحرية الملكية البريطانية في الدقم، مكلفا دافعي الضرائب في المملكة المتحدة الملايين (السعر الكامل للبطاقة سري). تماما كما هو الحال في الجزء الأول، إذ استكشفنا السياسة الخارجية البريطانية تجاه البحرين، ومن الواضح أن المملكة المتحدة تدعم نظاما عربيا آخر في عمان.
هنالك القليل جدا مما هو مكتوب باللغة الإنجليزية حول ما يعتقده العمانيون فيما يتعلق بالقوات البريطانية التي تدعم سلطانهم. لذلك ولمعرفة المزيد، التقيت الناشط العماني خلفان البدواوي (34 عاما)، الذي تعرض للتعذيب في عمان ويعيش الآن في المنفى في لندن.
- كيف كانت حياتك في عمان؟
كنت أعمل ممرضاً في العناية المشددة وشاهدت الكثير من الفساد والظلم في المستشفى: فمن أجل توفير مكان في الجناح لشخصية عمانية من العائلة الحاكمة تعاني زكاما -على سبيل المثال-، أُجبرنا على طرد نزيل كان مريضا حقا. في النهاية تركت التمريض وبدأت أعمل في قسم الصحة والسلامة في حقول النفط العمانية.
شركة shell متورطة بشكل كبير في ملفات فساد، وشركة BP تمتلك أيضا حقلا ضخما للغاز في عمان إذ تحصل على 60% من الدخل. وأعتقد أن هذا الدور فتح عيني للمخاطرة بالتشكيك في الوضع.
عملت في منطقة صحار الصناعية، وهي مدينة بها الكثير من المصافي ومصهر للألومنيوم. كانت موقعًا ضخمًا يضم 1000 موظف. الصناعة هناك تعتمد في الغالب على العمال المغتربين، الهنود والبنغال في الأسفل والبيض في الأعلى. كان مديري الكندي هو الذي بعث في رأسي سؤالًا مفاده لماذا لم تكن هناك نقابات عمالية في عُمان إذ لم يكن لدينا أي منها وقتها.
كنت قد بدأت الكتابة على الإنترنت، واستفسرت عن سياسة عمان الاقتصادية واقتصادها، باستخدام اسم مستعار، خائفا من استخدام اسمي الحقيقي في حين كنت أتذكر قصص أبي. منها على سبيل المثال: في عامي 1971 و1972 أُعدِم منظمو مظاهرات العمال والاحتجاجات الطلابية في العاصمة، وألقيت جثثهم بالجرافات وعُرِّض نشاطُ جيل للسحق. شعرت بأن عليَّ أن أتعمق أكثر في معرفة دور بريطانيا في استخراج النفط العماني والفساد.
- متى كانت أول مرة تدخلت فيها بريطانيا في عُمان وما تأثيرها في البلد؟
بريطانيا لديها تاريخ من التدخل. استخدمت شركة الهند الشرقية عمان كمركز للإمدادات إلى الهند. من الناحية الجيوسياسية، كانت البلاد تتمتع بموقع استراتيجي للقوات البريطانية لتطويق الإمبراطورية العثمانية من الجنوب. السلطان سعيد بن تيمور والد قابوس تم تدريبه في المدرسة الاستعمارية لبريطانيا في الهند ليحمل عقلية استعمارية حكم عُمان من 1932 إلى 1970 كمحمية بريطانية – مستعمرة فعالة. رأى السلطان القديم العرب كبرابرة لا ينبغي أن يكونوا متعلمين أو أن تتوفر لهم رعاية صحية. أشار عليه أحد المستشارين البريطانيين ببناء مستشفى لكنه رفض، وقال: “إذا قمت ببناء مستشفى فسوف يرغبون في الحصول على الطعام”. كل هذا كان السبب في غياب بنية تحتية في عمان.
