تحتل القضية الفلسطينية مكانا رفيعا في وجدان كل مواطن عربي بسبب الانتماء القومي، وكل مسلم بسبب الانتماء الإسلامي طبعا. ورغم الصراع الفسطيني الإسرائيلي الذي تجاوز العقد السابع إلا أن الصراع مال وما زال مستمرا لكفة المحتل الإسرائيلي، الدولة الناشئة والطارئة الصغيرة، مقابل العدد الكبير من الدول العربية والتعداد السكاني الهائل الذي يفوق عدد سكان إسرائيل حاليا 47 ضعفا تقريبا على أقل تقدير.
من أهم أسباب تفوق المحتل الغاشم في هذا الصراع هو دعم القوى العظمى دون أدنى شك لهذا الكيان الصهيوني الوليد المسمى إسرائيل بجانب التفوق العلمي والاقتصادي والعسكري وعمالة وخيانة بعض أصحاب القضية. لكن أيضا، من وجهة نظري، هنالك سبب آخر أود التركيز عليه في هذه الافتتاحية ساعد في استمرار هذا التفوق حتى الآن رغم ظهور أساليب جديدة طرأت في ساحة الصراعات الإقليمية والدولية كأدوات ضغط سلمية مؤثرة وفاعلة بشكل ما.
بعد ظهور الصحوة الإسلامية وانتشار جماعات وتنظيمات الإسلام السياسي في الوطن العربي بشكل خاص في العقد السابع من القرن الماضي، بدأت القضية الفلسطينية تأخذ منحى آخر بعيدا عما كان يجب عليه أن تكون. بدأت هذه الجمعات والتنظيمات في تدويل القضية كقضية إسلامية محورية متجاهلين عمدا أن من كان يسكن في الأرض الفلسطينية قبل الاحتلال ليس المسلمين فحسب، بل كانت هناك أعراق وديانات وطوائف عدة مثل اليهود والأرمن والأقباط والبهائيون والتركمان والأفارقة والأحمديون والدروز والغجر والسامريون والسريان. إن نزع القضية الفلسطينية من حجمها الطبيعي كمعاناة إنسانية، وانتهاكٍ صارخ لحقوق بشر كانت تقطن منطقة جغرافية تعرف بفلسطين، وحصرها في إطار ضيق كصراع ديني بين اليهود والمسلمين إدى إلى وأد القضية وتغييبها.
ولهذا أرى أن نجاح القضية الفلسطينية في جانبها السياسي يكون بتدويلها كصراع بين صاحب أرض، وهو الإنسان الفلسطيني بمختلف دياناته وطوائفه وأعراقه وأيديولوجياته، وصهيوني غاشم محتل للأرض. بالإضافة إلى إمكانية تدويلها كمعاناة إنسانية لاستعطاف الآخر الذي يجهل القضية أصلا. أما ما يحدث الآن، والذي بدأ مع بداية الصحوة عندما تم تصدير القضية دوليا كأنها صراع بين ديانتين، اليهودية والإسلامية؛ فهو من مصلحة المحتل لأن التاريخ يثبت بنسبة كبيرة صحة إدعاءاته اليهودية. إن كل ما فعله الإسلام السياسي من تحديد للقضية وإخراجها من حيزها الطبيعي وحصرها في نقطة صراع تاريخي خدم بشكل كبير المحتل، حيث عمل الاثنان، المحتل والإسلام السياسي، بتشتيت أنظار المجتمع الدولي والمهتمين والمتابعين للقضية في معمعة التاريخ عن أصل المشكلة وهو الاحتلال الغاشم.
أعود إلى أساليب الضغط الطارئة السلمية الفاعلة التي جاءت نتيجة تعدد مصادر المعلومة التي يتلقاها الإنسان في كل مكان حول مختلف القضايا ووصلت ذروتها بعد ظهور وانتشار مواقع التواصل الاجتماعي. ففي حديث جمعني مع أحد الأصدقاء حول التأثير السلبي الذي أحدثه الإسلام السياسي في القضية الفلسطينية، أكدت على مدى تأثير القضية على الإنسان الغربي وغيره لو استطعنا تدويل القضية في مواقع التواصل الفاعلة كمعاناة إنسانية، لكنه أصر على موقفه على أن هذه الشعوب مهما فهمت؛ فالقرار ليس بيدها وهذا النوع من التدويل لن يأتي بجديد.
الدول الغربية الفاعلة والمؤثرة في الشأن الدولي مهما كانت سيئة في سياساتها الخارجية بحثا عن مصالحها، لكنها تبقى ليست دولا دكتاتورية وليست دولة الفرد الواحد. المجتمع المدني فعال ومؤثر بقوة. وما حدث في القضية العراقية والأفغانية لم يكن بعكس إرادة الشعوب، بل كانوا مؤيدين ومساندين بسبب حملات الدعاية والتسويق للحرب المضللة. حينها قبل ظهور مواقع التواصل الاجتماعي وظهور المواطن الصحفي كان من السهل جدا السيطرة على المعلومة من قبل لوبيات الضغط الرأسمالية. لكن نرجع لبعض القضايا التي علم المجتمع بحقيقتها والتبعات التي ترتبت عليها، هل كانت الحكومات قادرة على المضي ضد رغبة الجموع؟
لا أنكر أنه حتى مواقع التواصل باتت عرضة للسيطرة للتأثير على قناعات مستخدميها مثل ما حدث في الانتخابات الأمريكية واستفتاء خروج بريطانيا من قبل الاتحاد الأروبي، إلا أنها تبقى أدوات سهل الحصول عليها وقوية الفعالية والتأثير. ماذا لو بدأ كل مواطن عربي بتصدير القضية كقضية إنسانية، كاحتلال قوة غاشمة على أراضي أناس بمختلف العرقيات والطوائف والأديان كانت تسكن تلك المنطقة الجغرافية التي يطلق عليها فلسطين وتم تهجيرهم قسرا.. ألن تكون أكثر وقعا وتأثيرا على المتابع الغربي والآخر بشكل عام بدل تشتيته في تفاصيل تاريخية لا تنتهي ومختلف عليها وغير دقيقة، وإظهار القضية كصراع ديني لا يهم الآخر؟!
أخيرا.. أرى أنه مهما طال الزمن والتاريخ يشهد بذلك، فسينتهي الاحتلال لأنه قائم على غير شرعية. ستبقى القضية الفلسطينية حاضرة في وجدان الفلسطينيين والعرب بشكل عام يتوارثونها جيلا بعد جيلا، ولن تنسى. لا سبيل إلى حل المشكلة إلا بانتهى الاحتلال الغاشم، أو في أقل تقدير تأسيس دولة علمانية واحدة تشمل الجميع.