بعد زيارة نتانياهو أواخر العام المنصرم إلى مسقط وسط ترحيب حار وعلني من قبل قابوس، كان كل من أصادفه هنا في لندن، ويعلم أنني من عمان، يسألني عن الزيارة ورأيي فيها، حتى مللت من كثرة الأسئلة وإجاباتي المبررة المتكررة عن عمالة نظام وممانعة شعب. وكأن الجميع مستغرب من الزيارة وتناسوا أنها ليست الأولى الرسمية بين البلدين. ربما اختلف التوقيت وتبدّلت الظروف، ولكن في عمان يعلم “غالبية” الشعب أن هذا النظام وضع في الحكم بسبب عمالته للبريطانيين، فلاغرابة أن يقوم بالتطبيع مع العدو الصهيوني حتى لو علناً.
لقراءة هذه الزيارة يجب علينا أن نقرأها ببعدها ومسارها التاريخي، حيث إن العلاقات الرسمية بين نظام السلطان قابوس ودولة الاحتلال الصهيوني ليست بشيء جديد. وربما تحليل وقراءة هذه العلاقة بين النظام السلطاني ودولة الاحتلال الصهيوني من جهة، وغالبية أفراد الشعب العماني من جهة أخرى، لهي دليل واضح على الشرخ بين السلطة والشعب في عمان؛ التي تظهر الديكتاتورية في الحكم والحرية المقيدة بأغلال العصي والزنازين. هذه المقالة هي محاولة لكشف السيرة التاريخية الحديثة للموقف الشعبي الرافض للتطبيع مع العدو الصهيوني، رغم القمع الممنهج لحريته في التعبير عن رأيه من قبل سلطة قمعية على رأس الأنظمة الديكتاتورية في المنطقة.
في الثلاثين من سبتمبر من عام 2000 وفي اليوم الثالث للانتفاضة الفلسطينية الثانية (انتفاضة الأقصى)، وقعت حادثة استشهاد الطفل محمد الدرة ذي الاثني عشر عاما، من قبل نيران قوات الاحتلال الصهيوني عند مفترق نتساريم في قطاع غزة. كنت حينها في بداية عامي الدراسي الأخير للثانوية العامة في مدرسة الخوض الثانوية في مسقط. بعدها بأيام، وفي يوم الأربعاء الرابع من أكتوبر خرجت مع مجموعة من أصدقائي الطلبة للمشاركة في مسيرة طلابية نظمها طلاب جامعة السلطان قابوس الذين خرجوا على بكرة أبيهم (ما يقارب الـ25 ألف شخص)، وتوجهوا من مقر الجامعة إلى دوار الخوض سابقا في مسيرة سلمية غاضبة.
قبل وصول المسيرة إلى الدوار، هاجمت قوات مكافحة الشغب المسيرة بالغازات المسيلة للدموع والعصي والاعتقالات، وبدأت المناوشات التي استمرت لساعات عديدة.1 رغم أن هدف المظاهرة الرئيسي كان هو دعم الانتفاضة الفلسطينية والاحتجاج على المجازر التي تقوم بها قوات الاحتلال الصهيوني، إلا أن جزءاً كبيراً من الهتافات واللافتات كانت تطالب بشكل واضح وصريح بقطع العلاقات الرسمية مع “إسرائيل”، وإغلاق المكتب التجاري الإسرائيلي في مسقط، وهو ربما يكون السبب الرئيسي الذي يعود إلى شراسة قوات النظام في قمع المظاهرة المحتجة بالقوة. ربما أرادت إقفال الموضوع بالقوة حتى لا يسكب الزيت على النار وتبدأ الفضائح بالظهور للعلن.
ولاهتمامي بالقضية وبالنضال العربي ضد المحتل الصهيوني، فكنت دائما منغمسا في البحث عن العلاقات السرية بين النظام السلطاني والصهاينة إلى أن تمكنت في نوفمبر 2013 من العثور على وثيقة لشركة إسرائيلية كان أغلب أفرادها ضباط موساد سابقين، يعملون كمتعاقدين لدى الموانئ العمانية كخبراء أمنيين، وقد نشرتها في الفيسبوك ونشرتها صحيفة اليوم السابع المصرية (قامت بحذف الرابط لاحقاً). بعدها بيوم واحد فقط، وفي صبيحة يوم الخميس السابع من نوفمبر 2013 وأثناء رجوعي من صور تم اختطافي في الشارع السريع في مسقط من قبل أفراد جهاز الأمن الداخلي واقتيادي لمكان مجهول، والتحقيق معي بسبب المنشور بشكل خاصّ. ردة فعل السلطة على فضح التعامل السرّيّ مع الصهاينة يثبت أن العلاقة أقوى وأعمق، وأنها لا تودّ، وخصوصا من الشعب، الاعتراض على ذلك وستفرض ذلك بالقوة. 2
بعد سنوات طويلة، وفي يوم الخميس السابع من ديسمبر من عام 2017 وفي محاولة شجاعة وحيدة، خرج عماد الفارسي للتظاهر أمام السفارة الأميركية في مسقط احتجاجا على قرار ترامب باعتماد القدس كعاصمة موحدة لدولة الاحتلال “إسرائيل”. اعتقل عماد سريعا وأفرج عنه بعد ساعات بعد توقيعه على تعهد بعدم التظاهر مجددا.3 طبعا يمكنن االاستدلال على نقطتين رئيسيتين هنا، وهما أنّ حق التظاهر والتعبير عن الرأي في عمان مجرّم بقوة القانون والعصا والرصاص، والثانية دلالة رسوخ ومتانة العلاقة بين النظام العماني والنظام العنصري المحتل في فلسطين.