“لقد كان قاسياً جدا”, خلال الفترة التي وصفها بالأوقات العصيبة، هاجر والدي إلى الكويت التي كانت تستخدم إيراداتها النفطية لتوفير فرص العمل والتعليم. لقد تعلم الكثير هناك: كان المشهد في الكويت يسارياً متزايداً، جنباً إلى جنب مع تنامي التضامن العروبي والحركات السياسية والمناصرة والنقابات. انخرط العمانيون في الكويت في تلك الحركات وربطوها بالوضع في الوطن، خصوصاً ظفار.
ظفار منطقة في جنوب عمان لها لغتها، ثقافتها، لباسها ومناخها الخاص، فهي مختلفة تماما عن شمال عُمان ودول الخليج الأخرى. في تلك المرحلة لم تكن السيارات متوفرة في ظفار، لذلك أدركوا مدى فقرهم عندما كانوا يسافرون إلى الخارج.
- بحلول نهاية حكم السلطان سعيد بن تيمور، كان لدى بريطانيا حكومة عمل بقيادة هارولد ويلسون. ماذا كانت سياستها في عمان؟
في عام 1964 اندلعت ثورة في ظفار. بغض النظر عن السلطان، كانت النخبة القوية في سلطنة عمان بريطانية، لذلك كانت حركة التحرر الثورية عربية قومية هدفها الاستقلال عن السلطان والوضع الاستعماري.
جذبت الثورة 80% من سكان ظفار الذين بدأوا النضال المسلح. كانوا يحملون فكرا تقدميًا جدا، وكان لديهم أيضا مشروع فكري مع التركيز القوي لتحرير المرأة ومساواتها بالرجل في حقوق الميراث، وإنهاء تعدد الزوجات، وإنشاء مدارس للبنات، وتوفير فرص عمل للنساء. وهو أمر مثير جدا للاهتمام مقارنة بالحركات الأخرى في المنطقة. ربما كان ذلك أحد الأسباب التي جعلت بريطانيا ترسل لسحقها واحدة من أكثر وحداتها النخبوية القتالية شراسة المعروفة باسم القوات الجوية الخاصة SAS.
هناك صور عديدة لنساء من ثورة ظفار ذوات شعر قصير ومزودات بأسلحة، كُنَّ من ضمن المقاتلين تماما مثل النساء الكرديات الآن. التقيت بأشخاص صرحوا لي بأن هذه هي المرة الوحيدة التي تحظى فيها المرأة في عمان بهذا القدر من الازدهار، وهي فترة تذكر بمزيج من الفخر والحزن. هنالك الكثير من الثُّوَّار ممن هربوا إلى اليمن أو استسلموا.
استخدمت حكومة ويلسون لحزب العمال أساليب وحشية لإبقاء السلطان في السلطة. قام سلاح الجو الملكي البريطاني بتطبيق سياسة “إنكار المياه”، بمعنى آخر تفجير الآبار. انتشرت الثورة من جنوب عُمان إلى شمالها، وذلك بسبب قلة شعبية السلطان، وألهمت الحركات التحررية عبر الخليج وحصلت على الدعم خصوصاً في البحرين التي تمثل مستعمرة بريطانية أخرى.
كانت نقطة التحول عندما بدأ ثائر شاب هو زاهر المياحي، بمهاجمة القواعد العسكرية البريطانية بالقرب من العاصمة العمانية مسقط. حتى الشركات البريطانية التي كانت تمتلك حقول نفط في عمان مثل شل كانت قلقة. كانت بريطانيا تخوض الانتخابات التي خسرها ويلسون. قرر وايت هول اتخاذ إجراءات جذرية، والإطاحة بالسلطان وتثبيت ابنه قابوس على العرش.
- بعض المؤيدين لعمان يرون السلطان قابوس دكتاتوراً أقل قساوة من أبيه. كيف ترد على هذا؟
بدأ السلطان الجديد حملة “القلوب والعقول” لسحق الثورة. استخدم عائدات النفط لبناء المستشفيات والمدارس والطرق ومنح وظائف الدولة لتأمين الولاء له. في غضون ذلك، صعَّدت القوات الجوية البريطانية الخاصة حملتها على التمرد والمقاومة المسلحة في “ظفار”. سحقت أغلبية قُوى الثورة عام 1976. يبدو أن حكومة حزب العمل لهارولد ويلسون الثانية (التي انتخبت عام 1974) كانت مصممة على إنهاء المهمة.
