(”الجماهير لا تثور من تلقاء نفسها أبدا، كما أنها لا تتمرد أبدا لمجرد أنها مضطهدة. والواقع هو أن هذه الجماهير لا يمكن حتى أن تصبح مدركة لحقيقة اضطهادها طالما ظل امتلاك معايير للمقارنة غير متاح له).أتفق مع هذه الفقرة إلى حد كبير جدا لو قورنت بالواقع العماني، فالواقع الذي تتشارك فيه جميع المجتمعات التي تعيش تحت وطأة الظروف نفسها أهمها وجود سلطات مركزية توتاليتارية طوال عقود قادرة على تقنين مدخلات الوعي الجمعي عن طريق توجيه وتضخيم وتشويه المعلومة وحتى أيضا حجبها. ولهذا سعت هذه السلطات، عندما أحست أنها بدأت تفقد هذا الدور الشمولي في السيطرة على المعلومة مع ظهور مواقع التواصل الاجتماعي وفضاء الإنترنت المفتوح، باتباع منهج آخر لكن لا أستطيع أن أصفه بالجديد قدر ما هو بثوب جديد لغاية قديمة. فتُهْمتا المساس بالنظام العام والتقليل من هيبة الدولةالجاهزتان المغلفتان عن طريق الأجهزة الأمنية والنيابية ما هما إلا وسيلتا استعادة سيطرة على المعلومة ومسارها. تدرك هذه السلطات كما أوضح أورويل أن فقدانها السيطرة يعني السماح لتوافر معلومات قد تدفع العقل الجمعي الموجه المستغفل المنوّم بأن يبدأ في امتلاك معاييره الخاصة وعقد المقارنات؛ لتكون المحصلة مع الأيام ارتفاع نسبة الوعي الجمعي وهذا ما لا تريده وتخافه السلطة. لأن توسع نسبة الوعي لدى المواطن يعني إدراكه للواقع وللحقيقة مما سيؤدي إلى زيادة فجوة الاستقرار، وسيجد نفسه تلقائيا في صدام مباشر مع السلطة، تبدأ على مستوى المعلومة وقد تنتهي إلى صعيد آخر أكثر حدة وتطرفا“.
الفقرة أعلاه مقتبسة من مقالة نشرتها في “مواطن” وحمل عنوان: (عمان: بين فجوة الاستقرار وحرب السيطرة والصراع على المعلومة). والمقالة عبارة عن مقاربة بانورامية لصور عدة من الواقع العماني توضح مدى السيطرة التي تفرضها السلطة على مسار ونوع المعلومة التي يتلقاها العقل الجمعي بوعي ودون وعي وعلاقتها بفجوة الاستقرار. ما دفعني لتذكر المقالة هو هاشتاج #يحمل_الطبل_على_اكتافه الذي انتشر في الآونة الأخيرة بين مستخدمي منصة التواصل الاجتماعي تويتر في عمان، إثر تغريدة نشرها إعلامي عماني مقرب من السلطة.. جدا جدا، واصفا فيها أحد الطلاب المبتعثين الذي حل ضيفا على برنامجه الإذاعي بأنه ضيف استثنائي حمل الوطن على أكتافه.
ورغم الحقيقة التي أشرت لها في الفقرة الأولى حول طبيعة المجتمع العماني والسلطة التي تديره وشكل العلاقة بينهما، إلا أن ظهور مثل هذا الهاشتاج والحراك النقدي الذي استمر لأيام يعطي مؤشرا واضحا أن سياسة السلطة في تغييب الوعي الذي مارسته منذ بدايتها لم ينجح بشكل كلي في تغييب الوعي عن المجتمع؛ فهناك عدد لا بأس به تحرر كليا أو جزئيا من قبضة السلطة وأداوتها المغيبة للوعي. قد لا يكون هذا الحراك الوحيد منذ الحراك الأبرز ميدانيا وعلى مواقع التواصل الذي انطلق 2011واستمر حتى منتصف 2012؛ بيد أن هذا الحراك رغم محدودية المتفاعلين معه مقارنة بالهاشتاجات السابقة، ناقش قضية تعدت نطاق المطالب المعيشية مثل:غلاء الأسعار، وارتفاع سعر البنزين، والتوظيف.
#يحمل_الطبل_على_اكتافه، فعلا كان من أجمل الهاشتاجات العمانية الذي أطلقتُ عليه هاشتاج الوعي والأمل ، حيث أثبت أن عددا لا بأس من الشعب العماني رغم كل الظروف التي أشرت لها، قادر على التمييز بين التطبيل والوطنية. وظهور مثل هذا الهاشتاج يدل على أن هذا العدد من الشعب سئم من مدعي الوطنية الفجة القائمة على المجاملة والتهريج وإقصاء الآخر المختلف. ولو رجعنا قليلا لمناسبة ظهور الهاشتاج، أرسل هذا الجزء من الشعب رسالة واضحة المعنى مفادها الآتي: ليست المشكلة في المهرجين؛ بل في المؤسسات الإعلامية والحكومية التي تقدمهم كأبطال ونماذج وطنية مشرفة.
ومن المفارقات التي لا بد من الإشارة إليها عند الحديث عن هذا الهاشتاج، مفارقتان: الأولى، أليس مستغربا أن تجد ساكنا “مواطنا” مفهومه للوطنية فج قائم على التطبيل والإقصاء، وطالب يوما ما بسجن وسحب وثائق كل من عبر عن وجهات نظر مختلفة عن السلطة، يتحدث عن أهمية تقبل الاختلاف مع أصحاب الآراء المختلفة وأنها حاجة وطنية! لاسيما لو كان هذا المواطن الشريف الذي يتحدث عن الحرية والاختلاف سلاحه الـ“بلوك” على كل مختلف. هذه كانت ردة فعل ذلك الإعلامي الذي تعرض للنقد في الهاشتاج. في هذا الموقف فقط أدرك أهمية قيمة الاختلاف.. فعلا شر البلية ما يضحك. الثانية، من سخريات القدر أنه في اليوم الذي تغنت به تلك المؤسسة الإعلامية ومذيعها المقرب من السلطة بمواطن لم يقدم إلا التهريج –حسب تعليق المنتقدين– وقدمته كنموذج وطني يفتخر به، تم تسريح مواطن من عمله فعلا حمل الوطن على اكتافه بعلمه ونشاطه الثقافي الذي يشهد عليه الجميع بسبب مطالبته بحقه وحق زملائه فقط!
نقطة مهمة قد يثيرها البعض، أن ما حدث من تصرف، وأعني سبب اختيار الضيف والتغريدة التي تلت اللقاء، لا يتعدى نطاق القناعة والتصرف الفردي، أو قناعة مؤسسة إعلامية بعينها فقط. لقياس واقعية هذه العبارة ليس على القارئ إلا أن يتذكر أفعال السلطة ومواقفها مع المختلفين مع رؤيتها والمتماهين معها، حالهم ومصيرهم.