في أحد الأيام الباردة من أيام لندن المعتادة وأثناء رجوعي من الجامعة، قابلت مجموعة صغيرة من المراهقين الإنجليز.فقط عرفت أنهم يهود من “الكبياه” القبعة الصغيرة على رؤوسهم، ولم أعرهم اهتماما بما أنني أقطن في منطقة غالبيتها من الإنجليز اليهود. فجأة بدأوا بالصراخ علي: “العرب حثالة”، “الموت للعرب”، إرهابي”. ورغم أن الشارع كان به عدد من المارة والعائلات ولكني أجزم بأنني لمحت بعض الابتسامات والضحكات مباركة لموقف المراهقين في الصراخ العنصري علي. تيقنت بعدها أنه عندما يكون شعار الصهاينة هو “الموت للعرب” فإنهم لا يقصدون الفلسطينيين وحدهم بل بالفعل يقصدون جميع العرب بمن فيهم “أنا” وبالتالي وبالنسبة لهم العدو هو شخصية ذو خلفية واحدة مشتركة “العرب جميعا”.
بعد تلك الحادثة بأشهر وبالتحديد في أكتوبر من عام 2018 زار رئيس دولة الاحتلال بنيامين نتانياهو مسقط وسط حفاوة وترحيب حار واستقبال رسمي من قبل السلطان نفسه. خلال الاستقبال لا تكاد ترى أحدا دون ابتسامةيوشك خلالها فمه أن يتمزق من فرحه، ولا تجد مثلها أبدا في أي استقبال عدا استقبال البريطانيين. اشتعلت بعدها مواقع التواصل الاجتماعي العمانية بين غالبية منددة تحت هاشتاغ “#عمانيون_ضد_التطبيع”، وقلة قليلة تحاول جاهدة التبرير للزيارة.كان الغضب عارما، ولكن الخوف ما زال قائما لكي يخرج صارخا وغاضبا. تم ترويض الأسد واحتمى بقفص مواقع التواصل حتى تفرج. أما النظام السلطاني فلم يتوانَ في استخدام أساليبه التقليدية في قمع أي صوت معارض، وتم اعتقال أبرزنشطاء مواقع التواصل الاجتماعي المعارضين للزيارة وهم: سلطان المكتومي،عدي العميري،حاتم المالكي،هيثم المشايخ ومصعب الذهلي.4 – 5 تم اعتقالهم وحجزهم في زنازين انفرادية تابعة للقسم الخاص، لا لشيء فقط لموقفهم الشجاع في رفضهم استقبال سفاح عنصري على أراضيهم. طبعا هذا دليل آخر على الديكتاتورية في الحكم وعمق ومتانة العلاقة بين النظام السلطاني وبين دولة الاحتلال الصهيونية.
رغم الاختلاف الشاسع بين الموقف الشعبي وموقف نظام قابوس من العلاقة مع دولة الاحتلال الصهيوني كما أسلفنا، إلا أن زيارة نتانياهو العلنية أسهمت في كشف وفضح العلاقة القديمة السرية بين قابوس ودولة الاحتلال. وبما أن مدير الموساد يوسي كوهين كان ضمن الوفد، واتضح لاحقا أنه قام بعدة زيارات سابقة لمسقط للتجهيز للزيارة التي أتت على طلب من قابوس نفسه كما صرح نتانياهو بنفسه. وصرّح المسؤولون الإسرائيليون بأن العلاقات مع النظام في مسقط مهمة جدا لفتح الباب مع علاقات مباشرة أخرى مع دول خليجية أخرى كالإمارات وقطر، وعلى حسب قولهم فإنها ستمكنهم من فتح علاقات أوسع مع آخرين في المنطقة “وبرعاية كريمة من قابوس”.