هناك عمانيون على قيد الحياة اليوم خاضوا هذه القسوة وكانوا شهود عيان عليها لكنهم لا يرغبون في الانتفاضة من جديد، حيث أصبح من الطبيعي العيش مع إرهاب الدولة. لذلك سيطر النظام على الحكم باستعمال الخوف. لا يمكن للعمانيين ذكر اسم السلطان بدون لقب وعليهم أن يطلقوا عليه اسم “أبينا”. يحظر قانونيا ذكر أي شيء عن ثورة ظفار. صحيح أن السلطان الجديد بنى المدارس، ولكن التلاميذ يُعلَّمون عدم التساؤل في أي شيء. لقد أنشأ حكم الدكتاتور قابوس بشرا غير قادرين على التفكير وليس لديهم أي فضول معرفي، فالتعليم متاح ولكنه فارغ بشكل كبير. عشنا فقط لنكون مخلصين ولا يمكننا التفكير بأنفسنا. ليس لدينا حقوق سياسية أو مدنية. يؤلمني حقا رؤية العمانيين الذين ما زالوا يعيشون هكذا، دون معرفة أي شيء عن ماضينا أو مستقبلنا. نحن نعيش لليوم نفسه فقط دون السماح لنا بالتحدث بحرية. أغضب كثيرا حين أفكر أن الحكومة البريطانية أنشأت هذا النظام القمعي ونفذته من أجل قابوس.
- ماذا حدث لعمان في الربيع العربي؟ هل كان هناك تحدٍّ آخر للسلطان قابوس؟
كنت أدرس القانون بدوام جزئي من خلال نظام التَعلُّم عن بعد في مصر ويتوجب علي قضاء شهرين دراسة كل عام في القاهرة. قابلت العديد من الطلاب المصريين المشاركين في الاحتجاجات والمظاهرات. كنت قادرا على أن أشعر بالغضب والغليان في كل مرة أزورهم إذ كانت الأمور تزداد حرارة أكثر من ذي قبل. كنت هناك في ديسمبر 2010. كان الربيع العربي قد بدأ بالفعل في تونس، ورأيت أول الاحتجاجات في مصر قبل أن أعود إلى عمان.
في شباط/ فبراير 2011، اندلع “الربيع العربي” في صحار وانضممت إلى الاحتجاجات والاعتصامات من اليوم الأول. لم أكن عضوا منظِّمًا.. لقد كانت تجربة جيدة جدًا، شعرت فيها بالروح الثورية والحرية لأول مرة. انهار جدار الخوف فجأة: كانت لدينا القوة وكنا قادرين على القيام بذلك. تراجعت الشرطة واختفت من المدينة. نظمنا الأمن الخاص بنا، الجريمة انخفضت وربما لم يبق منها شيء على الإطلاق لأن الناس بدأوا يراعون شؤون بعضهم بعضاً، حيث قمنا بتوفير الغذاء لبعضنا. لقد أجرينا مناقشات ديمقراطية في الاعتصامات حول أفضل طريقة لفعل الأشياء، كان أمرا طبيعيا شعرت فيه بشعور رائع على الرغم من أنه لم يكن لدينا تدريب.
تحرك الجيش العماني في أبريل وهاجمنا بوحشية، وبينما كنت جالسا هناك تعرضت للضرب. أُعلِنت حالة الطوارئ في المدينة واعتقل 800 شخص. صرح بشكل غير رسمي بمقتل ستة أشخاص بينما قتل شخصان حسب الإعلان الرسمي. بعد ذلك زُجَّ بي في السجن لكنه كان تجربة جيدة، لأننا كنا معاً واستمررنا في النقاش، تذكرنا الأيام الجيدة، ولحماية بعضنا بعضاً خططنا لما يجب أن نقوله أثناء الاستجواب.
- ماذا فعلت بعد الربيع العربي؟
عفا قابوس عن جميع السجناء السياسيين، باستثناء 26 متظاهرا قدِّموا كأكباش فداء واتهموا بالإرهاب. بالنسبة إليَّ تغير شيء بعد ذلك. عندما أفرج عني بدأت بالكتابة تحت اسمي الحقيقي، اختفى الخوف. لقد انتقدت الحكومة وما حدث. بدأت مع خمسة أصدقاء حملة للإفراج عن السجناء الـ 26 المتبقين. لم نكن نريد أن تموت الروح الثورية وكنا بحاجة الى عمل. كان لقاء أعضاء فريقنا المكون من ستة أشخاص ممكناً في حين إن اجتماع تسعة أشخاص يعتبر غير قانوني.
بدأنا بإنشاء حسابات فيسبوك وكتابة 30-40 مشاركة كل يوم. أصبحتُ من أكثر منتقدي السلطان وشرطته السرية والمستشارين البريطانيين. بعدها بفترة وجيزة استدعاني الادعاء العام. قاموا بتحذيري من أنني لا أستطيع أن أشير إلى السلطان على هذا النحو وأن عليَّ استخدام لقبه الكامل. لقد جربوا معي مبدأ الثواب والعقاب أو العصا والجزرة، حتى إنهم عرضوا علي منصبًا. رفضت العمل معهم وقررت تصعيد نشاطاتي. كنت قد وضعت خططًا مع بعض الأشخاص لبدء تشغيل إذاعة سرية وحركة شبابية معارضة، كانت لدينا خطط كاملة لشراء المعدات. كان هناك صوت واحد فقط يتم تمثيله في الحكومة في حين أننا نحن بحاجة إلى صوتنا. الإذاعة ستكون الأسلوب الأقوى مع توزيع المنشورات في المساجد. اتصلنا بنقابات في حقول النفط ازدهرت في نهاية عام 2011 كامتياز صغير بعد الربيع العربي. كل شركة لديها الآن نقابة تمثلها لكن الحكومة تتحكم في مكان إضرابها وكيفيته أو حظره، وعلى سبيل المثال حُظِرَ إضراب عمال المطار.
- هل اتجهت النقابات الجديدة للإضراب وكيف كانت ردة فعل السلطان نحوها؟
في مايو 2012، بدأ 10 آلاف عامل في حقول النفط، معظمهم من شركة شل، إضرابًا بشكل مستقل عن مجموعتنا. توقف إنتاج النفط في عمان، حيث طالب العمال بمزيد من الحقوق مثل العطل والعقود وليس العقود الفرعية. طُرد 700 شخص وأُلقي القبض على كثيرين.
في الوقت نفسه، جاء قابوس إلى لندن بمناسبة عيد الميلاد التسعين للملكة، وجلب معه حوالي مائة من الخيول للاحتفال اعتُبرت عملية نقلها واحدة من أكبر عمليات نقل الخيول جواً في التاريخ وقد كلفت الملايين. كل هذا حدث بعد مرور عام فقط على خروج الناس إلى الشوارع مطالبين بالوظائف والحقوق المدنية. ما الذي كان يفكر فيه وهو يقوم بإذلالنا هكذا؟ جعلني هذا الأمر أغضب جدا.
قمت بتنظيم مظاهرة في وسط العاصمة في مسقط حضرها العديد من الأصدقاء وطرحنا السؤال: من المهم: الخيول أم البشر؟ انضم إلينا حوالي 100 شخص. نظَّمت أيضًا شيئًا آخر لدعم المضربين وطلبًا للحقوق السياسية مثل حرية التعبير والتجمع وحقوق العمال. كنا بحاجة إلى حقوقنا السياسية لضمان الحقوق الاقتصادية. كان هذا النوع من الاحتجاج جديداً في عُمان، من النوع الصغير والمنظم ضدّ قابوس شخصياً ومن أجل الحقوق السياسية. كان الربيع العربي يتمحور حول الحقوق الاقتصادية، لكننا عرفنا الآن ما نحتاج إليه ورفعنا من سقف المطالب. حضرت بعدها مظاهرة أخرى نظمها ناشطون آخرون، وكان هناك على الأقل 2000 من شرطة مكافحة الشغب لنحو 100 شخص منّا. قمت بتعداد الشاحنات الكبيرة التي تتسع لنقل 50 شرطياً وكان هناك حقا 50 منهم. كانوا يبرزون قوتهم ويصرخون محاولين تخويفنا، مرتدين اللون الأسود وملثمين. لكن بالنسبة إليَّ لم أعد خائفا حينذاك. قرر المتظاهرون المغادرة لتجنب وقوع مجزرة بعد أن أُبلِغنا بأن لدينا 3 دقائق ثم يبدأون في ضربنا بدل اعتقالنا.