والفضائح لم تكتف بشكل العلاقة الحالية، بل ذهبت إلى أبعد من ذلك، حين نشرت صحيفة يديعوت أحرونوت مقالاً للباحث الصهيوني رونين بيرغمان بعنوان (عُمان هي صلة إسرائيل في الشرق الأوسط) يتحدث فيه عن قدم العلاقات الدافئة بين النظامين، هذه العلاقات التي تعود إلى السبعينيات من القرن العشرين، عندما أسهمت دولة الاحتلال “إسرائيل” في مساعدة قابوس للقضاء على ثورة ظفار، وكما تحدث بالتفصيل عن زيارة ضابطين إسرائيليين يحملان جوازات سفر أجنبية إلى مسقط بعد أسابيع من قيام الثورة في إيران، وذلك في خريف 1979. أحدهم هو روفين ميرهاف، وكان ضابطا برتبة عالية في الموساد مهمته التعامل مع الأمور المتعلقة بالشرق الأوسط، وأصبح فيما بعد المدير العام لوزارة الخارجية “الإسرائيلية”. والآخر هو اللواء مناحيم (مندي) مارون عضو في هيئة الأركان العامة لجيش الدفاع “الإسرائيلي”. وبعد استضافتهما في فيلا فاخرة في مسقط، تم نقلهما لمقابلة السلطان قابوس على متن طائرة سلطانية لمكان خارج مسقط. خلال الرحلة عبر الاثنان عن إعجابهما بالطائرة، وخصوصا الحمام المصنوع من الذهب الخالص.وبعد مقابلة قابوس، زار الاثنان رأس مسندم المطل على مضيق هرمز. يقول ميرهاف في المقال إن “أهمية الاجتماع تكمن في مكان وجوده” وإن “هذه الروابط المباشرة، وإن كانت سرية، مع دولة عربية في موقع استراتيجي هي مهمة للغاية”.6
ونشرت صحيفة الجيروزالم بوست الصهيونية مقالاً مطولاً أيضاً بعنوان (العلاقة المتجددة لإسرائيل مع عمان) للباحث الصهيوني إيلي بوديه، تحدث فيه عن العلاقة الدافئة والطويلة بين نظام قابوس ودولة الاحتلال “إسرائيل” التي تعود إلى طلب قابوس بالاستعانة بالخبرات الصهيونية في قمع الثورة الشعبية الماركسية في ظفار، عبر مشورات وتوجيهات وحتى إمدادات أسلحة.7 كما ذكر فيها الكاتب عن أسباب قيام قابوس (هذه المرة) بالتسويق العلني لزيارة نتانياهو في مواجهة رفض شعبي عماني للتطبيع، ولكنه يطمع في خبرات إسرائيل الأمنية والعسكرية لمواجهة أية تحديات داخلية أو خارجية ضد نظامه السلطاني في مسقط، وأيضاً طمعاً في التأثير الإسرائيلي على السياسات الأمريكية بزعامة دونالد ترامب، كما صرح له مسؤولون “إسرائيليون” كانوا ضمن الوفد الزائر لمسقط.
ورغم أن الموقف الشعبي العُماني ما زال يرفض بشكل غالب أي شكل من أشكال التطبيع، إلا أن السياسة السلطانية استمرت في تأكيدها على الأخبار الصادرة من تل أبيب، أنها ستكون جسرا للتطبيع في المنطقة بعد تصريح يوسف بن علوي في المنتدى الاقتصادي العالمي بالأردن بتبديد مخاوف “إسرائيل” و”نريدهم أن يشعروا أنه لا توجد تهديدات لمستقبلهم، نحن علينا، وعلى الفلسطينيين أن يساعدوا الإسرائيليين على الخروج من هذا الخوف الذي يهددهم”.8
ولا يغيب عن أي باحث في الشأن العماني عند مطالعته للوثائق البريطانية لفترة الثمانينيات من القرن الماضي، خاصة تصريحات فأر السراديب (علوي) مع المسؤولين البريطانيين المعبرة عن “كرهه للحراك الفلسطيني” ضد الاحتلال، ووصفه لهم بأنهم “لا يفقهون في السياسة شيئاً”. وهذا الموقف يشاركه السلطان قابوس شخصيا في تصريحات عديدة تملؤها الوثائق البريطانية لتلك الفترة.
الموقف الرسمي للنظام السلطاني في مسقط من “إسرائيل” يعود إلى كرهه للحراكات الشعبية الراغبة في حريتها، وإلى المساعدة (ربما تكون الفارق) للبقاء في عرشه. وقد أسهمت دولة الاحتلال في مساعدة قابوس بالقضاء على ثورة ظفار، وقمع العمانيين، وذلك لتأمين عرشه فقط. أما العلاقة المتجددة الحالية فهي إلى جانب أخذ المشورة من نظام متمرس في قتل وقمع أبناء الأرض–فلسطين– لمطالبتهم بحريتهم وإنهاء الاحتلال في تكتيكات وأساليب وبرامج أمنية تؤمّن استمرار النظام السلطاني في الحكم، دون الأخذ في الاعتبار رأي الناس في عمان أو مصلحتهم. والاعتقالات تؤكّد كدليل واضح لا يقبل الشكّ، أنه لا يهتم النظام للموقف الشعبي من التطبيع، وأنه خارج الحسابات تماما في موقف يؤكد الديكتاتورية في طريقة الحكم بعمان. أما الحراك الشعبي فلا أعتقد أنه سيتوقف في مساندة الفلسطينيين في نضالهم ورفضهم لأي شكل من أشكال الاحتلال. الموقف الشعبي العُماني الرافض من التطبيع مع الاحتلال الصهيوني ليس له صلة بالدين أو الوطنية فقط كما يصور له في الغرب، وإنما هي عوامل مشتركة كالأرض والدم والأثنية والمصير المشترك.