- هذا يبدو مرعبا. ماذا حدث بعده؟
بعد مرور أسبوع على ذلك، (في 6 يونيو 2012)، تلقيت مكالمة في السابعة صباحاً طُلِبَ مني فيها الحضور إلى القسم الخاص التابع للشرطة، كما هو الحال هنا. أفهم من هذا أن المملكة المتحدة هي التي أنشأت عمان التي يحكمها قابوس، إذ إن هيكل الشرطة لدينا هو نفس هيكل شرطة العاصمة البريطانية. طلبوا مني القدوم وعدم القلق. ظننت أنه مجرد حديث وأمضي. طلبوا مني الجلوس في مكتب في انتظار شخص ما ليأتي. بعد مرور 5 أو 10 دقائق، كسرت مجموعة من القوات الخاصة التي كانت ترتدي ملابس سوداء وتحمل بنادق أوتوماتيكية الباب وصرخت في وجهي مطالبة مني مواجهة الجدار. قاموا بصعق أضلعي بعصا الصدمات الكهربائية، ووضعوا كيسا أسود فوقي من الرأس إلى أخمص القدمين. أخذوا نظارتي وهاتفي، وربطوا يدي خلف ظهري بإحكام لدرجة أن الحبل ترك علامات. كنت مكبلا من القدمين ورشوا عليَّ فلفلاً من خارج الغطاء حتى يصعب عليَّ التنفس.
مرت قصص أبي على عقلي مثل الوميض. إلى أين سيأخذونني؟ هل هم على وشك أن يقتلوني؟ وضعوني داخل زنزانة خالية من كل شيء وفكوا الكيس. كان الموقف مهينًا للغاية. كانت الزنزانة صغيرة، 2 × 1.5 متر، وهم يصوبون بنادقهم نحوي. كان هناك سقف مرتفع وضوء قوي ساطع جدا على نحو غير طبيعي. كان الجو حارا أحيانا وفي بعض الأحيان باردًا. كان هناك ميكروفون ومكبر صوت في السقف، باب فولاذي بفتحة في الأسفل لتقديم الطعام، وزر يمكنني الضغط عليه إذا أردت الذهاب إلى المرحاض حيث كانوا يستغرقون عهدا من الزمن للقدوم إليَّ، وكنت أوشك على التبول على نفسي. كانت الموسيقى من مكبر صوت مسموعة بشكل عال جدا، أناشيد عمانية وطنية تمدح السلطان 24 ساعة بدون توقف. كنت فقدت القدرة على معرفة الوقت ولم أكن أعرف الصباح من الليل.
في مرحلة ما من الأسبوع الأول حاولت الانتحار بضرب رأسي على الحائط. لم يحاول الحراس أن يمنعوني. في المرة الأولى لم يحدث شيء فقررت أنني بحاجة إلى تأثير أقوى. عدت إلى الوراء وحاولت ضرب الحائط كأنني لاعب كرة قدم يضرب الكرة. لقد كان التأثير قويا جدا أدى إلى انهياري، استيقظت وأنا أنزف. لم أكن أعرف إذا كنت ميتًا أم على قيد الحياة. سألت نفسي عما إذا كان الأشخاص الذين ماتوا هنا ما زالت أرواحهم داخل الزنازين. استنزفت كل طاقتي وانهرت مرة أخرى، ثم جاء الحراس وركلوني لإيقاظي. بعدها قررت أنه ربما كان قدري ليس أن أموت الآن، بل أن أقاتل.
- يظهر صوت ما تقوله مثل التعذيب. أعلم أن بريطانيا استخدمت طرقاً مشابهة (تغطية الرأس، الحرمان الحسي، درجات الحرارة القصوى) لكسر السجناء في كثير من الحالات. كيف استطعت أن تقاوم وتظل على قيد الحياة في هذه الزنزانة؟
لقد ألَّفت مسرحيات باستخدام الجدران لشغل نفسي. سميت جدارا باسم “الحرية” وآخر باسم “خلفان”. كان كل منهما يتحدث إلى الآخر، كوميديا، نقاش، وفي بعض الأحيان يتقاتلان. كانت هذه الآلية التي وضعتها للبقاء على قيد الحياة مضحكة بالنسبة لي. علمت لاحقاً أن 12 منا قد اعتُقلوا واتُّهموا بمحاولة إطاحة النظام. بعد 32 يومًا في تلك الزنزانة الانفرادية أخذوني إلى المدعي العام وأنا مغطى تماماً بالكيس. ظننت أنني أُخذت لكي أُعدَم. كان ذهني مستعدًا تمامًا للموت. خلال التحقيقات، كانوا يقولون لي إنني أستحق أن أموت، وإنني كنت صرصوراً يحتاجون إلى تحطيمه، وإنني كنت مضرا جداً لعمان بسبب تنظيمي للاحتجاجات.
في النهاية نُقلتُ إلى المحكمة بتهمة محاولة الإطاحة بالنظام وإهانة السلطان. جلس المدعي العام والقاضي على نفس الطاولة معًا. كان أهلي قد وكَّلوا محاميًا لم أقابله من قبل، وتمكن والدي من رؤيتي آنذاك إذ أخبرني بما كان يحدث لأصدقائي. في النهاية حضرت 14 جلسة، تنقلت بين المحكمة والسجن وفي سبتمبر/ أيلول أطلق سراحي بكفالة، وعلمت آنئذٍ أنني فقدت وظيفتي ومنعت من العمل والسفر.
- ماذا فعلت عندما أُطلِق سراحك من السجن؟
استأنفت نشاطي على وسائل التواصل الاجتماعي. معظم الأشخاص الآخرين الذين أُوقفوا توقفوا عن إدارة الحملات الاعتصامية. كانت وسائل الإعلام تدعوني بالخائن الذي أراد أن يفسد الثقافة والتقاليد العُمانية، وكان الناس يخشون التحدث إليَّ. كانت زوجتي قلقة وكذلك كانت عائلتها. لم يكن لدي مال. كنت أتلقى أجرا كافيا سابقا، ثم أصبحت في وضع مربك جدًا. لم أستطع العودة إلى ما كنت عليه من قبل، لأن عقلي في تلك اللحظة أصبح حرا يمكنني من طرح الأسئلة حول الأشياء. شعرت بالشجاعة، لكن التأثير في عائلتي كان أكثر من اللازم. هجرني العديد من الأصدقاء وأصبحت مجموعتي السياسية هادئة. ليس كل شخص يمكن أن يتحمل التعذيب.
بعد ذلك سمعت أن الأمير تشارلز قادم إلى عمان للترويج لصفقتين تجاريتين. بلغت كلفة بيع طائرات تايفون المقاتلة بصفقة تقدر بثلاثة مليارات جنيه إسترليني وصفقة غاز ضخمة لشركة BP البريطانية تحصل بموجبها على 60٪ من الإيرادات وحصلت عُمان على 40٪ فقط. ظننت أن وسائل الإعلام الغربية سترافق الأمير تشارلز في مسقط. أردت تنظيم مظاهرة لإلقاء الضوء على الوحشية التي عانيناها والاحتجاج على التورط البريطاني. حاولت نشر الدعوة إلى التنظيم من خلال الواتس أب وعلى موقع فيسبوك مع رسالة لتشجيع الناس على الاعتصام.
يبدو أن جهاز الأمن الداخلي العماني كان يتعقبني. قبل يومين من زيارة الأمير تشارلز اختُطِفتُ من سيارتي. كنت أقود سيارتي لما ظهرت سيارتان من الخلف كما يحدث في فيلم. رأيت سيارة طراز جي ام سي في المرآة الأمامية تتقدم نحوي بسرعة كبيرة، وبعدها بثانية من الزمن تصادمت السيارتان أمامي وأوقفوني. كان هنالك رجال ملثمون يقفزون على غطاء المحرك مستعملين بنادق آلية. شخص ما فتح الباب، وآخر فتح حزام الأمان الخاص بي، وثالث رفعني كأن وزني وزن فراشة. كنت ثقيلا، لذلك ضحكت! كنت بحاجة للفكاهة خلال تلك الأوقات. وضعوا الكيس الطويل فوقي مرة أخرى وقيدوني ووضعوني في زنزانة من النوع السابق نفسه. انظر إلى مدى الاحتراف في الأمر! ربما يشارك البريطانيون في تدريبهم على القيام بتكتيكات القوات الخاصة هذه. أُفرِج عني بعد أن غادر الأمير تشارلز عمان.
- إنه لأمر مدهش أن هذه الأمور تحدث لنشطاء ديمقراطيين عندما تزور بريطانيا العظمى الخليج. حدث شيء مماثل في البحرين عندما زارها الأمير تشارلز والأميرة ديانا في ثمانينيات القرن الماضي. كيف أثرت كل هذه الاعتقالات في نشاطك؟
حتى ذلك الوقت لم يكن لدي مال أو عمل، كنت ملاحقا بالسيارات كل الوقت. كان الناس يقتربون مني في الشارع ويصفونني بأنني نملة سرعان ما سيأتون لسحقها. شعرت أنني لا أستطيع أن أتحمل أكثر لذلك غادرت. كان نبهان الحنشي، وهو ناشط حقوقي، قد ذهب بالفعل إلى بيروت وحصل على حماية الأمم المتحدة.
قررنا الذهاب معا إلى المملكة المتحدة للمطالبة باللجوء. في ذلك الوقت لم أكن أعرف السبب وراء هذه الحركة، ولكن الآن أعتقد أنه كان التأثير الإمبراطوري. كنت أجيد الإنجليزية. كبلد غربي عرفت في حياتي بريطانيا فقط لذا شعرت بأنها الخيار الوحيد. الأمر مثل الأفارقة الناطقين بالفرنسية الذين يذهبون إلى فرنسا. كنت أرغب في حياة جديدة أينما يمكنني المساهمة والعيش بحرية. ظننت أنني ذكي بما فيه الكفاية ولكن لم يكن لدي أي فرص في عمان حيث يفرض علينا أن لا نقرأ ولا نحلل. لقد طلبت اللجوء في المملكة المتحدة في يناير 2014، وجعلتني وزارة الداخلية أقيم في مدينة هال. كنت محظوظاً عندما أتمكن من النوم أكثر من ثلاث ساعات، كان نومي ممزوجًا بالكوابيس. كنت أقوم بالتداوي الذاتي منتظرا مدة ثمانية أشهر مقابلة طبيب نفسي. أدركت أن الناس في المملكة المتحدة يعانون أيضًا، ويموتون من التقشف، لذا بدأت في بناء وعي مفاده أن الناس من العالم الأول يعانون أيضا.
- كان عام 2014 وقتًا صعبًا للغاية بالنسبة للكثير من الناس في المملكة المتحدة. ماذا تعتقد بشأن انتخاب جيريمي كوربين رئيساً للعمال في 2015؟
عندما أصبح جيريمي كوربين زعيماً للمعارضة، رأيت الأمل للأشخاص الذين كانوا يائسين، يُحتضَرون، بلا مأوى، في فقر، خريجين عاطلين عن العمل. جاء وقدم لهم الأمل في أن يهدد المؤسسة. سيكون من الصعب عليه التمسك بهذه المبادئ، لكن عليه أن يسأل إن كان ذلك سيجدي نفعا وإذا أراد الوقوف في صف الناس. إنه أكثر من مجرد سؤال بالنسبة له مقارنة بنا لكي يتمسك بمبادئه. لماذا يجتمع الناس حوله؟ لأنهم يرون شيئًا مختلفًا. لكن لماذا لا أراه أنا؟ لأنني عندما بدأت القراءة عن تاريخ عمان، رأيت أن هارولد ويلسون كان متواطئا في قمع عُمان وأسأل عما إذا كان جيريمي كوربين سيغير هذا الوضع أم لا.
في آذار/ مارس 2016، كنت مقيما مع صديقة في ويلز في حين كنت أنتظر نتيجة اللجوء، وأخذتني لحضور حدث لحزب العمال في الوديان. كان جيريمي كوربين من بين الحضور يتحدث إلى الجميع. استدرجني صديق إليه وبعدها أخبرته أنني طالب لجوء من عمان. أول شيء سألني عنه، والذي كان لطيفاً منه، ما إذا كنت شعرت بالأمان هنا. أجبته نعم بالمقارنة بعمان، ولكن كان لدي أسئلة حول مشاركة المملكة المتحدة السلبية في عمان. أخبرني أنه ينظر في ذلك عن كثب. ما حصلت عليه منه أنه كان يريد معرفة المزيد عما يحدث هناك وعما تحاول المؤسسة إبعاده عنه.
- وجون ماكدونيل؟
عندما انتقلت إلى لندن بعد فوزي بقضية اللجوء، التحقت بالكلية هنا وذهبت إلى الاحتجاجات كل أسبوعين من أجل NHS (هيئة الخدمات الصحية الوطنية) ولأسباب مختلفة للجناح اليساري. بعد واحدة من مظاهرات NHS فجأة رأينا جون ماكدونيل هناك في الداخل ثم مر جنبي. أخذني صديق إيرلندي إلى حانة في Whitehall حيث أوقفته وصافحت يده قائلاً: “مرحبا! اسمي خلفان وأنا من عمان. هل تعرف أين تقع عمان؟” أعتقد أنه فوجئ بطريقة التحية هذه! قال إنه هو وجيريمي يبحثان عن كثب في محاولة معرفة المزيد عما يحدث هناك، ولكن مرة أخرى كان انطباعي أنه لا يعرف الكثير.
- إذا أصبح جيرمي كوربين رئيسا للوزراء، ما الذي تريد أن تفعله بشأن سياسة المملكة المتحدة تجاه عمان؟
إذا نجح جيريمي كوربين في الدخول إلى داون ستريت، فإن أول شيء يريده العمانيون هو معرفة ما الذي تفعله بريطانيا في عُمان، نريد معرفة الحقيقة. ثم يمكننا بعد ذلك أن نحدد مطالبنا. لكن في الوقت الحالي، هناك الكثير من الأفراد البريطانيين في عُمان، مثل القاعدة البحرية الجديدة في الدقم، لا نعرف ماذا يفعلون هناك بالتحديد. إننا نقول إن بلدنا هو الحديقة الخلفية لـMI6
لقد تم تصنيف الكثير من الوثائق البريطانية لفترة طويلة ولا يمكننا الوصول إليها. أريد أن أعرف من الذي قام بتدريب العمانيين على تقنيات التعذيب هذه وأساليبها. وأريد أن أعرف ما الذي يفعله البريطانيون هناك الآن,، لماذا تزور شركتا BP وShell العائلة الحاكمة دائماً؟
يجب على جيريمي كوربين أن يدعم ويدعو للتحول الديمقراطي في عمان، للوقوف مع الناس ومبادئه، ستساعد سياساته الخارجية أيضا البيئة والسلام. من غير القانوني أن يتجمع أكثر من 9 أشخاص في عُمان، وإذا كان اجتماعًا سياسياً فسوف يُهاجَمون ويُعتقلون. لذلك فإن أهم شيء هو أن يُسمح للشعب العماني بالالتقاء والنقاش دون خوف من أن يُعاقب مثلي..